موضوع أخر تطرحه الجمعية الليبية للآداب والفنون للنقاش والبحث ضمن خطتها الثقافية للنصف الأول من العام الجاري من خلال محاضرة الأستاذ والقاص محمد الزنتاني التي ألقاها صباح يوم السبت الموافق للتاسع عشر من هذا الشهر بفضاء دار التراث والفنون باستضافة كريمة من مكتب الثقافة طرابلس المركز .
المؤانسة الصباحية افتتحها مدير الجلسة نوري البوسيفي بنبذة ضافية عن الباحث وإسهاماته في المجال الثقافي في ليبيا بكتاباته التي توزعت ما بين البحث والمقالة , والمقالة الوجدانية والشعر والقصة القصيرة التي برع في تأثيثها ونشر مجموعتين قصصيتين في إطارها هما ” الصهيل” و ” الصبي والوردة ” .
الباحث الذي ولد سنة 1952 أشتغل بشركة ليبيا للتأمين من سنة 1974 وحتى سنة 2012 وترأس إدارة تحرير مجلة الفصول الأربعة التي نشر جزءاً من قصصه فيها بالإضافة إلى صحيفة الفجر الجديد مبكرا ولديه عدة مخطوطات قصصية وشعرية وبحثية جاهزة للنشر بل أن بعضها تمت طباعته وسيتم عرضه بمعرض القاهرة للكتاب هذا العام , وأحال مدير الجلسة فيما تلى , إلى قراءة الأديب أبوالقاسم الككلي المبكرة في صحيفة الأسبوع الثقافي لقصص الزنتاني الذي يعد احد فرسان القصة القصيرة صحبة جيل ضم كل من داوود الحوتي ورضوان أبو شويشة وبشير الهاشمي وفاطمة محمود وعبدالسلام شهاب وغيرهم من المبدعين حيثُ كان لهذه القراءة الأثر الهام في تقديم الزنتاني وتكريسه ككاتب مميز وقاص مهم .
وفي سياق تقديمه للباحث نوّه البوسيفي إلى تلك المسافة الزمنية الشاغرة التي توارى فيها قلم الأستاذ الزنتاني إلى أن عاد أكثر تألقاً وأكثر حيوية وكأن لم يفوته شيء , إذ أنه كان يتابع كل المتغيرات ويتوائم معها ويتأقلم مع كافة التحولات الفكرية والأدبية من مكمنه ومُعتزله .
وبالشكر والأمتنان افتتح الباحث محاضرته التي قدم لها بكلمة هي عبارة عن بوح شفيف ومصارحة هادئة وهو يقف الآن على بُعد مسافة طويلة مما سيسرده , إذ أنه وحتى لحظة قراءته للمحاضرة لا زال يشك في أن كل هاته الذكريات كانت حقيقة لفرط تأثره وحنينه لأهلها ولأمكنتها التي سكنت باله على بعد مسافتها ومغادرته لها مبكرا .
وجاءت إصابة قلعة القاهرة في سبها بعد الأشتباكات التي دارت السنوات الأخيرة لتُحيي فيه الذكريات العزيزة على قلبه والمؤلمة كون القلعة هي التي احتضنت ذكرياته , وهو لا يكاد يصدق إن يد العبث قد طالتها بالتدمير , ولم يرتاح حتى كتب نصوصا أدبية تندرج في إطار المدح والتحسر على القلعة نصوص تعبر بجلاء عن حالة الحزن التي تلبسته لما آل إليه الجنوب الحبيب , كما تعبر عن سخطه على هاته الحروب التي لم تستثني شيئا من خرابها الناجز لا التاريخ ولا الناس ولا الأمكنة ولا الذكريات الحميمة , ليأخذ بعد ذلك الحديث طابع المحبة إذ يحكي عن ازدهار المدينة ثقافيا وهو أنعكاس لما كانت تنعم به المدينة من استقرار سياسي واجتماعي ورخاء اقتصادي وتعايش سلمي وسيادة للقانون وتحدث الباحث عن الجيل الذي عاش تلك العشرية السحرية , الجيل الذي انكب بشغف على قراءة ديستوفيسكي وشتاينبك ونجيب محفوظ و التليسي وعبدالله ويوسف القويري وغيرهم الكثير الكثير , حيثُ كان الباحث شاهدا على كل هذا الزخم الثقافي الذي ينظر إليه اليوم من بعيد بعين الحسرة والحنين القاتل , وما يزيد الأمر صعوبة على الباحث ومرارة هو أن القلعة التي صمدت طوال تاريخها ولم تتعرض للأذى مع كل ما مر عليها وعلى المدينة من أحداث ومواجهات وغزاة , تتعرض الآن للعبث في هذا الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون الوعي بأهميتها واستقرار الوطن أكبر .
ولم يبخل الباحث بشيء من اسلوبه الأدبي الجميل لترصيع بحثه هذا الذي أخذ الصفة الموضوعية في جانب منه , إلا أن جل أسلوبه كان أدبيا فنيا اختلط فيه الذاتي بالموضوعي والسيروي بالتقريري والتوثيقي كما أن التركيز الأكبر كان على الذاتي واليومي من خلال استحضار الشخوص التي شاركت الباحث شغفه وعشقه للأدب وللقراءة ومن خلال استعادة المكان كما هو ببراءته الأولى وبطزاجته المكتملة متألقا مشعاً , ولئن كان النص موضوعيا لم يمنع ذلك من أن يكون نصا في مديح المدينة ومعلمها الأثري الأول قلعة القاهرة التي ما انفك الباحث يلفظ اسمها ” القارة ” كما لو أنه يلفظ اسم أحد احبابه المقربين بكثير من الحميمية والشوق , ولم ينسى الباحث كذلك أن يشير إلى أن ما سرده لم يكن إلا رصد لبعض الملامح والومضات التي أهداها إلى مدينته ذات الروح النبيلة – كما وصفها – وهذا السرد – بحسب وجهة نظره – أنهمر من الذاكرة مباشرة وبعفوية تامة مشدودة إلى حنين جارف لأمكنة الصبا .
وبنبذة مختصرة عن المدينة موضع الأحتفاء وتحليل مبسط لتركيبتها الديموغرافية أستمر الباحث في إلقاء محاضرته متتبعا أهم ملامح الحياة الأجتماعية فيها والتحولات التي طرأت عليها ومن أقام فيها من السكان المحليين ومن العرب والأجانب ومن مر بها عابرا , كل ذلك بأسلوب سردي يجيد الزنتاني استحضاره وهذا ليس بغريب عنه لأنه وقبل أن يكون باحثا وكاتبا في المجالات الأخرى هو أديب وقاص متمكن تشهد له مجموعاته القصصية بذلك .
حي القارة أو القلعة وميدان قعيد والمكتبات المختلفة والمركز الثقافي الأمريكي والحدائق هي الأمكنة الأثيرة على قلب الباحث التي استطاع هنا أن يستحضرها بكل أناقتها وزخمها وحيويتها وكأننا نتجول بداخلها لا أن نسمع بها للمرة الأولى وكذلك الأنشطة المختلفة التي كانت تعج بها حاضرة الجنوب سواء كانت رياضية أو كشفية أو ثقافية او فنية , يأتي هذا في الوقت الذي كان يعتقد الكثيرين أنها مجرد مدينة تحيط بها الرمال من كل جانب وتلفها الصحراء باتساعها اللانهائي وتفتقر إلى متطلبات المدنية الحقيقة ولم يواكب أهلها المتغيرات والتحولات التي تحدث ليس في ليبيا فقط بل في العالم أجمع على كافة المستويات لتجيء هذه المحاضرة لتؤكد على هاته النقلات الحضارية التي كانت تعيشها المدينة بفضل أبناءها الذين حملوا شعلة النور ,حيث لم تخلو المدينة من الزخم الفني والموسيقي والتشكيلي وأماكن الحوارات الفكرية والثقافية والنشاطات الأدبية في الأندية والساحات والمقاهي والمكتبات , كل هذا وغير تناوله الباحث بشيء من التوسع والإفاضة وكان كفيلا بمحو كل فكرة خاطئة عن المدينة لناحية تأخرها ثقافيا .
وفي سياق تقريب أجواء تلك الفترة إلى المنصتين , الثقافية منها خاصة فتح الباحث عبر سرده الأفتراضي الذي يتمازج فيه الواقع بالخيال حوارات افتراضية مع بعض الكتاب العالميين أمثال مارغريت ميتشل صاحبة رواية ذهب مع الريح كما أشار في ذات السياق إلى جان بول سارتر الفيلسوف الوجودي ورفيقته سيمون دي بوفوار وجاك لندن صاحب رواية الفك الحديدي والذي يتناول سرده المدهش عوالم البيئة الجليدية في أقصى الأرض ومع تولستوي وباسترناك وهيمنغواي وكولن ويلسون وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وأحمد بهاء الدين ومحمد هيكل والنيهوم والقويري ورشاد الهوني و المهدي كاجيجي ونجيب محفوظ وغيرهم من المبدعين الكبار الذين كانوا حاضرين في كل النقاشات والحوارات التي خاضها الباحث آنذاك مع أصحابه الذين يشاطرونه هواية القراءة وشغف المطالعة .
ولكون المكان متألقا وحيويا إلى حد لا يطاق تحسر الباحث على مغادرته ذات يوم من أيام سبتمبر سنة 1970 وكيف استطاع أن ينتزع نفسه من المكان دون أن يحس بالخسارة ليحكي من ثم قصة انتقاله إلى الشمال وكيف ودع أصحابه وهو الوداع المؤثر الذي لم تغيب عنه الدموع , وحرص الباحث – كما حكى – على أن يسترد ثلاث كتب كان قد أعارها لأصدقائه دون غيرها وهو يهم بالمغادرة وهي ديوان شعر لنزار قباني وكتاب الأشتراكية والأدب للويس عوض ورواية لجاك لندن ليعرج بعد هذا على رحلة العودة وما تخللها من مواقف إنسانية ولقاء بشخصيات اجتماعية رفيعة ليختتمها بحادثة إعلان وفاة الزعيم المصري جمال عبدالناصر وانعكاس هذا الخبر فيما يشبه الصدمة على الناس البسطاء في البيئة التي كان متواجدا فيها وهو الأمر الذي بعث في نفسه نوعا من الأستغراب والدهشة ربما لعدم تبلور وعيه السياسي حينها .
هذا ليس كل شيء فالكثير من التفاصيل والأحداث أتى عليها الباحث في رصده والعديد من الشخصيات رسم لها بورتريهات جميلة وقام بتأطيرها لغويا ووضعها في بؤرة الأهتمام بعد أن كانت في الظل , هذا ليس كل شيء سوى أن هذا ما أسعفتنا به المتابعة للمحاضرة الشيقة التي جعلتنا نعيش افتراضيا أجواء تلك الحقبة المزدهرة ونتحرك مع شخوصها من مكان إلى آخر ومن إبداع أدبي إلى آخر .
عند هذا الحد يتوقف الباحث عن سرد ذكرياته مدخرا المزيد منها للكتاب المزمع تأليفه عن ذات الموضوع ليفتتح باب النقاش مع تقدم أحد سكان المدينة ليبدي بعض الملاحظات على ما مر سرده ويثري الموضوع .
السنوسي الطاهر من جهته والذي عرف بعض الشخصيات التي عاصرها الباحث وتكلم عنها وحضر من مدينة بنغازي من أجل حضور هذا المنشط , أدلى ببعض الملاحظات والإضافات القيمة للموضوع وشدد على أهمية ما جاء فيه , إذ وجد من يشاركه حنينه ويؤكد له أن ما كانت عليه المدينة من رقي وحضارة حقيقي وليس من نسج الخيال أو حلم بعد مرور كل هذه السنوات الطوال – وبعد الأحداث المؤلمة التي قد تُنسي الإنسان كل ما هو جميل وآسر- .
الأستاذ سعيد حامد تطرق إلى جانب أخر لم يتسع المجال للحديث عنه وهو الجانب الأثري في المدينة وما حولها والذي تعتبر فترة الستينيات فترة ازدهاره وهو الشيء الذي وافقه عليه الباحث كونه انعكاس لحالة الأنسجام والتآلف الذي كانت تعيشه المدينة التي تطورت على جميع المستويات , ولعلها كانت من حيث لا تدري تعيش أزهى عصورها وأجمل فتراتها التاريخية .
أمين مازن كانت له مداخلة حيا فيها الباحث على مجهوداته وأكد من خلالها على أهمية البحث الذي سد ثغرة في ثقافتنا التي تحتاج إلى كل مجهود مهما كان ضئيلا وقال أننا أمام عمل ليس بالبسيط وهو يقصد البحث .
محمد سعد الصغير شده الحنين إلى المدينة كون والده عاش فيها وعمل ممرضا بمستشفياتها , ما دفعه إلى التعبير عن إعجابه بالسرد الجميل والحقائق التي تثبت أن المدينة راسخة في الرقي مع أنه المرة الأولى يسمع فيها بكل هذه الشخصيات التي ذكرها الباحث وركز عليها , اسماعيل العجيلي الفنان الليبي أيضا ألمح إلى بعض الشخصيات الرياضية الطرابلسية التي عرفت طريقها إلى الجنوب وأثرت في تطور الرياضة هناك .
رمضان سليم الكاتب والناقد تمنى على الباحث أن يركز جل سرده وكتاباته في هذا الشأن على السيرة الذاتية والأسلوب الأدبي وليس على الموضوعي والتاريخي والتوثيقي لأن هذا هو المهم في رأيه وهي الكتابة المرجوة والمنتظرة من كاتب وأديب مثل محمد الزنتاني , وكأني به يريد القول أنها تناسبه أكثر من أي أسلوب آخر وتتلائم وقدراته الإبداعية .
يونس الفنادي ألمح بدوره إلى أنه بلور فكرة عميقة عن مدينة سبها , وما سرده الباحث عزز ما ورد بكتاب الأستاذ علي عبداللطيف احميدة الذي اطلع عليه سابقا وهو الهدف الذي دفع به إلى الحضور والأستماع للمحاضرة .
جمعة الدويب تساءل عن أنعكاسات المعاناة الشخصية للباحث على أدبه القصصي . عبدالعزيز الزني وكونه مسرحيا ومهتم بأمور المسرح طرح تساؤلاته كذلك عن غياب المسرح عن كل هذا العرض المستفيض .
كل هاته الأستفسارات والتعطش للمعرفة أجاب عنه الباحث باختصار , فيما طمأن الجميع على أن الكتاب المزمع تأليفه عن هذه العشرية الزمنية يحتوي على الكثير من التفاصيل ويشمل مجالات شتى بما فيها الحركة المسرحية والأثرية والكشفية وغيرها من النشاطات الأهلية .
وهنا يعلن مدير الجلسة عن انتهاء المحاضرة على أمل اللقاء بالجمهور الحبيب في منشط ثقافي أخر من أنشطة الجمعية الليبية للآداب والفنون .