بقلم: فضة الشارف
الإنزياح التركيبي والإسناد
1- مدخل:
تعد اللغة بمفرداتها وتراكيبها وبنائها الصوتي والمعجمي المادة الأولية التي تُشيد بها أركان الكتابة الإبداعية وروحها، فاللغة في الشعر محكومة بمعطيات التركيب والسياق؛ لأن اللغة الشعرية في صورتها الحية والنامية لا تتكون من أفعال وأسماء وحروف فحسب، بل هي وجود وكيان ينصهر في حرارة التجربة الشعرية المدفوعة بحوافز الذات الكاتبة لحظة الكتابة.
تظل حرارة التجربة الشعرية ماثلة في بناء النص تمنحه ديمومة البقاء، لكن ليس بعيداً عن تعالق الدال والمدلول اللغويين، فالمتلقي يتعامل مع لغة داخل اللغة ذاتها، لغة تسهم في بناء النص فتأخذه من سياق المألوف إلى غير المألوف، ومن المطلق إلى المحدد؛ لتتحقق رؤيا الشاعر في لغة هو مبدعها؛ وبذلك يتحقق «نوع من التعالي على اللغة عموماً، فهناك ظواهر محددة تؤكد هذا التعالي من ناحية، وتدفع الخطاب إلى دائرة الغموض من ناحية أخرى، وبهذا يشيع في الخطاب الحداثي انقطاع العلاقات الدلالية بين التراكيب»([1]) نسيج من البناء اللغوي يطالب القارئ بملء فراغاته.
العلاقة بين الكاتب ولغته علاقة منمازة من حيث امتلاك الكاتب لهاته اللغة، ولمكوناتها الجزئية التي يمكن أن تكون في السياق الذي يجعلها الكاتب فيه ذات سمة شعرية، ذلك أن النص تجسيد لغوي لكائن، وانفتاح خارج اللغة؛ كون النص بناء ينوجد عبر العلاقة الجدلية بين الحضور والغياب، من خلال منظومة البناء الفني المتحقق عبر ثنائية الانزياح والانسجام، ذاك ما نحن مطالبون بمعاينته، وبفك مغاليقه في شعر عبدالمنعم المحجوب؛ لنقف على فاعلية البناء اللغوي في إنتاج النص الشعري، لاسيما قصيدة النثر التي تُعد اللغة عمقها ومداها.
2- الانزياح:
توجد مسافة قابلة للقراءة بين المعنى اللغوي للانزياح، وبين البعد الأدبي له، إذ نجد الانزياح في اللغة ماثلاً في فعل نزح: نَزَح الشيءُ ينزاحُ نَزْحاً ونُزوحاً: بَعُدَ. وشيءٌ نَزُحٌ ونزوح: نازحٌ، ونَزَحت الدارُ فهي تَنزحُ نزوحاً إذا بَعُدَتْ وقوم منازيحُ، وبلد نازحٌ، ووصل نازح بعيد، وقد نزح بفلان إذا بعد عن دياره غيبة بعيدة.([2])
أما من الناحية الأدبية فإننا سنجد دقة أكبر في تحديد المصطلح، إذ يُعد الانزياح خاصية من خصائص اللغة الشعرية، فهو توظيف شخصي يخرج به الكاتب عن العرف اللغوي، وينتج عن هذا الخروج تحقيق أهم تلك المكونات الأسلوبية التي تتخذ طابعاً تركيبياً وإسنادياً وآخر دلالياً.([3])
فالانزياح هو الأسلوب الأمثل الذي يجب أن يتبناه كل شاعر للخروج من الدائرة المغلقة، والنمطية المستهلكة، إلى دائرة مغايرة مفتوحة، تتسم بمنهجية يتبعها الشاعر في كتابة نصوصه الشعرية، والتي ستكون مترعة بألفاظ وعبارات لها أبعاد تجسد طابعها اللغُّوي، وهذا ما سنتطرق إليه في قراءة نصوص عبدالمنعم المحجوب؛ لنرى مدى تجلي هذا الموضوع فيها.
1.2- الانزياح التركيبي:
تقوم هذه الظاهرة على خرق القوانين المعيارية للنحو بغية الوصول إلى تحقيق سمات شعرية جديدة تكتسب اللغة من خلالها «مدلولاً جديداً بفضل سياقها الجديد»([4]) الذي سيحدثه هذا الخرق، إذ إن الانزياح يتجلى في اختراق عدة قيود لغوية من صيغة تنتهك قاعدة خاصة([5]) تكسر قوانين اللغة المعيارية التي تضمنها، إذ إن الانزياح يُعد «انحرافاً عن الاستخدام العادي للغة، سواء أكان ذلك عن طريق استعمال الكلمة في غير ما وضعت له، أم إسنادها إلى ما ينبغي أن تسند إليه في النظام المألوف للغة».([6])
إن اكتشاف أسرار هذا المصطلح الذي يحدثه الشاعر في نصوصه تبرز فاعلية الانزياح التركيبي، إذ يحتاج المتلقي إلى قدر من التخّييل ليتمكن من مواجهتها وإدراك نواتجها([7]) التركيبية اللغوية وذلك من حيث ارتباطاتها الدلالية.
تماشياً مع طبيعة هذا البحث القائم على متابعة أشكال الانزياح التركيبي الواردة في قصائد عبدالمنعم المحجوب سنعمل في هذا المستوى على دراسة هذه الظاهرة بوصفها ملمحاً مهماً من ملامح الشعرية، وسيتم تناول هذه الظاهرة من خلال الوقوف «بين المفردات والقواعد التركيبية التي تصب فيها محكومة بقواعد في أذهان المتكلمين تتعلق بخصائص المفردات ومجالاتها وطريقة وضعها في علاقات نحوية كالإسناد والنعت والإضافة وغيرها» ([8]). إذ تندرج هذه الدراسة تحت أربع علاقات تتمثل في الآتي:
1.1.2- الإسناد الاسمي:
الانزياح الإسنادي في حد ذاته مصطلحٌ بلاغي يقصد به «ربط لفظ بلفظ آخر كما تربط الصفة بالموصوف» ([9])، إذ يعد ركيزة مهمة في اللغة الشعرية، فالجملة تتكون من ركنين أساسيين هما المسند والمسند إليه، فالجملة الاسمية هي كل جملة تصدرت باسم ووضعت لإفادة ثبوت المسند للمسند إليه، فالمسند «هو الحكم الذي يعطى لاسم ما، ويكون كالصفة اللازمة أو كالإخبار عنه؛ فهو وصف يُسند إلى الاسم» ([10])، والمسند إليه هو «بمنزلة المحكوم عليه، ويكون في الجملة مبتدأ أو فاعلاً» ([11])، ويحدث ذلك باستمرار القرائن الدالة عليه، أو الثبوت والاستمرار، هذا إذا لم يكن في خبر الجملة الاسمية فعل، فإذا كان خبرها فعلاً فإنها تفيد لفت المتلقي إلى حدوث الفعل محدداً في زمن ما، ويتشكل هذا النمط من العلاقات الإسنادية في الشعر، وخلق حالة من التنافر وعدم الاتساق بين المبتدأ والخبر الذين يمثلان الركنيين الأساسيين للجملة الاسمية القائمة في الأصل على أساس التجانس الدلالي بينهما، ويتطلب المسند الاسم «أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئاً بعد شيء». ([12])
انطلاقاً من التصورات النظرية السابقة نعاين نصوص عبدالمنعم المحجوب؛ لنلاحظ فيها هذا النوع من الإسناد الذي أسهم في بنائها وإنتاج دلالتها حيث نقرأ:
الليلُ يرتدي النهارَ
وهذا يتسلّلُ من دورةِ العناصرِ.([13])
نلحظ الإسناد الاسمي في هذا المقطع، فكلمة «الليل» المسند إليه تستتبعها جملة من التوقعات الإسنادية مثل: الليل مظلم، ولكن متممها الإسنادي خالف أفق التوقع بانزياحه نحو اتجاه آخر وهو «يرتدي». فالارتداء جعلت الذات الكاتبة علاقته بين المسند والمسند إليه، وهذه علاقة غير طبيعية أحدثت بذلك فجوة، أدت بدورها إلى إطلاق الطاقة الشعرية، حيث أثّر الانزياح المفعول به (النَّهار)، والمغزى من ذلك هو دفع القارئ إلى جملة من التوقعات والوقوف على هذا الأمر وتأمله، وجعله مسهماً في إعادة بناء النص مرة أخرى، فالذات الكاتبة جعلت الليل يقوم بفعل إنساني وهو «الارتداء»، في حين جعلت النهار شيئاً يرتدى، وهو يجّسد بناءً كلياً أرادت الذات الكاتبة أن يتجلى من خلال البناء النصي، فنظرية الانزياح تكمن في «خرق الشعر لقانون اللغة»([14]) وإعادة بنائها على مستوى أفضل، وهذا الإسناد يحمل قيمة جمالية توحي بإبداع الشاعر.
إن علاقة الليل بالنَّهار هي علاقة المذكر بالمؤنث، وهي علاقة تكاملية، فلا ليل من غير نهار، ولا نهار من دون ليل، فهما يشكلان حركة تعاقبية بينهما، فالليل حركته للأسفل وهي حركة هابطة، والنَّهار حركته للأعلى وهي حركة تصاعدية. فهذه العلاقة الناتجة كعلاقة الذكر بالأنثى، قال تعالى: «هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن» ([15]). ففي الآية «كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه»([16])، فالليل عكس النهار، ومقابلٌ له في الوقت ذاته، والذكر ضد الأنثى، لكنهما مكملان لبعضهما، فإسناد الارتداء إلى الليل أسهم في خلق دلالات جديدة من خلال هذا الانزياح، فاللغة المنزاحة «تكون محكمة بقانون يعيد تأويلها مرة أخرى». ([17])
إن الشاعر يصور عبر هذه اللاملاءمة النصية بين المبتدأ (الاسم) والخبر (الجملة الفعلية) صورة أشبه ما تكون بالمستحيلة، إذ لعب الخيال دوراً في رسم هذه الصورة لليل، لأن هذا «الارتداء» الذي وظفه الشاعر لخرق نظام اللغة يعلن عن رغبته في كسر الواقع من خلال «الارتداء»، فهو يبحث عن شيء يرتدى، ليصل إلى حشده لمجموعة من الصور اللامتلائمة مع المسند إليه.
هكذا يستمر تناسل الصور كلما تقدمنا في قراءة النص: «يتسلل من دورة العناصر»؛ ليوحي بخلاصة ما يريده، فالتسلل فعل إنساني أيضاً، أراد به الشاعر التعبير عن حالته النفسية التي يمر بها؛ ليجعل ذلك الظلام يتسلل إلى الذات الكاتبة، فيرتدي الضوء النهار القابع في أعماقه، وكأن ذلك الأسى يتجلى لتحل محله السكينة والاطمئنان.
بذلك استطاعت الذات الكاتبة أن تحدث رؤية جديدة للغة الشعرية، فسرعان ما نزعت من عناصرها أبعادها الواقعية؛ لتحيل السامع إلى دلالات أعمق من ذلك فيقوم الشاعر عبر وعيه الشعري «بتشكيل صورة ذهنية من المقومات الحسية الإدراكية التي يكون قد وقف عليها. فهو ينشئ صورة ذهنية غير واقعية من مجموع المدركات الحسية الكثيرة التي سبق له تحصيلها. وهو يقيم تلك الصور التخيلية بالانتقاء من بين الصور الإدراكية الآتية التي يقع عليها وقت أعمال خياله في الموقف» ([18]). فكأن الشاعر ينقل المتلقي عبر صور تخيلية لتؤثر في نفسيته ويصبح بذلك مسهماً في بناء النص.
الأمر الذي وجد ماثلاً في جل نصوص الشاعر عبدالمنعم المحجوب، حتى إنه بات بمثابة الظاهرة الأسلوبية في شعره، وللتحقق من صحة هذا الظن سنقوم بتحليل نصوص أُخرى تقع في السياق ذاته؛ لتكون أمثلة نؤيد بها ما ذهبنا إليه؛ فتكون حجة لكل قراءة، إذ يكتب الشاعر:
كلمات تشاغب البياض
لكنها دائماً تنشدّ إليه.([19])
إن معاينة البيتين السابقين تقدم نموذجاً لغوياً متكاملاً من حيث البناء اللغوي، ولكنها تشكل مفارقة من حيث الإسناد، لأن فعل المشاغبة لا يمكن أن يسند في لغة الخطاب العادي إلى الكلمات، فوضعنا الشاعر هنا في أجواء إسنادية غير معهودة؛ لأن هذا الفعل ليس من جنس الفاعل، لكن الشاعر وظفها بالصيغة الشعرية التي تستوقف القارئ لتنادي عليه على أنَّها شعرٌ، وتتجلى الصيغة الشعرية «في كون الكلمة تدرك بوصفها كلمة وليست مجرد بديل عن الشيء المسمى، ولا كانبثاق لانفعال وتتجلى في كون الكلمات وتركيبها ودلالتها وشكلها الخارجي والداخلي ليست مجرد إمارات مختلفة عن الواقع، بل لها وزنها الخاص وقيمتها الخاصة» ([20])، هذه هي المديات القريبة لدلالة الانزياح في هذا النص.
بيد أن إعمال النظر في هذا البناء يقدم نموذجاً دلالياً تحقق بفعل الانزياح حيث «الكلمات تشاغب البياض» فقد منح الشاعر للكلمات فعل «تشاغب» والشغب ليس من طبيعة الكلمات، فمن خلال هذا الإسناد خرقت الذات الكاتبة نظام اللغة، وهذا التنافر بين مكونات الجملة الشعرية جدّد فاعلية اللغة بمجيء الخبر جملة فعلية، إذ أضفت على الكلمات التجدد، وكأن الذات الكاتبة تجد الكتابة المتنفس الوحيد الذي تلجأ إليه، وهذه المشاغبة تجعل الكلمات مشدودة إلى البياض؛ لتكون العلائق صراعية بين محاولة الكتابة وفعل إنجازها، هذا ما يكون دائماً في الكتابة الإبداعية التي تنشدّ فيها الأضداد إلى بعضها: لا مهادنة، ولا مسالمة، بل هو صراع ذاك ما يشي به الانزياح المتجسد عبر المسند والمسند إليه، بمعنى أن الشاعر استطاع اختراق النظام الذي يضبط الجملة الاسمية محققاً بذلك الانزياح الإسنادي، حيث تعلن الكتابة الشعرية في نصوصه هذه «عن فعل إنجازها المرتهن بتشوفات الذات الكاتبة وتطلعاتها الوامضة كلحظة تتقدم لانكشاف الداخل واستجلاب ما كان هناك لائذاً في عتمات خريطة الصّمت والبوح معاً». ([21])
ذاك ما يمكن تفعيله أكثر عبر قراءة النص التالي الذي نجد فيه مغايرة للسائد والمألوف في لغة الخطاب أيضاً:
الصمتُ منصتاً لنايهِ..
القمرُ منشغلاً..
زهرةُ النّبعِ تتأجّجُ
رحمٌ حانٍ
أوضاعٌ يأخذها القلب
قابلاً هذا الاسم وذاك.([22])
لقد عمّد الشاعر هذه المساحة بمداد التخيّل؛ ليبني نصوصه قائمة على احتمال القراءة؛ لأن كل بيت من أبيات هذا النص يتطلب تدخلاً لإعادة بناء اللغة فيه، فالبيت الأول والثاني والرابع والخامس بحاجة إلى مبتدأ محذوف تقديره: هذا الصمت، هذا القمرُ، هذا رحمٌ، هذه أوضاعٌ، وبعد إعادة البنى هذه تقدم النصوص ذاتها مرتهنة بفعل القراءة أيضاً؛ لأن البناء اللغوي مازال قائماً على الانزياح يعين المسند والمسند إليه، بين الخبر ومبتدئه المحذوف. إذ إن الصمت لا يمكن أن يكون منصتاً لنايه، فمن أين له هذا الناي إلا إذا كان أنين الروح الذي تنصهر فيه الأحاسيس والمشاعر في بوتقة الوجع الشعري؟!
لعلنا نجد الانزياح ذاته في البيت الثاني (القمر منشغلاً) و مما يزيد هذا التأمل وقفة نقاط الحذف التي تركها الشاعر للقارئ؛ ليقول بماذا انشغل هذا القمر الذي لا يكون الإسناد إليه صحيحاً بمقاييس اللغة المعيارية إلا على سبيل المجاز الذي يخلق فجوة: مسافة توتر بين الكتابة والقراءة؛ ليوسم النص بالشعرية ذاك ما يذهب إليه النقد الحديث.([23])
لكن الشاعر لا يخضع للتدفق الشعري بوتيرة واحدة، بل يجعل في البيت الثالث استراحة بنائية ودلالية حينما قال «زهرة النبع تتأجج»، بيد أنه سرعان ما يستأنف هذا الرحيل الشعري فيقول «رحم حانٍ» والحنو لا يكون للرحم، وبذلك يستوقف هذا الإسناد عين المتلقي التي تذهب إلى قراءة البيتين الأخيرين في هذا النص؛ لتتجلى الدلالة الكلية له عبر مجموع أبياته، إذ نقرأ: «أوضاع يأخذها القلب / قابلاً هذا الاسم وذاك» وكأن الشاعر أراد أن يجمع العناصر البانية لهذا النص كلها فيكون موضعها القلب «معمدّة على أرضٍ معنويّةٍ مشتركة قابلة لإعادة الإنتاج» ([24]) بدءاً من هذا الصمت مروراً إلى القمر ثم زهرة النبع وصولاً إلى هذا الرحم الحاني؛ لتبتنى الصورة الكليانية للدلالة الشعرية التي لم تولد إلا عبر الانزياح.
2.1.2- الإسناد الفعلي:
الجملة الفعلية إما لازمة أو متعدية، تتشكل الأولى من فعل وفاعل، في حين تتشكل الثانية من فعل وفاعل ومفعول به، ولكي تؤدي هذه الجملة وظيفتها على مستوى الخطاب العادي تستوجب الملاءمة التامة بين العناصر المشكلة لها، فإذا «أسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك أن تفيد وقوعه منه لا أن تفيد وجوده نفسه فقط، كذلك إذا عديته إلى مفعول كان غرضك أن تفيد وقوعه عليه لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط» ([25])، وبذلك ينبغي للفاعل وهو المسند إليه أن يندرج في سياق تناله دلالة المسند وهو الفعل، لكن الوظيفة الشعرية تستدعي نوعاً من التباعد واللاتجانس بين مكونات الجملة الشعرية.
يبدو أن عبدالمنعم المحجوب قد حقَّق لنصه هذا المستوى من الشعرية من خلال خرقه لنظام الجملة الفعلية، إذ يكتنفه غموض شفيف؛ لأنه منشق من أعماق الذات الكاتبة التي نحس عند قراءة هذا النص، وكأنها أصوات تناغم أصداءها في هذه الأعماق. هذه هي استراتيجية كتابة قصيدة النثر التي تبنى بدءاً – في شعر عبدالمنعم المحجوب في الأقل – على تقنية الانزياح، وهو موضوع اشتغالنا الذي نحاول أن نفعله في النصوص التالية، ونقرأ:
أشربُ
لأَرتوي سراباً
أُواصلُ
لأَسقي الآخرَ سرابي
أَحلمُ
لئِلا يخدعني سرابُ الآخرِ
أُواصلُ
لأُخدَع بسرابي.([26])
نجد الشاعر قد فعّل نصه بنائياً استناداً إلى إمكانية اللغة الشعرية التي يكتب بها؛ على اعتبار أن «الشاعر بقوله لا بتفكيره وإحساسه، إنه خالق كلمات، وليس خالق أفكار، وترجع عبقرية كلها إلى الإبداع اللغُّوي». ([27])
من هنا يدعونا البناء اللغّوي لمعاينة النص عبر بنائه المتشح بالانزياح الذي يحقق شعرية النص خالقاً للفجوة: مسافة التوتر، «لأنها تمثل تعاملاً مع المادة الصوتية بطريقة تركيبية تخرجها عن الطبيعة الحرة القائمة التي تمتلكها في الاستخدام النثري لها، وتضعها في بنية ينشأ فيما بينها وبين الوجود الحر للغة النثر، فجوة تمنحها تميزها» ([28]). وهو ما نقرؤه في الجملة الشعرية الآتية:
أشربُ
لأَرتوي سراباً
فقد أسند الفعل أشربُ إلى السراب، وبذلك يأخذنا هذا البناء حيث سلطة عنوان المجموعة الشعرية (كتاب الوهم) فالجملة قائمة هنا على ما يوحي به السراب من دلالات نصية تقوم «بدور كبير في اختيار العلاقات النحوية وترتيبها» ([29])؛ لأنه هو البؤرة، إذ لا يمكن الارتواء به، لأنه باعثٌ كوعي التوهم؛ وبذلك يتساءل القارئ كيف تشرب الذات الكاتبة سراباً لترتوي، إنَّه أمرٌ بعيد المنال، ولا يتحقق إلا بالوهم الذي جاء دلالةً لبناء لغوي قائم على التنافر بين مكونات الجملة الشعرية.
بيد أن الذات الكاتبة لا تتوقف عند حدود هذا الوهم، بل تواصل مشوارها لتجسّر العلاقة بين الأنا والسوى، وبذلك يحدث «امتزاج الأنا والآخر السّابق عليها، ليكون في الأخير نصّاً جديداً إلى جانب النصوص الإبداعية الأخرى» ([30]) حيث مازال الوهم متجلياً، فالذات التي ارتوت بالسراب ولمْ ترتوِ، فكيف إذن تسقي الآخر من هذا السراب، هكذا تتجدد فاعلية اللغة عبر فاعلية الانزياح.
إن مواصلة الرحلة في قراءة النص توصلنا إلى أن الأمر في عمقه ومحتواه لا بكونه حلماً، لكنه حلم قائم على التناقض بين الوعي واللاوعي، أي «أن اللاوعي حالة متغذّية معطيات الوعي، صائرة بتكيّفه، متحورّة بأشكاله» ([31]). فهو حلم متميّز بفرادته لأنه يصدر عن تسليم مضمر بإمكانيات تقاطعه؛ ولذلك «ما من شاعر إلا وهو يقيم محاورة مع الموجودات جميعها لا ينزلق عليها بل يحاورها ويحاور الكون فيها» ([32])، واستمرار المحاورة على هذا النحو كفيل وحده بأن يضع الذات الكاتبة على عتبات الغياب والحضور، وكأنهما يعيشان حالة صراع: «أحلم / لِئلا يخدعني سرابُ الآخر». هكذا إذن تتجلى حالة الصراع بين الأنا والسوى، بين الوعي واللاوعي بين الذات والموضوع: «أواصل / لأخدع بسرابي».
نحن أمام حالة سايكولوجية تحياها الذات الكاتبة، وهي تكتب نصها المترع بالعلائق البنائية اللغوية التي تشي بفعل مركب للانزياح، وبذلك يكون هذا البناء اللغوي معبراً للدلالة النصية التي لا يمكن الوصول إليها إلا بعد تفكيك هذا البناء، وهذه مهمة تناط عادة بالقارئ؛ ليلتقي وكاتب النص في فضاء النص الشعري.
بناء على ما تقدم نجد أن اهتمام الشاعر ينصب على «مجموع الوحدات التي يتألف النص منها بالإضافة إلى مجموع العلاقات القائمة بين هذه الوحدات» ([33]) تلك الجينات اللغوية نقرؤها في:
أَذهبُ منّي إليَّ
ولا أَصلُ
«الظلماءُ ضاحيةٌ
والعينُ هاجعةٌ
والروح معروجٌ بِهِ» ([34])
ينداف هذا النص بالسؤال الذي يطرح باستمرار كيف تكتب القصيدة، وبالجواب الذي يقول: إنَّها تكتب «عن طريق الامتلاء بالعالم والحضور في تفاصيله، وتجاوز النظرة النفعية الفجّة التي تأسر العالم داخل أنسجة البعد الواحد وتخلّفه شكلاً للفراغ». ([35])
بهذا تتطلب كتابة القصيدة إغماض العين للنظر برؤيا القلب لمعاينة دواخل الذات، لأن الكتابة الشعرية هي إنصات لأنين الداخل، هذا ما يشي به هذا النص حيث الذات الكاتبة تغادر ذاتها إلى ذاتها لكنها لا تصل. إن فعل البناء اللغوي الذي يتجلى عبره الإسناد الفعلي يقع في البيت الأول: (أذهب مني إليَّ). هذا بناء لم تألفه اللغة العادية (لغة التواصل والتخاطب اليومي) بذلك يعد هذا البناء بناءً فنياً يتجلى عبره الانزياح، فعدم الوصول الماثل في عبارة (ولا أصل) هو نتيجة طبيعية لتصور غير طبيعي تجلى في البيت الأول؛ حيث الذهاب من الذات إليها لا يتحقق إلا من خلال التعالق بين الوعي واللاوعي اللذين يغذي أحدهما الآخر. إنه معطى نفسي وهو ما تُنجز في ضوئه الكتابة الشعرية، فتحقق دلالاتها بالقراءة المشفوعة بفعل الترقب. فهو بذلك يسند فعل الذهاب إلى الفاعل الذي يذهب إلى ذاته، هو الفاعل والمفعول به في الآن ذاته، بذلك يخرق نظام اللغة المعيارية ويهبها الصورة الحركية المغلقة التي تنشأ من التعالق بين معطيات الوعي واللاوعي. محاولاً بذلك أن يمهد لعتبات الذات الكاتبة والإفصاح عمّا يجول بداخلها.
يبدو أن عبدالمنعم المحجوب قد حقق لنصه مستوى من سمة الشعرية من خلال خرقه لنظام الجملة الفعلية، فهو كثيراً ما يسند الفعل التام إلى فاعل لا يتوافق معه دلالياً، أو يعديه إلى مفعول تناله دلالة ذلك الفعل «والذي يجب العمل عليه أن الفعل لا يتصور فيها أن يتناول ذات شيء كما يتصور في الاسم؛ ولكن شأن الفعل أن يثبت المعنى الذي اشتق منه للشيء في الزمان الذي تدل صيغته عليه…، وإذا كان كذلك فإذا استعير الفعل لما ليس له في الأصل فإنهُ يُثبتُ باستعارته له وصفاً هو شبيه بالمعنى الذي ذلك الفعل مشتق منه»([36]). وبهذا يدخلنا البناء النصي في تجليات الذات الكاتبة التي تبدو قوة باطنية قادرة على استدعاء المغيّب، وإخضاعه لشروطها المطروحة بكل اعتبار تام خارج حدودها، فهو بذلك يقول:
أَقِف حيثُ لا أَينَ
كلمَّا انتبهتُ رأَيتُ إِليّ.([37])
تبدو الفجوة واسعة في قول الشاعر (أقف حيث لا أين) فقد أسند دلالياً الفعل أقف الذي يثير فينا معاني الارتياح والتأمل إلى المجهول، باعث الحيرة والهرب من الواقع الذي يعيش فيه، وهذا الإسناد في حقيقته خارج عن نطاق محور الاختيار الذي يفترض أن تصاحبه دلالة الفعل وقف! التي تحمل دلالة الاختيار والرغبة. وهذا الخرق لنظام اللغة يصور تشتت الذات الكاتبة وقلقها حيث إنها تقف وسط الحيرة التي يشي بها استخدام الشاعر لتعدية الفعل شبه الجملة (حيث) التي توحي بوجود الشاعر أمام مرآة تحيط به من كل جوانبه، كلّما انتبه رأى نفسه فيها، إذ إن الشاعر ركز على تلك الضمائر التي نجدها في المقطع الثاني من هذا النص:
راءٍ ومرئيٌّ
ها – أنا – ذا
ها – أنا – ذاك
حدّانِ للكلامِ
لا يصحُّ إثباتهما
إِلاّ بالصمت.([38])
حيث أكسبها هوية جديدة تنزاح عن دلالتها لدلالات لا تألفها الذاكرة، وإذا عدنا للبحث عن حقيقة الشخص الذي اكتسب الفاعلية في الضمير (أنا) وأسماء الإشارة (ذا – ذاك) العائدة عليه يجعلنا نتساءل حول حقيقة الوقوف: هل كان وقوفاً عادياً أم أن هذا الفعل انزاح عن دلالته التي لا يصح إثباتها في «فوضى التأمل المفضي إلى العزلة المسافرة إلى فضاء التيّه، والذي يفضي هو الآخر إلى الغياب الباحث عن وجوده في أحضان الآخر».([39])
لقد استطاع الشاعر من خلال هذا الإسناد أن يفتح أفق الدلالات أمام القارئ؛ لنستطيع القول: إن عبدالمنعم المحجوب يستخدم اللغة استخداماً خاصاً، فقد أعاد صهر اللغة؛ لتنتج دلالات شعرية تطبع في النص دلالات تمتد على امتداد النص. فالانزياحات تتركز في التراكيب والجمل لتجعل القارئ يعيد استجلاء النص؛ لينتج بالنهاية نصاً جديداً منزاحاً بدلالته عن النص الأول.
________________________________________
[1]– محمد عبدالمطلب. أدوات الخطاب الشعري المعاصر، صص: 47-48.
[2]– انظر: ابن منظور. لسان العرب مادة (ن.ز.ح). ولا يختلف المعجم الوسيط، ولا القاموس المحيط عن لسان العرب في التأكيد على دلالته عند التعرض للفعل (نزح) الذي هو من عائلته.
[3]– انظر: خيرة حمرة العين. شعرية الانزياح، ص: 143. 142.
[4]– أحمد الطريسي أعراب. الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث، ص: 63.
[5]– انظر: جون كوهن. النظرية الشعرية : بناء لغة الشعر، اللغة العليا، ص: 134.
[6]– صلاح فضل. بلاغة الخطاب، ص: 248.
[7]– انظر: محمد عبدالمطلب. مناورات الشعرية، ص: 64.
[8]– محمد حماسه عبداللطيف. النحو والدلالة، ص: 95.
[9]– ديريزه سقال. علم البيان بين النظريات والأصول، ص: 173.
[10]– المرجع السابق، ص: 79.
[11]– المرجع السابق، ص: 65.
[12]– عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز، ص: 146.
[13]– عبدالمنعم المحجوب. عزيف، ص: 41.
[14]– حسن ناظم. مفاهيم شعرية، ص: 115.
[15]– سورة البقرة، الآية: 187.
[16]– أبو عبدالله الأنصاري القرطبي. الجامع لأحكام القرآن، ص: 183.
[17]– حسن ناظم. مرجع سابق، ص: 115.
[18]– يوسف ميخائيل أسعد. سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب، ص: 172.
[19]– عبدالمنعم المحجوب. عزيف: ص 65.
[20]– رومان ياكبسون. قضايا الشعرية، ترجمة: محمد الولي، ص: 19.
[21]– محمد عبدالرضا شياع. تجليات الذات الكاتبة في حرارة السؤال الشعري، ص: 65.
[22]– عبدالمنعم المحجوب. عزيف، ص: 39.
[23]– انظر: كمال أبوديب. في الشعرية، ص: 85.
[24]– محمد مفتاح. مجهول البيان، ص: 105.
[25]– مجدي فتحي المسد. الإيضاح في علوم البلاغة، ص: 70- 71.
[26]– عبدالمنعم المحجوب. كتاب الوهم، ص:6.
[27]– جون كوهن. بنية اللغة الشعرية، ص:40.
[28]– كما أبوديب. مرجع سابق، ص: 89.
[29]– عدنان حسين. مرجع سابق، ص: 192.
[30]– محمد طه حسين. التناص وإشكالية المقاربة بين النصوص، ص: 30.
[31]– ريكان إبراهيم. نقد الشعر من المنظور النفسي، ص: 129.
[32]– محمد لطفي اليوسفي. المتاهات والتلاشي، ص: 102.
[33]– منذر عياشي. الكتابة الثانية وفاتحة المتعة، ص: 123.
[34]– عبدالمنعم المحجوب. كتاب الوهم، ص: 5، (تضمين من الحسين بن مطير، والبيت في الأصل: زارتكَ مُهْمَةٌ والظلماءُ ضاحيةٌ والعينُ هاجعةٌ والروحُ معروجُ).
[35]– محمد لطفي اليوسفي. لحظة المكاشفة الشعرية، ص:184.
[36]– عبدالقاهر الجرجاني. أسرار البلاغة، ص: 48.
[37]– عبدالمنعم المحجوب. كتاب الوهم، ص: 36.
[38]– المصدر السابق، ص:36.
[39]– محمد عبدالرضا شياع. تجليات الذات الكاتبة في حرارة السؤال الشعري، ص: 71.