المقالة

قُتِلَ الجعد ومات إبن الراوندي (!!!…)(2/3)

(2)ابن الراوندي

وفي حين ان التاريخ الشخصي للجعد ابن درهم شحيح جدا، نرى بالمقابل معلومات مستفاضة عن ابن الراوندي بسبب كتاباته الكثيرة والردود عليها. يكنى ابن الراوندي بأبو الحسن، واسمه أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي، نسبة إلى قرية راوند الفارسية، ولد عام 210 هجري (870 ميلادي). درس في المدرسة الإسلامية بقريته مقدمات العلوم، تم رحل عنها الى الري التي كانت منارة من منارات العلوم في الشرق والتحق بمدارسها.

عرف عنه في مدارس الري الجد والمتابرة، فنال اعجاب أساتذته وزملائه، وكان كما تقول المصادر طيب السيرة ونقي السريرة، تقي ومجتهدا في اداء فرائضه، مراعيا للسنة، محافظا على الآداب العامة. ورغم قصر اقامته في مدينة الرى، فقد الف فيها كتابه الاول (الابتداء ولإعادة) والثاني (الأسماء والأحكام)، وفي كل الكتابين لم يظهر فيهما ما يشير الى انحرافه عن الدين كما تتفق المصادر التي ذكرتها، بل تبين فيهما صدق الانتماء وعمق الايمان. ترك ابن الراوندي قرية الري وارتحل الى عاصمة العلم والثقافة والسياسية الى بغداد، وفيها تقلب في عقيدته وانتمائه الى ان انتهى الامر به الى الالحاد كما سجلت كتب التاريخ.

في بغداد مارس مهنة النسخ، وهذه المهنة مكنته من الاطلاع على امهات كتب زمانه، فازداد علمه واصبح من الشخصيات العلمية البارزة، بل ومن اعلامهم، وانظم الى المعتزلة وكتب كتابه (خلق القرآن)، الا انه ما لبث ان انقلب عن المعتزلة وكتب كتاب في مهاجمتهم، من هذه الكتب كتاب (فضيحة المعتزلة) الذي رد فيه وانتقد كتاب الجاحظ (فضيلة المعتزلة).

ترك الاعتزال وتشيع، وكتب في فترة تشيعه القصيرة كتاب (الامامة)، ثم ما لبث وان الحد وبدأ في مهاجمة الدين والطعن فيه، وتطرق في انتقاده للتوحيد إلى التشكيك في صفات الله مرة، وفي نفيها مرة أخرى، وطعن في نبوة الأنبياء وأنكرها، حتى وصل به إلحاده إنكار وجود الله وأزلية العالم.

وقد ضمن فكره الالحادي كتابه (الزمرد)، الذي تجرى وتجاسر فيه بالتشكيك في النبوة، وسخر فيه من العقائد، وأنكر المعجرات الحسية، وأكد على سمو العقل على النقل، وبين أوجه التعارض بين الشريعة والعقل، وأنكر معجزات الرسول، ونقد فكرة اعجاز القرآن .

ومن غريب ما نقل عنه في ظني والذي يتنافي مع الحاده، انه التقى ذات مرة ابو علي الجبائي، وهو من كبار شيوخ المعتزلة واستاذ ابو الحسن الاشعري. فسأله :”أما تسمع مني معارضتي للقرآن وتقضي له؟” 
فرد عليه أبو علي: “أنا أعرف بمجاري علومك، وعلوم أهل دهرك، ولكن أحاكمك إلى نفسك، فهل تجد في معارضتك له عذوبةً وهشاشة وتشاكلاً وتلازماً ونظماً كنظمه وحلاوة كحلاوته؟” فرد ابن الراوندي قائلاً:
“لا والله.”  فرد أبو علي: قد كفيتني فانصرف حيث شئت. واذا صدقنا هذه الرواية فلا شك اننا سنستنتج ان ابن الراوندي كان يعيش حالات من الشك ربما ادت به الى الالحاد، لكنها حالة من التذبدب بين هذا وذاك. وهناك رواية اخرى شبيه بهذه الرواية، فقد كان من عادة علماء العصر ان يعرضوا بضاعتهم على الخلفاء، وبالتالي اعجاب الخليفة باعمالهم يفتح لهم ابواب الرزق والجاه. فسعى كما يسعى غيره عن طريق احد الوراقين (الوراق في ذلك الزمن يساوى دور النشر في عصرنا)، وعرض عليه احد كتبه لاستنساخها وتقديمها للخليفة العباسي، فشرع الوراق يتصفح الكتاب، ودقق النظر في عناوين فصوله، وكانت حيرته تزداد كلما ازداد وقوفاً على محتويات الكتاب وجرأة صاحبه. فعاد الوراق يقول له: لقد أنكرت الأصول الثلاثة للإسلام، وهي التوحيد والنبوة والمعاد. فقال ابن الراوندي: ليس الأمر كما تتصور، فلو دققت النظر لعرفت أنني لم أنكر التوحيد، وإنما رغبت في تنزيه الخالق عن الخرافات التي تنسب إليه. هذا المنهج الذي يبالغ في التنزيه هو منهج المعتزلة واصحاب الراي بصورة عامة، وليس مقتصر على شخص بعينه.

وهناك حوار شبيه بهذا الحوار جرى بين ابن الراوندي والخليفة المتوكل حين نجح في تقديم كتابه (الفرند) اليه، ونحن نعلم دور المتوكل في تقليم الاعتزال والقضاء عليه، بعد ان انتعش فكرهم ومذهبهم تحت حكم سابقيه على عهد المأمون والمعتصم والواثق، لكن موقفه من ابن الراوندي كان متواضع فلم يقر بتكفيره. نعم، يذكر ان المتوكل قد غضب من كلام ابن الراوندي في آراء الناس في الله وفي التوحيد، فقال له: أنت أنكرت وجود الله، وتقول إن ما تعتقده الناس في الله أسطورة من الأساطير انتقلت من جيل إلى جيل؟ فأجاب ابن الراوندي: يجب تصحيح قولي بأن أعظم الأساطير في حياة الإنسان هو تصوره عن الخالق. فسأله المتوكل: ما قصدك من هذا الكلام؟ قال: إن تصورات الإنسان عن الخالق والمبدأ محاطة بالأوهام والأساطير، لأن فكر الإنسان يعجز عن إدراك الخالق أو معرفة أوصافه. قال المتوكل: فإذن أنت تعترف بوجود الله، وتراه خالق كل شيء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. أعترف بذلك. والحوار مع المتوكل يطول وهو شيق وممتع، ويدل على فطنة وذكاء المتوكل، لكنه قد يفند اتهام ابن الراوندي بالالحاد من خلال رده على الخليفة، وقد تكون ردوده نوع من التقية التي كانت تنتشر بين بعض الطوائف الاسلامية حينها.

اعود فاقول، ان شهرة ابن الراوندي كانت نتيجة لعبقريته الفدة، وقلق الشك الذي يمر به، والتي قد يعود اسبابها الى ما عاناه من الفقر وضيق اليد. فقد عاش فقيرا رغم مكانته العلمية العالية، والتى لا اقل من التدليل عليها بعدد الكتب التي كتبها وردود علماء عصره البارزين عليها، ونظرياته التي قال بها. وكان، مثله كمثل علماء عصره، ضليعاً في جميع علوم يومه، كالطب والرياضيات والفلك والعلوم الدينية واللغة، ومن اغرب نظرياته في الطب تلك التي تنبها فيها إلى أن جسم الإنسان محاط طوال أيام حياته بأعداء تهم بالفتك به، ولكن الجسم نفسه يولد ما يقيه شرها، ويحافظ على سلامته وحياته، وهو يعني بذلك بلغة عصرنا الجسيمات المجهرية التي تهاجم جسم الانسان فيتصدى لها الجسم بافراز مواد مضادة لها او تقوم الكريات البيضاء بالتصدي لهذه الاجسام القاتلة فتلتهمها.

الف ابن الراوندي ما يزيد عن المائة كتاب، وتصدى للرد عليه كما اشرنا علماء كبار من مختلف الفرق الاسلامية المعاصرة له، فمن المعتزلة تصدى للرد عليه الخياط والجبائي، ومن الشيعة تصدى له اسماعيل بن علي النوبختي، كما تناول نقد كتبه ابو الحسن الاشعري وغيرهم كثير.

ما يهمنا في هذا السياق، ان هذه الطائفة من الآراء الجريئة التي نادى بها ابن الراوندي وأحدثت تلك الضجة في زمنه، ووظفت اقلام كبار علماء عصره بالتصدي لها، ومع كل ذلك لم تنتهي بقتله بتهمة الإلحاد والكفر،بل مات موتا عاديا في أخريات القرن الثالث الهجري عن عمر يقارب ثمانين سنة.

مقالات ذات علاقة

أين ليبيا التي عرفت؟ (10)

المشرف العام

الحرايمي، لَمْ يَكُنْ يهودياً

المشرف العام

محمد صدقي: الأغنية الليبية الحديثة الأم كانت بصوته

زياد العيساوي

اترك تعليق