المقالة

ضحيتان

من أعمال التشكيلي الليبي جمال الشريف (من معرض دمى)
من أعمال التشكيلي الليبي جمال الشريف (من معرض دمى)

الضحية الأولى المفكر المصري سيد قطب، والثانية المفكر السعودي عبد الله القصيمي، كلاهما ضحية الصراعات والنقاشات الفكرية والعقدية المختلفة التي ابتدأت منذ مطلع القرن الماضي بين أنصار الحداثة والابتداع وأنصار القديم والاتباع، والتي حاولت ولا تزال إلى يومنا هذا أن تجيب عن السؤال المتجدد: لماذا نحن المسلمين والعرب تخلفنا وتقدم غيرنا؟

سيد قطب (1906 ـ 1966) كان في شبابه شاعرا وأديبا وناقدا، غير معني بالشأن الديني كثيرا، ويقال إن كتاباته وأشعاره التي دعتْ إلى الحياة الليبرالية والتمرد على أعراف المجتمع أثارت حفيظة الإخوان المسلمين وهم في أوج قوتهم آنذاك، حتى إنهم شكوا جرأته وتمرده إلى المؤسس حسن البنا، والواقع أن تلك الكتابات الجريئة قليلة، فللرجل كتابات أخرى عن الإسلام ونظامه وعدالته كتبها قبل أن ينضم إلى الإخوان.

لكن هناك حدث كبير في حياة الرجل يبدو أنه هو الذي قلبها رأسا على عقب، وحوَّله من شاعر وأديب وناقد إلى داعية ومنظر للفكر الإسلامي ، فقد أُرسل عام 1948م من قبل وزارة المعارف إلى أميركا  في بعثة تتعلق بالمناهج وأصول التربية، وأقام فيها بعض الوقت، وحين رجع إلى مصر كتب عنها كتابا عنوانه ( أميركا التي رأيتُ) ذم فيه المجتمع الأميركي وسلوكياته وتآمر حكومته على الشعوب الضعيفة من أجل نهب ثرواتها وإفساد قيمها وموروثاتها ، لذلك كله ترك سيد قطب الشعر والأدب والنقد، وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين التي كانت معارضة لحكم الملك ، وأخذ يكتب ويدعو إلى إقامة مجتمع مسلم يحتكم في أمور حياته كلها إلى شرع الله ، ويحل محل مجتمع الجاهلية الكافر الرافض لتطبيق ما أنزل الله.

هكذا غرق سيد قطب في بحر لجي من التفكير في كيفية إخراج المجتمع المسلم  من حكم جاهلية القرن العشرين وإعادته إلى حكم الإسلام كما كان في عهد النبوة ، وقد تجاذبت قطب في هذه الفترة  تيارات ذاك البحر وأمواجه العاتية، لعل أبرزها تأثره بفكر المفكر الإسلامي الهندي أبي الأعلى المودودي صاحب فكرة ( الحاكمية)، فسقط بهذا في هوة الغلو الفكري والتشدد والقول بتكفير المجتمعات المسلمة، وهذا يتضح من كتابيه ( معالم في الطريق ـ في ظلال القرآن) ،وهو ما أدى إلى محاكمته والحكم عليه بالإعدام، وكان ينبغي لمن حاكموه أن يجابهوا فكره بفكر مضاد لا أن يجابهوه بحبل المشنقة.

سيد قطب (الصورة: عن الشبكة)
سيد قطب (الصورة: عن الشبكة)

ومن الغرائب أن في الوقت الذي أعدمت فيه مصر بلد الأزهر والوسطية سيد قطب المفكر المسلم، اكتفت السعودية منبع الفكر المتشدد آنذاك بإبعاد عبد الله القصيمي الملحد إلى مصر، ولم تحاكمه بتهمة الردة، بل وفرت له السكن والإقامة فيها، وصرفت له راتبا إلى يوم مماته.

وفي سيرة عبد الله علي القصيمي (1907 ـ 1996م) أنه عاش نصف عمره مسلما متطرفا شديد التعصب للفكر السلفي الوهابي، وقضى النصف الثاني من عمره ملحدا متطرفا شديد العداء للأديان وساخرا ممن يؤمن بها.

حين كان مسلما كان عنيفا في ردوده على شيوخ الأزهر ومزدريا لهم، بل إنه كان يميل إلى تكفير كل من خالف فكر وفتاوى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحين انقلب على عقبيه وألحد، كان عنيفا وقاسيا على كل مؤمن بأي دين، فلم أقرأ في حياتي قط كلاما عدائيا ومستفزا بسخريته وتهكمه من الله ورسله والمؤمنين بهما مثلما قرأته في كتب هذا الكاتب.

قبل انقلابه كان عبد الله القصيمي يوصف من قبل كبار شيوخ السلفية في السعودية بألقاب كثيرة مثل الشيخ العالم وعلامة العصر وحامي حمى الإسلام ونصير أهل السنة والجماعة ، وقد نظم فيه شعراء ذلك الوقت قصائد تشيد بدفاعه عن الإسلام وتثني على براعته في مناظراته لخصوم الإسلام السلفي ، وفي هذه الفترة ألف كتابات من بينها : (الفصل الحاسم بين الوهابيين وخصومهم) ، و (مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها)، و(الصراع بين الإسلام والوثنية) ، وبعد انقلابه ألف كتبا تؤكد إلحاده، أولها كتاب (هذه هي الأغلال)، ثم أصدر كتاب (يكذبون كي يروا الله جميلا)،و(العالم ليس عقلا)، و(العرب ظاهرة صوتية).

عبدالله القصيمي (الصورة: عن الشبكة)
عبدالله القصيمي (الصورة: عن الشبكة)

وإذا كان المفكرون قد أرجعوا سبب انقلاب سيد قطب إلى زيارته لأميركا ورجوعه منها ساخطا على حضارة الغرب، فإن لا أحد من المفكرين استطاع أن يقدم تفسيرا مقنعا لانقلاب القصيمي الذي زلزل أركان المؤسسة الدينية في السعودية وفي العالم الإسلامي كله، وسبَّب لها صدمة وإحراجا كبيرين.

ولا شك أن ما حدث للقصيمي أمر غريب ومبهم حقا، إذ كيف لرجل يعد من غلاة دعاة الفكر السلفي الوهابي ينقلب فجأة وبدون مقدمات إلى أحد عتاة وغلاة الملحدين العرب؟

هل كان إلحاده بسبب صدمة نفسية عرضت له؟ أم بسبب قراءات كثيرة عن فلسفة الإلحاد وعن سير الملحدين؟ أم بسبب أنه لم يأخذ منذ صغره بوصايا النبي صلى الله عليه وسلم التي دعا فيها أصحابه إلى عدم الغلو والتنطع في الدين، وإلى أن يوغل المسلم برفق وعقلانية في الدين، وألا يشاد الدين حتى لا يغلبه؟

لا يمكن أن نغفل أن العصر الذي عاش فيه القصيمي قد شاعت فيه حركات التحرر الفكري، والدعوة إلى الثورة على الموروث والمقدس والقول بانتهاء صلاحيته وموته.

ولا يمكن أيضا أن نغفل أن القصيمي نشأ في كنف والد متزمت في العبادة والمعاملة، وفي بيئة بدوية متشددة تربي الأبناء على الطاعة العمياء والالتزام بكل ما هو موروث، ومن الممكن أن القصيمي في ظل هذا الفضاء البدوي المتشدد أخذ كما يبدو (جرعات دينية وروحانية) تفوق حاجاته وقدراته حتى وصل إلى درجة لا تطاق من التشبع من هذا الزاد الروحي، مما أدى به إلى الملل منه والانقلاب عليه والبحث عن بديل له، وذلك بالقراءة الحرة التي لم تخضع لمراقبة الحاسة النقدية.

نسأل الله العلي القدير حسن الخاتمة.

مقالات ذات علاقة

جيل ورسالة

يونس شعبان الفنادي

المثقف المليشياوي

المشرف العام

حول الكتابة

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق