المقالة

فريد الأطرش وإسهامه في فنّ القصيدة الغنائية

 

هناك ثـُلة من المغنين ، تظن بأنّ أية أغنية طـُرِزت كلماتها على نسيج قـُـماشة اللغة العربية الفصحى ، تصيرُ قصيدة ًغنائية ً، هكذا بكل سهولة ، و من دون أنْ يتعايش المُغني مع مفرداتها ، و يتفهّم معانيها و مراميها ، فمن ضمن من تحوّل إلى محاولة أداء هذا النمط الغنائي الراقي ، بعضٌ من مغنيي اليوم ، نتيجة لاتساع الساحة أمامه – بعد جفاء المطربين لهذا الأداء ، لعلمهم بصعوبته ، و بالمهارة التي يتطلبها بعد زوال جماليات الصوت لديهم ، لا سيما و أنّ أغلبهم صار في أرذل العمر – و لحدسه بأنّ ما قدّمه هو و غيره من ألوان غنائية ، سوف لن يجعل له وزناً في تاريخ الغناء العربي المعاصر ، ما لم يدلُ بدلوه في هذا الشأن ، فانصب اهتمامه على دواوين الشعراء ، الذين تغنى بروائعهم المطربون الأوائل مثل ” نزار قباني ” و غيره من شعراء ، فأخذ بذلك من فنّ ( القصيدة الغنائية ) اسمها من غير صفتها ، من دون أن يدرك ، أنها ستصبح قصيدة فقط ، طالما أنه لم يعد لها اللحن اللازم ، متكئاً على شهرة الشاعر ، و عندما قام بتنغيم هذه القصائد ، قدّم للمستمع أعمال عبارة عن أغاني خفيفة و راقصة ، هي أقرب في موسيقاها إلى ( الطقطوقة ) ذات الجملة الموسيقية الواحدة ، المتكررة بعد كل ( كوبليه ) فلا تتصف البتّة بمفهوم القصيدة الغنائية المُتعارف عليها في العقود الماضية ، فقد كان الجيل الرائد ، ممّن أسهموا في تطوير الأغنية العربية عبر عقود طوال ، و بعد أنْ أثبت جدارته في غير لون من ألوان الغناء العربي ، قد أسهم أيما إسهام ، في وضع ركائز القصيدة المغناة ، بعد اندثار الإنشاد بالعربية الفصحى ، و تلحين اللهجات المتعددة بتعدد الجهات و الأمصار ، التي آل إليها الكيان العربي ، بعد سقوط دار الخلافة الإسلامية ، منذ ما يقارب الثمانية قرون ، اللهم إلا ، إعادة تقديم بعض الموشحات التراثية ضمن الفرق العربية المعروفة في كل قطر عربي ، حيث صار لهذا اللون ( القصيدة المغناة ) متخصصون ينشدونه في شكل جماعي ، يتعفف المطربون الكبار من تقديمه ، أو دعوني أقول يتهربون من ذلك ، ذلك أنه بحسب رؤاهم ، سوف لن يضفي لمكانتهم شيئاً ، إذ أنهم بذلك ، سيكونون كما أية موهبة غنائية ، تتربى على أصول الغناء العربي الصحيح ، و هي تشقُّ طريقها إلى عالم الغناء ، و مع ذلك ، تيقنوا بأنهم مطالبون بتقديم شيءٍ من هذا اللون الغنائي ، الذي فقدته الأذن العربية في العصر الحديث ، و ما ساعدهم على القيام بذلك ، أنّ أغلبهم قد تمكّن من ناصية اللغة عن طريق المدارس القرآنية ( الكتاتيب ) و استقى منها بحور الشعر و حفظ كماً كبيراً من قصائد الشعر المعروفة في العصرين الجاهلي و الإسلامي .

كان ذلك فيما يخصُّ اللغة ، و إجادة أحكامها لجهة الإعراب و النطق ، و فنون التجويد من إدغام و غـُنـّة و قلقلة و ما إليها من أحكام أخريات ؛ صحيح أنّ بعضاً ممّن اتجهوا إلى تقديم القصيدة المغناة ، هم على درجة عالية من الفصاحة اللغوية ، و لديهم إلمام كبير بأصول اللغة العربية ، لكن المشكلة و ما يعوزهم لا يكمنان هنا ، حيث إنّ تلحين القصائد يستلزم برأيي ، أنْ يكون الملحن ذا إحساس كبير بالمعنى و على معرفة كبيرة بمقامات الموسيقا العربية ، حتى يستطيع أنْ يوصل فكرة العمل إلى المتلقي بأذنيه و عينيه و عقله على حدًٍّ سواء ، فلا يركز على جارحة واحدة من جوارحه ، بل يتعين عليه أنْ يعمل بتزامن على إشباع هذه الحواس جميعها من الوجبة الطربية التي يقدّمها له ، و هذا لا يتأتى له ، إلا بالجمل الموسيقية المتسقة مع المعنى اللغوي لكل بيت من أبيات القصيدة ، فكم من قصيدة لم يقرأها المستمع و تعرف إليها من خلال اللحن المغنى فأحبها و راقت له ، لأنّ اللحن هو من يقدّم القصيدة على نحو صحيح ، و بأبعادها كلها ، خصوصاً تلك القصائد ذات الزمن الغنائي القصير ، الذي في الغالب يقارب العشر دقائق ، ففي مثل هذه القصائد يجنح الملحن إلى تنضيدها بحشد كبير من الجمل الموسيقية المتنوعة ، التي يساعده في إظهارها للأسماع معرفته بالمقامات الموسيقية المتباينة ، و ما يلحُّه عليه المعنى العام للمفردات ، سواء أكان طابعه الحزن أو الفرح .

و ما دُمت بصدد الاهتمام بما جاد به الفنان الكبير ” فريد الأطرش ” من فنون غنائية ، و ما أثر به مكتبتنا و موروثنا العربي الغنائي من روائع و بدائع ، ارتأيت في هذا المقال ، أنْ أبرز و ألفت عناية القارئ و المستمع معاً ، إلى دوره الكبير في تطوير القصيدة العربية المغناة ، إذ أنه قدّم ما في وسعه و فنه ، لهذا النمط الغنائي الرصين ، فقد لحّن في بدايته عام 1937 ميلادياً ، قصيدة تحت عنوان : ( ختم الصبر ) كانت دليلاً على تفتق عقلية جديدة في تلحين هذا الضرب الغنائي ، فكانت في حين ظهورها ، طفرة في هذا المجال الغنائي الصعب ، ما جعل المستمع ، الذي يتمتع بذائقة موسيقية فائقة ، يراهن عليه في تطوير فنّ القصيدة إلى جانب الموسيقار ” رياض السنباطي ” و موسيقار الأجيال ” محمد عبد الوهاب ” و لكن بنكهة أخرى ، فقد كان لحن هذه القصيدة مغايراً ، لما قدّمه الأخيران من ألحان تنضوي تحت لواء القصيدة الغنائية الحديثة آنذاك ، فشكّل الزاوية الثالثة و الضلع الثالث من ثالوث أو مثلث التطوير بجدارة ، حتى أنّ الموسيقار ” رياض السنباطي ” أشاد بتلك القصيدة و نعتها بما ذكرته لكم ، من دون أدنى إكراه ، و هو من هو في هذا المجال .

و بعد هذه القصيدة اتبعها بدُرر ٍمن القصائد المشهورة له ، التي انتقل بها إلى مراحل متطورة جداً من الحسن في اللحن و الغناء و الأداء ، أمثال : ( عش أنت ) و ( أضنيتني بالهجر ) للشاعر ” بشارة الخوري ” و قصيدة ( لا و عينيك ِ ) التي نظمها له الشاعر و الزجّال الكبير ” كامل الشناوي ” و رائعة ( يا زهرة في خيالي ) هذه القصيدة التي وصلت إلى العالمية ، حيث غنّاها أكثر من مغنٍّ عالمي باللغة العربية مجارياً الفنان الراحل ، في صوته و طريقة أدائه ، حرفياً و شكلياً ، فمن الجميل في الفكرة و من جميله علينا ، أنه جعل أولئك الفنانين ، الذين ينتمون إلى أمم أخرى ، يتغنون بلغتنا السامية في مفرداتها و معانيها .

و من مظاهر التطوير في قصائده هاته ، أنه عرف بموهبة الفنان الحقيقي كيف يصور للمتلقي ، الحدوثة التي تنهض عليها مفردات القصيدة ، من خلال الألحان و ما صاغه فيها من جمل موسيقية عظيمة تعاملت بإتقان ، مع كل حرف على أنه كلمة و لم تتجاهله ، لعلمه المسبق ، بأنّ الحرف في اللغة العربية ، هو من أقسام الكلمة ، ففي قصيدته : ( لا و عينيكِ ) جعل لحرف ( لا ) متسعاً من الوقت و هو ينطقه مترنماً في مطلع القصيدة ، ثم يرددها و هو على مشارف الانتهاء من القصيدة بشكل مُصوَّر ، إذ أنه ردّدها أكثر من مرة ، و كان في كل ترديدة ، يرافقه صوت ( صول ) لآلات الكمان المحتشدة فوق أكتف العازفين وراءه ، حتى لكأنه يشير إليك بسبابته ذات اليمين و ذات اليسار ، في إشارة موحية منه بالنفي ، كما يفعل الواحد منا عندما لا يكون راغباً في الكلام ، إذا أراد نفي أيِّ أمر كان ، بعد أنْ فرش و مهّد بآلته الموسيقية ( عوده ) تقسيماً أعده من أروع ما استمعت إليه من عزف على هذه الآلة الجميلة ، التي كان لها في هذه القصيدة سحراً شرقياً باهراً ، يأخذ بتلابيب العقل و الأذن و العين ، إلى حدّ الجنون ، خصوصاً عندما يلتحم صوت أوتارها مع الإيقاع و آلتي ( القانون ) و ( الكونترباص ) تحديداً عندما يترنم بالبيت الذي يقول فيه على لسان الشاعر :

و خيالي الذي سما بك يوماً .. يا له اليوم من خيال كسيح

أرجع بكم تواً ، إلى مطلع القصيدة لاستكشاف مظاهر التطوير و مكامن الجمال في هذه الرائعة ، فهو يبدأ مطلعه بلهجة عربية مُفخّمة ، خاصة حينما ينشد بهذه الكلمات من مبتدئها :

لا و عينيك ِ يا حبيبة روحي .. لم أعد فيك هائماً فاستريحي

سكنت ثورتي فصار سواء .. أن تليني أو تجنحي للجموح ِ

فهو عند نطقه للفظة ( ثورتي ) التي سبقها فعل السكون ، تتصاعد الموسيقا المصاحبة في ارتفاع مذهل مع صوته الذي يأسر كلمة ( الجموح ) لبرهة من الزمن ، بيّن به مقدرته الصوتية ، كل ذلك ، لأنه يعلم ما لهذه اللفظة ( ثورتي ) من ثقل ٍ و رهبة في قرارة من لم يصبه وقرٌُ في مسامعه ، و كذلك من معنى يحمل في طياته ، عظمة الشيء ، الذي يريد أنْ يعبّر عنه ، لذلك تجاهل فعل السكون ، الذي هو في الأصل فعلٌ غير مُفعـَّـل ، فالسكون فالحقيقة يعني انعدام الفعل ، ربما لأنه ابتغى أنْ يوضح كيف أنّ ثورته الأولى قد خمدت بفعل ما لقاه من حبيبته من فتور ، لذا غلّب الثورة على السكون ، فهو بذلك ، يود أنْ يشعر مستمعه بمصابه ، و ذلك ما ينجح في التعبير عنه مرة أخرى ، عند ذكره لكلمة ( الريح ) في صيغة المضاف و المضاف إليه ( مهب الريح ) في البيت التالي له بالتحديد ، فهو بعد شدوه لهذه الكلمة ، قفّاها بـ ( صول ) موسيقي بآلات الكمان ، ترجّم هذه اللفظة في شكل صوت الريح – لا ( الرياح ) – التي عادة ما تحدثه الزوابع العاتية ، فثمة فرق كبير بين هاتين اللفظتين لمن يدرك ذلك ، فحتى في القرآن الكريم ، ما جاءت كلمة ( ريح ) إلا و قد لحقت بها كلمة ( سوء ) فهي مؤذِنة لغوياً بالسوء و خراب العمران ، بعكس لفظة ( الرياح ) التي عادة ما يجيء وراءها الرخاء و الخير ، و هذا ما يعكس للقارئ و المستمع صحة ما أوردته في بدء هذه المقالة ، من حيث معرفة الجيل الذي ينتسب إليه هذا الموسيقار الكبير ، بأحكام النطق و معرفة مفردات اللغة العربية ، نتيجة ًلدراستهم الأولى في المدارس القرآنية ، و لمطالعتهم المستمرة للشعر العربي في العصر الحديث .

أما في تتمة هذه القصيدة ، نجده يصوّر لنا جميعاً ، مشهد خطابه لمحبوبته في وقار و حِدّة ، الذي يفرض عليه أنْ ينشده بصوته المفخّم ، و هوّ يذكرها بمدى إخلاصه و مهدداً إياها بأسلوب المحبّ المخلص .

كل هذه المعاني تستمعون إليها في هذه القصيدة الرائعة ، في وقت لا يتعدى الست دقائق و الثانية الواحدة من الدقيقة السابعة ، فأنا أنصحكم بالإنصات إليها :

قصيدة : لا و عينيكِ

نظم الشاعر : كامل الشناوي

لحن و أداء موسيقار الأزمان : فريد الأطرش

لا و عينيك ِ يا حبيبة روحي .. لم أعُد فيك هائِماً فاستريحي

سكنت ثورتي فصار سواء .. أنْ تليني أو تجنحي للجموح

و اهتدت حيرتي فسيّان عندي .. أنْ تبوحي بالحبِّ أو لا تبوحي

و خيالي الذي سما بك يوماً .. يا له اليوم من خيال ٍ كسيح ٍ

و الفؤاد الذي سكنتِ الحنايا .. منه أودعته مهب الريح ِ

لا و عينيكِ ما سلوتك عمري .. فاستريحي و حاذري أنْ تُريحي

بنغازي – ليبيا : 12 / 12 / 2009

مقالات ذات علاقة

تهاميش ليبية عابرة

عزالدين اللواج

الشعر المحكي

عبدالرحمن جماعة

الزي الليبي حكاية تبدأ منه وتنتهي في الأزل .. الهيبة (عصمّلي) .. والوقار (أندلسي)

زكريا العنقودي

اترك تعليق