مفتاح العلواني
تخبرنا الحكاية أيضاً أنّ أحد الشعراءِ الشعبيين كان معجباً بامرأةٍ إعجاباً شديداً.. وكثيراً ما كان يتغنّى بها.. لكنّه أيضاً كان يحبّ زوجتهُ أكثر من أي شيء.. وتُبادلهُ زوجته الحب ذاته.. وأنّه عندما مرِض ذلك الشاعر مرَض الموتِ دخلَ في غيبوبةٍ طويلةٍ جداً.. فما كان من زوجتهِ بعد أن طالت غيبوتهُ إلا أن قصدَت تلك المرأةَ التي كان يتغنى بها زوجها فقد كانت تعرفها وطلبت منها طلباً يحملُ في جنباتهِ الكثير الكثير من الشجنِ والألم والحب!!
قالت لها:
(نبيك تزوريه شي مرة .. بالك يوعالك)
نعم.. طلبت منها أن تزور زوجها الغائب الحاضر لرُبما شعرَ بها واستفاق من غيابه.. ولا يهمّ بعدها إن كان سيبقى معي أو معك.. ولا يعنيني كونهُ سيستأنف مسيرة الحب بيننا أم سيُكملها معك.. ما يهمني أن يرجع فقط.. أن يتحدث ويترنّم بـ(الغناوي) وإن لم تكُن عني.. أن أعرفَ أنه صار يقفُ مجدداً.. يستنشقُ النسمة ويضحك للريح.. حينها فقط يمكنني أن أغفر لك وله.. فقط زوريه من أجلي !!
يا إلهنا العظيم ..
كيف للنفس أن تطأ على كبريائها وأنانيتها من أجل شخصٍ ما؟! ما الذي يدفعنا للتخلي عن الأحبة لا لشيء.. إلا ليكونوا بخير بعيداً عنا؟! أيُعقل أن يكون دواءُ المحبين في البعدِ أحياناً؟! إن ذلك لأمر تذهل عنه العقول ولا تستمرئ النفس النقية حقيقته.. تقول الغنّاوة*:
( عزيز هو دواي و داي .. و مشكاي و طبيبي و علتي )
معضلة حقيقية هنا.. شخصٌ ما هو دواؤك وداؤك وشكواك وطبيبك وعلّتك !! أين المفر منه سوى بالبُعد أحياناً؟!
يحدثُ أن تكون قريباً من الحبيب.. قريباً بشكل لا يمكنك معه الوصول إليه!! تظلّ عندها تندبُ حظّك العاثر.. وتعاتب الأيام على تراخيها معك.. ترمي التُهم جزافاً حتى على الجمادات وتظنّ أنها شاركت في هذه المؤامرةِ بشكل ما.
ويحدثُ أيضاً أن يتركك حبيبكَ أي حبيب رجلاً كانَ أم امرأة ويهمس لروحك أن ذلك من أجلك.. لكنك لا تستسيغ الفكرة.. لا تتشرّبها.. وتصرّ على أن بقائه يحييك .
( يقولون لا تبعُد و هم يدفنونني .. و أين مكانُ البُعدِ إلا مكانيا )
يعاتبُ ابن الريي صحبهُ.. يودعهم بحرفٍ دامعٍ وعين منهمرةٍ بالفراق الأليم .. أتأمرونني بالبقاء؟! ها أنا باقٍ.. بيننا شبران أو ثلاثة.. ولكنّني بعيدٌ.. بعيد بالقدر الذي يمنعني من العودةِ إليكم!
بعضهم عندما يتركونَك يخلّفون ثقباً في قلبك.. كل الذين ستعرفهم بعد ذلك سيمرّون من خلاله.. و ستسمعُ لمرورهم صفيراً كـ صفير الريح!! نعم لا تضحك.. الأمر مرعب حقاً.. أن تتنفس أحدهم ثم يختفي هكذا فجأة بلا مقدمات حتى.
عندما قررت سيليفا بلاث أن تنتحر.. تركت رسالة طويلةً لزوجها جاء فيها :
(…لم أعد قادرة على المقاومة أكثر، أنا أعلم أنني أدمر حياتك، وأنك من دوني ستستطيع أن تعمل، كما ترى، أنا لا أستطيع حتى أن أكتب هذا، بالصورة الصحيحة، لا أستطيع حتى أن أقرأ…)
أرأيتم ؟! إنها لم تعُد حتى قادرةً على القراءة.. ليس حزناً على الحياة، أو المال، أو أحدٍ من أهلها .. وإنما حنين مسبق لزوجها.. زوجها فقط من كانت تخنقها الغصّة لأجله وحدّثته قبل أن تقتل نفسها.. لأنه الوحيد من كل هذا الكون الذي أحبّته.. وظل ينخرُ في ذاكرتها حتى ماتت.
أعرفُ صديقاً كان كلّما قال لـ حبيبته (أحبك).. قالت له أنت تكذب.. فيحلفُ لها بأغلظ الأيمان أنه يحبها فتقول: أنت تكذب.. ثم بعد أن تزوجها قالت له: كنتُ أعرف أنك تحبني حقاً.. لكنني لو صدّقتك ساعتها فلن أسمعها بلهفةٍ كما في كل مرة.. وأنت موقن يا عزيزي أنني أشهقك ولا أزفرك .
استمتعوا بأحبتكم.. ( رفقاؤكم ، إخوتكم، أخواتكم، آباؤكم، أمهاتكم ..) لا تجعلوا أحاديثهم عابرةً هكذا.. أمعنوا النظر في عيونهم وهم يبتسمون لقدومكم .. ستعرفون أن الحياة كل الحياةِ في تفاصيلهم.. وأنهم لو غابوا عنكم لن تفعلوا شيئاً عدا أنكم ستقفُون وسط ضبابِ عمركُم الكثيف.. تميلُون برؤوسكم وتنظرُون بعيون نصف مغمضة.. لـ تتبيّنوا ملامحَ القادمِين .. تقولون ربّما هم.. لكنّ أحداً لم يصِل.. فتطلقون تنهيدةً ساخنةً وترجعُون بخيبةٍ طويلة طول غيابهم.. بينمَا يهمس الطريقُ لكم: عُودوا في الغد لعلّهم تائهون فقط !!
*-لغير الليبيين
الغناوة : هي فولكلور ليبي
تقال في شكل بيت واحد.. يختصر قصة طويلة.