وكأن المطر كان ينتظر وصولنا منزل الفنان التشكيلي محمد عبد الهادي استيته، فلقد سبقت تلك الليلة، أيام برد قارص، وسحب وبرق خُلبُ، كانت (قرة عنز) حقيقية؛ ولكن تلك الليلة انسكب نهر من السماء فوق ميدان البركة مباشرة. استقبلنا المرحوم بابتسامته الدافئة ودماثته المعتادة. كان ملتفا بجلباب مغربي بني اللون بكوفية غطت الرأس والأذنين. تصافحنا داخل السقيفة، ودخلنا غرفة الجلوس وجلسنا بعيدين عن المدفأة المتوهجة. كان الدفء يغمر المكان.
ولو لم نكن على موعد مسبق لحال ذلك الطقس دون متعة تلك الليلة الرائعة التي لم تتوقف أمطارها. كان محمد استيته في ذلك الوقت قد افتتح مرسما في قصر المنار وصار قبلة للعددين من الفنانين الشباب، الذين أثروا سريعا مشهدنا التشكيلي بأعمال فنية غاية في الجمال والعمق، أذكر منهم حسين ديهوم، محمود الحاسي، عادل جربوع، محمد البرغثي وعبد القادر بدر.
لم أكن أعرف حينها أكثر من جمال الصورة وتناسق ألوانها. ولكن من بعد نقاش وشروحات من موهبة درست الفن في إيطاليا، مع خليفه الفاخري الكاتب العاشق لكل ما هو جميل ظللت منصتا، كتلميذ مجتهد، طوال تلك الليلة التي مضت سريعا، منذ أن حكى الأستاذ محمد استيته عن الرسام (ماتيس)، الذي أجاب فتاة كانت تتأمله وهو يرسم سيدة ثم قالت له: “أرى يا سيدي أنك رسمت السيدة بذراع أطول من المعتاد!” فأجابها متبسما: “يا سيدتي ما ترينه ليس سيدة ولكنها صورة.. مجرد صورة!! “.
وتشعب الحديث من الفن والرسم والألوان إلى نقطة لا أعتقد أننا ننتبه إليها بسهولة، وهي التي تفسر الأشكال التي يفاجئنا بها الفنانون التشكيليون، والتي تختلف أحيانا عما اعتدنا رؤيته من بشر أو حيوانات أو طبيعة صامته، والتي تكون أحيانا من أشكال يرسمها الأطفال ويحاولون إقناعنا بأنها صورة لقطة أو إنسان، ولهم الحق في ذلك، والسبب في ذلك هي الحالة التي نسميها الإبصار.
فالأمر، ببساطة، أن عيوننا ترى ما سبق وأن تعلمناه، لا ما هو واقع وحقيقي، بل ما سبق وأن تخزن في عقولنا من صور، فالعين مجرد عدسة تلتقط الشكل وتنقله إلى المخ وهو الذي يقوم بإخبارنا عنها بحسب ما سبق وأن تخزن فيه. ولو فقد الإنسان حاسة البصر مبكرا يصعب عليه كثيرا تفسير الألوان.
في ستينيات القرن الماضي كانت مصر تجاهد بخلق صناعة محلية، ومن أجل ذلك منعت استيراد الكماليات، وكانت رباط العنق من هذه المحظورات. وكان أخونا مصطفى الكرامي قد ارتبط بصداقة مع الفنان البصير سريع البديهة سيد مكاوي، فسأله ذات مرة أن يحضر له (كرفتات) من ليبيا، وبالفعل في الرحلة التالية أحضر له عددا منها، ومن بعد أن أخرجها الفنان سيد مكاوي من الكيس رفعها يتحسس ملمسها ثم رفعها أمام عينيه المخفيتين وراء نظارته السوداء، وكانه يتأمل ألوانها، ثم ابتسم ساخرا وقال لمصطفى: “بالذمة دي ألوان تجيبها!” وانفجر ضاحكا وسط حيرة مصطفى، ثم استطرد ضاحكا: “أنا ما اعرفش الأحمر من الأسود.. بس بحب الأصفر!”.
والمخ الذي عجزت عدسة العين عن أن تنقل إليه الألوان يظل لا يعرفها، ويحكى أن شيخا ولد بصيرا، ولم ير شيئا على الإطلاق، ويقال أنه عينيه أبصرتا فجأة خروفا، ثم عاد العمى إليه ثانية. ومنذ ذلك اليوم ما إن يحدثه أحد عن شيء كأن يخبره عن دبابة مثلا، حتى يسأله: “أين هي من الخروف؟”.
البصر باختصار شديد لا يعطيك معني للشكل بل ينقله، المخ هو الذي يصنفها، ونحن نرى الأشياء كما نريد نحن، بمعني كما هي مصنفة في أدمغتنا، وليس كما هي في الواقع. وفسر لنا الفنان محمد استيته، أن خبيرا لامعا في الفن اسمه (جومبريتش) انتبه إلى أن الرسامين القدامى كانوا يرسمون عيون الجياد برموش على الجفون السفلية، والواقع أنه ليس للخيل رموش على الجفون السفلية، وسبب ذلك أن أدمغتهم مخزنة الأجفان – كل الأجفان – برموش سفلية وعلوية !
لقد وصل حديثنا تلك الليلة إلى أن الفنان المبدع يمنحنا عيونا نرى بها مالم يخزن مسبقا في عقولنا، صورا وأشكالا لا نعرفها، ابتدعها من وحي خياله، وحولها إلى واقع، وقد فسره ذلك فنان تشكيلي أخر سئل عن أصعب جزء في الصورة، فأجاب: “إنه ذلك الذي ينبغي تركه خارجها”.
رحم الله كل من ابتدع لنا شيئا مبهجا؛ كلمة كانت أو رسما، أو نغما.