إنّ من أسباب التوحش الذي يعترينا، هو أننا اخترنا لأنفسنا رموزاً ذات خلفية عسكرية، ولم نختر بالمقابل رموزاً تقاوم هذه النزعة الانسانية نحو الحرب، القتال و”الجهاد”، إذا سألت مواطناً عادياً: هل تعرف عمر المختار؟ سيتعجب من طرحك للسؤال نفسه، في المقابل إذا سألت ذات المواطن: هل تعرف إبراهيم الكوني؟ ستراه ربما يلقي بعض الإجابات غير المنطقية كإبراهيم صاحب مطعم الشاورما الذي يعرفه، أو ربما يحاول أن يربط في ذاكرته الاسم بسياسي ما، أو متورط في عمليات النزاع السياسي، كإبراهيم جضران. بالطبع الأمر ليس عيب المواطن لعدم معرفته بالكوني وبإلمامه بالمختار، بل هو عيب حكومات وسلطات ونظام تعليمي لم يجتهد حتى في التعريف بالشخصيات التي تملك القوى الناعمة بعيداً عن دعم الناس لمتابعة أعمالها وتحريضهم على قراءتهم أو تذوق ما يصنعونه.
كل بلاد لها رموزها العسكرية، هذا شيء طبيعي، لكن أن تتلخص الرموز العسكرية في ثلاث شخصيات: عمر المختار، القذافي، والآن خليفة حفتر. فهنا المأساة، وأن تتلخص كافة الرموز في الرموز العسكرية، هذه هي الكارثة.
الرموز -رغم كراهيتي لاعتبار شخص ما قدوة- تلعب دورا ثقافيا واجتماعياً مهماً لدى الجماهير، هي الانعكاس لهويتها، لما تؤمن به، لما تراه صحيحاً أو خطأً، هي باختصار: الصورة التي يرى بها المواطن والأجنبي سواءً هذه الدولة، إذ لا تتعجب حقيقة من أجانب يعرفون القذافي، بل ربما يظنون أن الليبيون أجمعين يشبهون القذافي حتى في ملامح وجوههم.
الدعوة لإنشاء رموز أخرى تتغلب على الغريزة الوحشية/العسكرية فينا هو أمر لازم، ليس لتعريف الشباب أو البالغين الليبيين بما فقدوه في بلادهم، بل للأطفال الليبيين، الذين ينشأون الآن في زمن الحرب، ويعلمون في مدارسهم دروساً عن المعارك التي خاضها المختار والسويحلي ضد الاحتلال الإيطالي، يجب تعريفهم برموز الأدب ككامل المقهور، خليفة الفاخري، رموز الفن كسلام قدري، محمد حسن، رموز البناء والعمارة كالجينرال بالبو (بعيداً عن كونها محتلاً وإيطالياً)، رموز التسامح، رموز النسوية، رموز السياسة الرشيدة والحكيمة كمحمود المنتصر، أن تفتح آفاقهم أننا نفلح الحياة أكبر من معضلة الانتصار أو الموت، بل أنها ضد الانتصار أو الموت، أنها التسامح أو الموت، البناء أو الموت، التطور أو الموت، العلم أو الموت، التنوع أو الموت… الموت المعرفي والثقافي والانساني.
كون الرموز رموزاً لا يعني تقديسها، بل يجب إظهار الجانب الحقيقي فيها، الجانب الانساني البعيد عن كل تقديس وترفيع عن مكانتهم، عمر المختار لم يكن أجل الشيوخ وأنقى المجاهدين، كان رجلاً عادياً، بفكر عشرينيات القرن الماضي، له ما له وعليه ما عليه، له أنه كان مناضلاً، عليه ما ذكرته المصادر التاريخية على أنها عقوبات أنزلها بالمتخلفين عن القتال، عقوبات يستحقونها.