وأنا أنتقل عبر القنوات الفضائية بواسطة الريموت كنترول توقفت عند احدى القنوات الليبية ،وجدتها تبث برنامجا ثقافيا، فامتلأ قلبي بالحبور ، وحمدت الله أن القنوات الفضائية الليبية مازال عندها بال واسع للثقافة بعد أن احتلها المحللون السياسيون خلال السنوات الماضية وهيمنوا عليها تماما ، كان عنوان الحلقة : مفهوم السعادة في الحياة ، فازددت حبورا وفرحا وبهجة ، وقلت لنفسي : هل مازل هناك من يتكلم عن السعادة في هذا الظرف الشديد كما يقول أيمن الاعترفي أغنيته الشهيرة
وطنا ياوطنا ؟
كان الضيف وهو شاعر ( أو شاعر بأنه كذلك ) يشرح للمشاهد الليبي كيف يكون المرء سعيدا قائلا : لاداعي لأن ننزعج إن لم يكن لدينا خبز في البيت ، لاداعي أن نتضايق إذا جاءنا ضيف ولم يكن لدينا في الثلاحة عصير أو مشروبات نقدمها له ، بامكانك عزيزي المشاهد أن تملأ كوبا بالماء وتعصر فيه حبة ليمون قارس وشوية سكر وتقدمه لضيفك يحتسيه ، وتحتسي أنت كاسا مماثلا ، وتعيشان أوقاتا طيبة في سعادة وانتشاء . قاطعه المذيع : الحقيقة أن السعادة من حولنا لكننا لانراها ، وراح المذيع يفيض في شرح هذه المقولة الفكرية الثورية الخالدة التي قالها منذ قليل منتزعا الكلام من الضيف الذي تحول في لحظة إلى مذيع ، فيما تحول المذيع إلى ضيف الحلقة ، وهو أمر سحري لايمكن أن يحدث بالنسبة لقنوات العالم أجمع ، لكنه يعتبر أمرا عادية بالنسبة للقنوات الليبية لأن المذيعين الليبيين تعودوا منذ زمن طويل على جمهرة المواقع ، إنه أمر عادي للغاية يحدث في ارقى القنوات الليبية ، الغريب هو أن تجد الشاعر قد كتب في ذلك اليوم على صفحته على الفيس بوك خبرا يقول : سوف يُجري معي الليلة على قناة كذا المذيع فلان الفلاني لقاءا تلفزيا فكونوا في الموعد ، بينما الصحيح هو أن يقول : سوف أجري الليلة لقاءا مع المذيع فلان فكونوا في الموعد .
ولأنني اعتدت على مثل هذه اللقاءات التي ينقلب فيها الضيف إلى مذيع والمذيع إلى ضيف ، لم استغرب الأمر، ولكني وأنا أحتسي السعادة المندلقة من الشاشة بفضل كلام المذيع وضيفه صاحب اقتراح الليموناضة ، انتبهت إلى فجأة إلى الضيف الذي كان مذيعا في بداية الحلقة وهو يقول : إن لكل مرحلة عمرية حلاوتها ، للطفولة حلاوتها ،وللكهولة كذلك ، وللشباب حلاوته وللشيخوخة حلاوة وعلينا أن نعيش هذه الحلاوة التي تغمرنا من كل جانب دون أن ندري ، ودون أن نعي ذلك ، لأننا في أغلب الأحيان لاننتبه لحلاوة العيش ، ومن فرط الكلام الحلو وجدتني انتقل ببصري إلى الشريط الإخباري الذي كان يجري تحت قدمي المذيع وضيفه على ذات الشاشة ، كان الشريط يزف للمواطنين أخبارا سعيدة عن إغلاق آبار نفطية من قبل قبيلة ابصر منو في منطقة ابصر شنو ، وأخبارا عن اشتباكات مسلحة بين كتيبة ابصر منو وكتيبة ابصر منو، وخبرا انقطاعات في التيار الكهربائي بسبب سرقة كوابل كهربائية من قبل ليبيين حلوين ، وأخبارا عن انقطاع المياه عن مدينة أبصر شنو لأن قبيلة ابصر منو الحلوة أغلقت الخزانات التي تزود تلك المدينة بالمياه إلى حين توظيف ابنائها الحلوين في الدولة ، وخبرا عن إضراب العاملين في مستشفى ابصر شنو عن العمل لأن مسلحين حلوين اقتحموا المستشفى وضربوا الاطباء والممرضات وقتلوا المرضى ، وخبرا عن ناطق عسكري باسم أبصر شنو ينهي بيانه الحربي بعبارة : إما أن ننتصر أو نموت أو نفنى جميعا ، فتكتشف أنه تمت إضافة حلوة للمقولة الشهيرة ” إما ان ننتصر أو نموت ” وهي : ” أن نفنى جميعا ” ..فتصفق منتشيا وتصيح : حلو .
ويتضاعف احساسك بالسعادة ، وأنت تقرأ هذه الأخبارالحلوة وتتابع برامج ثقافية حلوة تجعلك تتجرع السعادة وأنت جالس في مقعدك دون خسائر مادية تذكر ودون حتى أن تترك بيتك ، تندلق عليك السعادة اندلاقا من تلك الشاشات الليبية الحلوة ، فتنهض من مكانك وقد ثملت من فرط السعادة حتى انك تسير مترنحا صوب المطبخ ، وهناك تتوج سعادتك بكأس ليموناضة تعدها بنفس الطريقة التي اكتشفها لأول مرة في التاريخ الشاعر الذي تحول إلى مذيع قبل قليل في البرنامج الثقافي ، تحتسي كاسك متلذذا ، متخيلا السعادة التي سوف ينتشي بها ضيفك حين تُعد له كاسا مشابها وكأسا آخر لك تحتسيانهما معا في الصالون .
ومن وفرط السعادة ، من فرط الحلاوة ، سوف يهجرك، النوم ، وتظل تتقلب في فراشك طويلا .