الدكتور محمد الخازمي
الأعمال الأدبية الناجحة هي التي تثير جدلا إيجابيا حولها، وقيمة الجدل بما يقدِّمه من رؤيا نقدية، أو إضافة إلى ساحة المعرفة العامة، وأكثرُ قيمةً منه المقالاتُ النقدية المواكبة للحركة الأدبية، بل إن المقالات النقدية هي التي تدفع الاتجاهات الأدبية، وتزيدها وهجا وقيمة، ولا شيء أسعد للكاتب من أن يرى صدى لعمله الأدبي عند الكتّاب والنقاد.
وأحيانا يفتح الناقد للأديب آفاقًا أخرى؛ فيُمَثِّل له دافعا جديدا، وأحيانا يكشف له عن خبايا في عمله لم يكن قاصدا لها، أو لم يكن متعمِّدا لها، وذلك التعاطي الإيجابي المحمود هو الذي يجعل الحياة الأدبية مزدهرة نافعة، بعد أن فشل الأكاديميون –تقريبا- في أن تكون دراساتهم جميلة، إذ قد أثقلتْها التقاليدُ البائسة، وغاب عنها الإبداعُ النقدي والأدبي الذي تغذيه الـمَـلَكةُ أولا، ثم القناعة، والإخلاص لوجه الأدب ثانيا.
في قشر التفاح: أردت أن أجذب الناسَ مرّةً أخرى للقراءة، وهي مهمة عسيرة جدا، فالغالب على عصر السرعة هذا أن الناس يضيقون بالإدراج الفيسبوكي إذا قاربت أسطرُه عددَ أصابع اليد الواحدة، فكيف تريد من هذا الجمهور الذي انحسر صبرُه أن يعود لقراءة الكتب الطويلة؟!
كان هذا هو التحدّي الحقيقي، والعودةُ للتكوين الأدبي للكاتب كان باب الفرج له؛ فكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وهو من الأدب القديم الماتع، فتح للكتّاب بابًا لم يُنتِج إلى اليوم بالقدر المفترَضِ له، فأنت في البيان والتبيين أمام أدب منوّع، لا يلزمك بالشعر وحده، ولا بالقضية النقدية مفردة، فكلاهما ثقيل إن استأثر بك، لكنّه يخلّل ذلك بالقصة الطريفة السريعة، وبالحكايات التي يلتقطها من الحياة العادية، من معاناة الناس وصبرهم، من ذكائهم وغفلتهم، ثم يوظِّف ذلك كله بطريقة إبداعية راقية…
في (قشر التفاح) فشل الكاتبُ في النسج على تلك الطريقة لأنه افتقد جرأة الأديب الرائد، فالتزم بالتبويب والتقسيم، وتلك خصيصة أكاديمية مذمومة هنا، وقد سجّل ذلك الكاتب لنفسه واعترف به، لكني أزعم أنه نجح في أن يكون سلسًا، ولذلك نال الكتاب استحسانا من القرّاء؛ بل إنه حقّق غايته التي كُتِب من أجلها، وهي (الدعوة إلى القراءة) وكثير من التقريظات، والتعليقات التي كتبت على صفحة الكاتب على الفسيبوك تسجّل أنها فرغت من قراءة الكاتب في يوم واحد، أو جلسة واحدة، وكان هذا فوقَ توقّعاتِ الكاتب الذي أراد أن يكافح ملل الخمسة أسطر الذي ينتاب القرّاء إلى تحقيق قراءة متصلة ل186 صفحة في وقت واحد، وصعيد واحد.
إنه – هنا- القشر، القشر الذي يعني به الكاتب: بداية الأدب، بداية القراءة.
وليس بين العنوان الذي على صفحة الكتاب والعنوان الفرعي الذي اختاره الكاتب لإدراج قصير وسط الكتاب أدنى صلة، بل إنه قصد بذلك التعمية، ورأى أن هذا العنوان الفرعي الذي هو مناسب لتلك القصة القصيرة في محتواها المباشر، لكنه يناسب الكتاب بأكمله في معناه المرمز، وفي غايته الأدبية، وقد انتبه غير واحد من القرّاء لهذا المعنى، فهذا الأديب اللغوي مصطفى الأسطى[1]، أرسل للكاتب يقول: لقد قرأت (لُبَّ التفّاح)!
أمّا الأسلوب فقد اختير بعناية، ولعلك تدرك مثلا أن قضيّة فرعية في قصة (يوم في البريّة) تثير شيئا من قضايا المجتمع، قضية المسؤول الفاسد الذي (يبيّض) أمواله، بشراء الإبل! رغم أنّ أدبَ الرحلاتِ غيرُ أدب القصة في أدواته، لكن الإسقاطات هنا، وهناك ستثير للقارئ تساؤلات، وستفتح لآفاق المعاني آفاقا.
وما زلت محتاجا لأكتب حول التعقيب الذي يختلف عن (الكشكول)، ذلك الوعاء الذي يجمع فيه ما يعِنّ، لكن هنا كل شيء مرتّب، وبلغة منمّقة فيما أحسب، وذلك يجعله أقرب للعمل الأدبي الذي ينقش لوحة مختلفة الألوان، متباينة المساحة، لكنها صيغت برؤية قلم واحد، يحاول أن يجد لأهدافه طرقًا مختلفة.
[1] – أديب، ومتهم بالدراسات اللغوية والأديبة، ويشرف على صفحة (طلبة الدراسات العليا بقسم اللغة العربية/كلية اللغات/ جامعة طرابلس)