يونس شعبان الفنادي
تجمع (مناكفاتُ الربع الأخير)(1) الصادرة للأديب جمعة بوكليب عن دار الفرجاني كتابات رشيقة يمكن نسبة بعض قصصها إلى أدب السيرة الذاتية الذي يتقمص فيه الكاتب دور البطل، متخفياً أحياناً وراء شخصية السارد لمصاحبة القاريء في جولاتٍ يعانق فيها رحلات متعددة عبر أزمنة مختلفة، لاستعراض بعض جوانبه الحياتية الخاصة. وكتابات أخرى يمكن تصنيفها نصوصاً تندرج تحت منهج القص الوصفي النثري، إلاّ أننا في جميع الأحوال نتفق على أن هذه المناكفات قد نُسجت بلغة سردية رقيقة، زاخرة وثرية بالكثير من العذوبة والأساليب الفنية والتعبيرية الإيحائية المرهفة، وإيقاعٍ يُمكِّنها من اختراق وجدان القاريء بأريحية، والتحليق في فضاءات روحه بكل بهجة وإمتاع.
ولعل أول ما تؤكده هذه الكتابات وترسخه فينا هو تأصلُ وتجذرُ حالة الحبّ والعشق للحياة، والنهل من فيوض جمالياتها التي تطوق وتغمر الكيان الإنساني لدى الكاتب جمعة بوكليب عقلياً وعاطفياً، وإيمانه الموضوعي بالواقعي الراهن وحرصه على أهمية تسجيله. ومن خلال ذلك نجده قد تمكن -نسبياً- من تجاوز الماضي التعيس الذي سرق منه بهجة عمره وريعان شبابه حين قذف به وراء القضبان سنوات طويلة، ورماه لسجان جاهل وحقود لا يفرق بين تغريد العصافير الوادعة ونعيق غربان السوء، وهذا يتجسد واضحاً في علاقة الأديب جمعة بوكليب بربوع الوطن كافةً المتأسسة على الانتماء للهوية الليبية، وخصوصية الارتباط الوجداني بمدينة طرابلس المستوطنة وجدانه الحسِّي كما نسجها في نصه (خمسُ حكاياتٍ من طرابلس)(2) وإشاراته المتعددة إلى بحرها ونوارسها والمراكب والسفر ومرارة وعذابات الغربة والابتعاد عنها والحنين والاشتياق والرجوع إليها، وغيرها من المحطات التي يتعاظم فيها التلاحم الوجداني بالمكان الطرابلسي سواء التاريخي العريق أو الحديث المعاصر، وعقد مقارنات بين ماضيه البهي المستوطن ذاكرته مع حاضره البائس، ومناقشة ونقد التبدلات والتغيرات الطارئة.
كما تكشف لنا هذه المناكفات أن بداية العلاقة الحبيِّة التأملية للأديب جمعة بوكليب بتاريخ وجمال ومكانة معشوقته طرابلس قد نسجت وراء القضبان إبان فترة سجنه، كما يقول حرفياً في حكايته الرابعة (قبل تجربة السجن، لم أعـر طرابلس أي أهمية، بل واعتبرتها مدينةً مأهولةً بضجرٍ لا يطاق، وسجناً كبيراً تقف أسواره حائلاً بيني وبين تحقق حلمي في الطيران في فضاء الله.)(3)، ويضيف متابعاً وموضحاً شارحاً ما طرأ عليه من تغيرات (في السجن، بعد انجلاء رعب الأسابيع والشهور الأولى، بدأتُ، تدريجياً، في محاولة السيطرة على نبض قلبي، ومحاولة إعادة التوازن إلى روحي. في تلك الفترة، بدأتْ خيوطُ علاقةٍ جديدةٍ، مختلفةٍ، تنسج بأيادٍ خفية بيني وبين طرابلس. وشعرتُ لأول مرة بافتقادها، وكنتُ كلما انتابتني حالة من حزن أو كآبة أفرُّ إليها في يقظتي وأحلامي…)(4)
ومن خلال ذلك يمكننا التأكيد على أن (مناكفات الربع الأخير) تحمل بين طياتها شذرات من سيرة ذاتية شخصية بكل ما فيها من مرارة الماضي، وتطلعاتٍ وأحلامٍ بالآتي، يحاول الكاتب جاهداً اللحاق بها لاغتنام ما يستطيع منها قبل رحيل العمر الذي يترقبه بكل واقعية، ونفسٍّ يقينة مؤمنة، ويسجلها بسؤاله التعجبي مخاطباً مدينته طرابلس ومناجياً ذاته الفكرية (هل تبقتْ لي طريق؟)(5)
أما من الناحية الأسلوبية الفنية فنجد أن الكاتب عند صياغة قصصه القصيرة لم يستخدم كثيراً تقنية الحوار بين شخصياته، عدا حوارٍ وحيدٍ تضمنته نهاية المقطع الثامن الأخير من نصه (أنا وصاحبي وفضولي) الذي دار مع السيدة صاحبة المطعم في بريطانيا، حين اتضح أنها عربية:
(- أنا صاحبة المطعم، قالتْ. وسألتْ:
– من أين أنتما؟
– من ليبيا. ردَّ صاحبي.
– أنا من سوريا. قالتْ وابتسامةٌ تضيءُ مفاتنَ وجهِها.)(6)
وعوضاً عن تقنية الحوار التي تهدف في النصِّ القصصي غالباً إلى تكسير رتابة السرد، وزيادة درجة الجاذبية والتشويق، وتوظف لتسريع وتسهيل نقل مضامين النصّ ورسائله، لجاء الكاتب في بقية سردياته الأخرى مباشرة إلى صوت المتكلم وضمير الغائب تارة أو المونولوج الداخلي أحياناً، ومرد ذلك ربما يرجع إلى محدودية المساحة التعبيرية القصيرة التي تتسم بها نصوصه القصصية بعد أن اختار تجزئتها وتقسيمها أحياناً إلى مقاطع قصيرة مرقمة عددياً. كما نجده لا يكتفي باستخدام أسلوب الوصف النثري الثابت بطريقة مجردة في الحكي، بل يستثمره ويستمد من خلاله تفريغ شحنات أسئلته الفكرية الغزيرة، وبثها بين ثنايا الوصف، وإطلاقها في فضاء النصّ بلا إجابات محددة أو توقعات تلميحية، بل تركها مفتوحة أمام القاريء ربما لإشراكه في التفكير والبحث عن إجابات لها:
(هل ما أرى حقاً أم أنها أوهامُ مخيلةٍ عجوز؟!)(7)
(مَنْ يُقنِع المنتظِر – مفترشاً حنينه- أنَّ المدائنَ المضيئةَ خلف المدى الراكد، لا تعيد عاشقيها؟!)(😎
(مَنْ يُقنِع المنتظِر أنَّ المراكبَ حين ترحل لا تعود؟)(9)
(تقدم، أصبعُـك على الزناد، وقلبك أيضاً: من أيَّ عدوٍ ستحترس؟)(10)
(هل تريدُ أنْ تجربَ الدخولَ في القفص؟)(11)
وما يلفت النظر أيضاً في الجوانب الفنية لهذه المناكفات أنها تعالقت مع الميثولوجيا الشعبية في عدة مناسبات، واقتطفت من تراثها بعض التعبيرات القصيرة التي زرعها الكاتب داخل نصوصه تعزيزاً لمضامينها، وربما توثيقاً ووفاءً للمناهل التي استقى منها تلك الأمثال والحكم والمأثورات الشعبية، ومن بينها والدته التي استذكر قولها (اللي تصبه السموات تتحمله الأراضي!)(12)، وكذلك قول أخته حول أهل الجن (بسم الله العظيم… يقصوا ويردوا)(13)، بجانب ما سجله من إضافات أخرى مثل سؤاله الاستفهامي الإنكاري (ما هزك ريح البارح، كيف يهزك ريح اليوم؟)(14)، والمثل الشعبي الشائع (يرقد المتهني)(15).
وأبانت المناكفات عن فطنة الكاتب ومقدرته الفنية الذكية في استدراج القاريء ومراوغته في القص والحكي بأسلوب تشويقي حرفي بارع، أبانت عنه قصته (ذاتُ نهارٍ “كوفيديِّ”)(16) التي سعى من خلالها إلى التفريق بين مفهوم “التصيد” و”التسول” الذي يستخدمه مؤلف القصة، كوسيلةٍ أو طريقةٍ بارعةٍ لالتقاط فكرة قصصة وحكاياته. وقد استطاع جمعة بوكليب بكل إمتاع وإتقان أن يسربَ إلينا من خلال (ذاتُ نهارٍ “كوفيدي”) نصاً قصصياً رقيقاً، وزاخراً باللغة والتشويق، بطلها الكاتب الذي تقمص شخصية السارد، وشخصياتُها متعددةٌ بدايةً من سائقِ الحافلة إلى الرجل الأربعيني والمرأة الجميلة، وكذلك أمكنتها تنقلت بين المحطة والحافلة والمقهى والبيت في تناسقٍ هارموني جميل.
لقد جاءت (مناكفاتُ الربع الأخير) في خمسة أبوابٍ متتالية، بدأت أولاً (باب السؤال)، وثانياً (باب دخلاني) أي بابٌ فرعي داخلي وليس رئيسي، وثالثاً (باب دوّار) أو كما نطلق عليه أحياناً بالعامية باب (المروحة)، وهو بابُ شكلي مظهري يفصل بين مساحتين ولكنه لا يمنع الداخل ولا يصد الخارج، ورابعاً (باب الحبّ)، وخامساً (باب الخروج). وتعدد هذه الأبواب يجعلنا نفكر في علاقة الكاتب جمعة بوكليب بها وحكاياته معها، وهل يا ترى يحسُّ أنها موانع وسدود وفواصل مادية تمنع الإنسان، وتحرمه من التواصل مع الآخر؟ أم أنه اختارها للتلميح بأن مخيلته لا تفرق بينها وبين السجن الذي يصد ويحجب ما وراءه من عوالم مختلفة؟ خاصة وأنه لم يقتصر على وضعها عناوين لتقسيمات مناكفاته فحسب، بل عقد مقارنة في نصه (قلق وأرق)(17) بين (الباب الجديد) بمدينة طرابلس القديمة وأبواب أخرى عديدة في مدن العالم. وبالتالي كأن الكاتب يرسل هذا الإيحاء باستمرارية تأثره بتداعيات لحظات فتح وغلق الأبواب الحديدية البغيضة خلال فترة السجن الظالمة المقيتة؟ وحين ابتكر أخر أبوابه الخمسة وسمَّاهُ (باب الخروج) فكأنه يعلن عن وجود منفذٍ أو مخرجٍ ما، لاستنشاق عبيرِ حريةٍ وإطلاقِ فكرةٍ أو حلمٍ ما، وبه يزرع الأمل مجدداً في ذاته وحياته ليهزم البؤس الذي يحاصره ويتحين فرصة الانقضاض عليه؟
وتتنقل بنا (مناكفاتُ الربع الأخير) في عدة أماكن جغرافية معلومة مثل “همرسميت” و”أثينا” و”جرجيس” و”جينيف” و”تاجوراء” وطبعاً “طرابلس” وغيرها، وأيضاً عبر تواريخ زمنية محددة بدقة من بينها (في صيف عام 1974م زرتُ أثينا)(18)، و(في شهر أكتوبر عام 2016م كنتُ في زيارة إلى مدينة جرجيس بالجنوب التونسي)(19) وحين يقصُّ حكاية تاجورية يقول (الحكاية المعنية، كما يبدو لي، ولدت زمنياً في فترة تاريخية قديمة نسبياً، قد تسبق فترة اكتشاف وتصدير النفط، أي أواخر الخمسينات من القرن الماضي، أو قبلها. وفي العام 2010م وَصَلَتْ إلى مدينة لندن، حيث أقيمُ وأعمل.)(20)، ولكن ما نلاحظه أن أسماء الأشخاص في (مناكفاتُ الربع الأخير) اقتصرت على اسمين فقط وردا صريحين وهما الشاعر العربي الصوفي “محي الدين بن عربي” الذي استحضره ليستهل ببيتِه الجميل قصته (في انتظار الحبّ)(21) وهو ما يجعلنا نزعم تأثر الكاتب بمنهج الحبّ الصوفي الروحاني العميق وبالفلسفة العقلانية في علاقاته الفكرية والعاطفية النقية الصادقة، ربما منذ تعلقه بهذا البيت الشعري الذي وجده مطبوعاً على ملصق يباع في مكتبة بمدينة أوروبية تبيع الكتب العربية، أثناء إحدى سفرياته فاقتناه وعلَّقه في مكان بارز داخل شقته:
(أدينُ بدين الحبِّ أنَّى حطتْ ركاِئُبهُ فالحبُّ ديني وإيماني)(22)
أما الاسم الثاني فهو (عاشور) الذي وثقته حكاية (في الطريق إلى أنجامينا)(23) ولم يقدم لنا السارد أية معلومات وافية حوله سوى أنه أحد ضحايا حرب تشاد المأساوية، وقد تقطَّع رأسه وتعفَّن جسده وفجَّر في الكاتب سؤاله الإنكاري المرير، وبالتالي يمكن اعتبار (عاشور) إشارة إلى كل الضحايا الأبرياء المجهولين من أبناء ليبيا سواء من الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب (لم يكن يتصور أنَّ لِلحمِ البشري هذه الرائحةُ العطنة، حتى إنْ كان لحمُ “عاشور” الذي جلس معه ليالٍ طويلة، وسكرا معاً، وحلما معاً ليالي طويلة، والسماءُ غير السماء. الهواءُ غير الهواء. الرمالُ غير الرمال. لكنْ هل الموتُ في الوطن كالموتِ مقطوعَ الرأسِ محترقاً في صباحٍ صحراوي كئيب؟)(24)
وبالإضافة إلى هذين الإسمين الصريحين نجد الكاتب يكرر استخدام تعبير (صديقي الشاعر) أكثر من مرة دون أن يسميه علانيةً، أو يقدم لنا أيةَ صفاتٍ أخرى تقربنا إليه، ونحن نعلم أن شخصية الكاتب ودودة وصدوقة تنال محبة واحترام الجميع، وأن رصيده الإنساني وشبكة علاقاته الاجتماعية واسعةً تحتضن أعداداً كبيرة من الأصدقاء والشعراء والأدباء داخل ليبيا وخارجها، وبالتالي فقد جعل مهمة القاريء عسيرةً لاكتشاف ومعرفة ذاك الشاعر الصديق، رغم أن البعض يقول، على سبيل التخمين، أنه يقصد رفيق دربه وسجنه ذاك الشاعر الراحل الذي عاش معه سنوات وراء القضبان في زنزانة مشتركة واحدة، وخاض معه حوارات ثنائية خاصة ممتعة، ونقاشات فكرية طويلة، واستفزازات لذيذة أثمرت إنتاج (مناكفات الربع الأخير) التي كان عنوانها (مناكفاتُ الكهولة) قبل هذا الإصدار، وقد نُشر بعضها بجريدة (الجديد) اللندنية، ويمكن اعتبارها المعزوفة التوأم لديوان (قصائدُ الظل) لصديقه الشاعر، كما أوضح الكاتب نفسه بإحدى مقالات زاويته (زايد ناقص) بجريدة الصباح الليبية. فيا ترى لماذا اختار كاتبنا التعتيم وحجب اسم صديقه الشاعر، ولم يفصح عنه رغم أنه مَنْ استفزه، وحرَّضه، وشجَّعه على كتابة وتسجيل هذه المناكفات العمرية الممتعة؟
إنَّ الكثير من الأحداث والروايات والشخصيات في (مناكفاتُ الربع الأخير) توثق محطات حقيقية تنتمي بجدارة إلى حياة واقعية عاشها الأديب جمعة بوكليب شخصياً بكل لحظاتها وتفاصيلها في أماكن متعددة وأزمنة مختلفة، وسجلها بلغة انسيابية وشاعرية إيقاعية رقيقة، تشكل موضوعاتها بجانب روايته (نهاراتٌ لندنية)(25) تكملةً لصفحات سيرته الذاتية، وبالتالي فهي تتيح للقاريء براحاً شاسعاً ووافياً للتحليق معها في عوالم جمعة بوكليب الحقيقية المعاشة، ولتمنحه بعض الإجابات للعديد من الأسئلة التي قد يفجرها النصّ في ذهنه عن محطات سيرته وبعض خصوصياته.
الهوامش:
1) مناكفات الربع الأخير، قصص قصيرة، جمعة بوكليب، دار الفرجاني للنشر، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2023م
2) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 9
3) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 15
4) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، الصفحة نفسها
5) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 16
6) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 34
7) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 22
8) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 23
9) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 28
10) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 57
11) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 99
12) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 10
13) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 35
14) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 12
15) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 17
16) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 39
17) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 101
18) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 27
19) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 28
20) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 58
21) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 77
22) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، نفس الصفحة
23) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 57-66
24) مناكفات الربع الأخير، مصدر سابق، ص 62
25) نهارات لندنية، جمعة بوكليب، دار الفرجاني، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، 2021م.