لعل التاريخ العربي الإسلامي أكثر التواريخ التي تحتاج إلى “إعادة كتابة”، لما اعتوره من تحيزات طائفية ومذهبية وسياسية من قبل المؤرخين العرب والمسلمين، ولاحقا من وجهة نظر متحيزة واستعلائية من قبل لفيف من المؤرخين الغربيين الذين تناولوا هذا التاريخ من وجهة نظر استعمارية، وإذن فإن الدعوة إلى “إعادة كتابة” هذا التاريخ، حتى ولو كانت تصدر من البعض بدافع غير علمي وإنما بدافع تفصيل بعض التواريخ وفق انحيازاتهم، ليست دعوة ترفية نافلة.
داخل المنطقة العربية ثمة مناطق أهملها المؤرخون، أولئك وهؤلاء، لأكثر من سبب. من أبرز هذه المناطق المنطقة التي تعرف حاليا باسم ليبيا.
كتاب د. محمود أحمد أبو صوة “دراسات في تاريخ ليبيا الوسيط”* يمثل محاولة مخلصة واجتهادا مضنيا لإعادة كتابة تاريخ هذا الإقليم في العصر الوسيط (القرون الإسلامية الثلاثة الأولى)، ليس من منطلق انحياز قطري شوفيني ضيق، وإنما من منطلق تكاملي ينصف ساكني هذا الإقليم ويبرز إسهامهم في التاريخ الإسلامي العام، وحتى في تاريخ حوض البحر الأبيض المتوسط. إذ يؤكد د. أبو صوة على أن “الدعوة للكتابة في تاريخ العرب/ ليبيا الوسيط هي في حقيقة الأمر دعوة لإعادة النظر في أولويات البحث التاريخي” على اعتبار أن “العصر الوسيط… تشكلت فيه هوية المنطقة”، داعيا إلى الابتعاد عن دراسة تاريخ المنطقة من خلال النفوذ الأجنبي و “تسليط الضوء على تاريخ المنطقة من الداخل” دون إبعاد تأثير العامل الخارجي طبعا.
تمثل كتابات د. أبو صوة التاريخية كتابة نقدية، أو ناقدة، تنتمي إلى مدرسة ما بعد الاستعمار التي تركز، باختصار، على تخليص الشعوب المستعمرَة من نظرة المؤرخين الاستعماريين إلى تاريخها، وكذلك من النظرة التمجيدية المغالية التي ينتهجها المؤرخون المحليون، كما تؤكد هذه المدرسة، مع شقيقتها مدرسة دراسات التابع، على ضرورة “كتابة التاريخ من تحت History from bellow”، أي تاريخ الجماهير وليس فقط تاريخ الحكام. وهو ما يسميه د. أبو صوة في كتابه هذا “الالتزام بمنهجية فوقية لا تنظر إلى التاريخ إلا من خلال الأسر الحاكمة” أي التاريخ السياسي الأفقي. داعيا، بدلا من ذلك، إلى “تسليط بعض الضوء على أفراد ومؤسسات ساهمت هي الأخرى بقسط لا بأس به في تاريخ المنطقة” أي دراسة عمودية. ود. أبو صوة يتوفر في هذا المجال على عتاد فعال هو إجادته لثلاث لغات أوربية هي الفرنسية والإنغليزية والإيطالية.
في واقع شح المعلومات المتعلقة بتاريخ ليبيا في العصر الوسيط، الذي يعزوه إلى غياب كيانات سياسية قوية تبسط نفوذها، في الأقل، على جزء من الإقليم و/ أو تجري على مسرحه حوادث كبرى تثير اهتمام المؤرخين، إضافة إلى طرفية هذا الإقليم (حيث ترتبط برقة تاريخيا بمصر ومنطقة طرابلس بتونس)، لم يجد د. أبو صوة أمامه سوى اللجوء إلى “النتف البسيطة” المتوزعة في كتب المؤرخين والرحالة وكتب الطبقات والفتاوى، وغيرها، وتبني “القراءة المتأنية لما بين الأسطر” ووضع فرضيات تتناغم مع أحداث مشابهة حدثت في مناطق أخرى مجاورة يرتبط بها الإقليم الليبي (هنا تحديدا مصر وتونس) لردم الثقوب السوداء في هذا التاريخ. وهذا الإجراء أحب أن أسميه هنا “ما وراء النص “Meta-text.
وطوال الكتاب ينبه د. أبو صوة إلى أن ما يقدمه مجرد تخمينات ومقترحات تدعمها كثير من القرائن ولكنها تفتقر في معظمها إلى أدلة قاطعة. لذا فإن هدفه هو إثارة التساؤلات وطرح الأسئلة واستفزاز شهية الباحثين إلى الانتباه إلى هذه المجاهل وتجشم عبء الخوض فيها لإدخالها في منطقة أضواء البحث التاريخي.
لم
تكن غاية هذا المقال القصير استعراض الكتاب، وإنما هدفت إلى إبراز منهجيته
المتبناة في “إعادة كتابة التاريخ” وما رأيته أفكارا جوهرية فيه.
* د. محمود أحمد أبو صوة، دراسات في تاريخ ليبيا الوسيط”، منشورات Elga، فاليت- مالطا 2004