ثمة قاسم مشترك بين المواد التي أدسها في أستوديو هاتفي ، ليلة الأمس طويلة ، باردة ، الكهرباء مقطوعة ، هاجمتني فكرة تصفح هاتفي الأنيق ومشاهدة مواده المحفوظة في ذاكرته الإلكترونية الواسعة ، وبسبابة مبتهجة ضغطتُ على المقطع الأول من المقاطع المدسوسة فأنطلق صوت الفنان “محمد حسن” ما من مواجع واجدة في صدري ، هنا شعرت بصمت كل الأشياء المحيطة بي ، تفقدت روحي ، روحي القلقة ، الهشة ، الحزينة ، لماذا أحتفظ بهذا النغم بالذات في هاتفي ؟ لكنني بالفعل موجوعة ، نعم أنا موجوعة جداً وليبيا هي أول وجع في صدري ووجدتني أقول لو أن صوتك يعود قليلاً ، يبشرنا بأغنية جديدة ، لو أنك تعود قليلاً بلباسك التقليدي الجميل ، لعلك لم تكن تدرك صعوبة أن يتعلق قلب امرأة مثلي بأغنية الوطن الجميلة ، كانت ” بلادنا زين على زين ” المقطع التالي في القائمة.
هناك نغم شرس داست عليه سبابتي لكنني لم أحتمل الاستمرار في الاستماع إليه كانت الكلمات تهتز والصوت الجميل يعذبني بجماله “مكتوب لي وين ما نقول وصلتْ م الصفر نبدأ في غلاك وحلت” للشاب الفنان ” حسن مناع ” وشعرت بأن طريقي طويلة جداً وأنني لم أصل ولن أصل و وجدت أنني أقف في مسافة ما قبل الصفر بكثير و أن رحلة الصفر بالنسبة إلى تبدأ بخطوة في مرحلة النكوص إلى الخلف ، لا طاقة لي للوصول إلى الصفر في مرحلة البحث والتنقيب عن الذات وعن الأخر ، حاولت التوازن بعد نغم ” حسن مناع ” ، ووجدتني أتجه بالكامل نحو تأمل ذاتي من الداخل ، نحو أعمق نقطة في نفسي ، لقد درسنا في الرياضيات أن الصفر ليس بداية الأشياء وأن موقع الصفر في المنتصف و أنني لا بد أن أصل إلى الصفر يوماً ويسمى ذلك انتصاراً لأنني سأنطلق بعدها إلى مرحلة ما بعد الصفر بحماس وثقة كبيرة في النفس ، شعرت أننا لا يمكن أن ننتهي عند نقطة الصفر، ما الصفر إلا نقطة ارتكاز، محطة لنستريح قليلاً ونتجهز للانطلاق ، شاهدت مقطعاً يلوح في أفق القائمة و يكاد يثب لتنساب نغماته من تلقاء نفسها ، ذهبت لا إردياً ، داستْ سبابتي على زر التشغيل فتراقصت كل ذرة في كياني لأستقبل الموسيقى القادمة من زمن السحر والغموض والروعة ” مال الورد فوق الغصن زاهي … يوصف شوق في موال غية ، يوم شقيت به وكان لاهي زاد الموح بدموعي الخفية ” ووجدتني أرحل مع الفنان ” محمد صدقي ” واردد معه كانتْ ذبالة الشمعة تهتز فوق مكتبي و ظلال الأشياء تتراقص على الجدار أمامي وقلبي يعتصر و الأرض تنسف كل حقائق الجغرافيا ، أنها تتباطأ و لا تدور و أجدني أنحدر من زقاق ضيق يمتد أمامي شارع ” جمال عبد الناصر ” الطويل و ” البركة ” وسيدي حسين والصابري وذكريات بنغازي الجميلة و ” طيرين في عش الوفا باتن سهارى كنهن ” و تمنيت أن لا تعود الكهرباء ، عادتْ سبابتي لإعادة تشغيل الأغنية من جديد عدة مرات وعدت إلى شوارع وأزقة بنغازي ، بدت اللحظات كالسهل المنبسط أكثر رحابة ، قائمة هاتفي تطول بين خيمة محمد حسن وجلسة حسن مناع و وماضي محمد صدقي وعلي الشعالية ، لكن الكهرباء عادت ، عادت التدفئة وعادت القنوات الفضائية ودبت الحياة في أوصال المحيطين بي و عاد الضجيج يقرع باب غرفتي لينتشلني من صحبة أروع ما أملك.