في مراجعتي لمقالي (عندما يحكم المثقف)، والتي نشرتها تحت عنوان (عندما يحكم المثقف – مراجعة)، أنهيت المقال بقولي: (لقد أخرجني “النعاس” لعبتي، وأكد هذا الخروج “المحجوب”، وكلاهما باغتاني، وأعادني للتفكير من جديد، عن أهمية دور الثقف في المجتمع؟، ومستوى هذا الدور؟ ومدى تماسه المباشر مع السلطة؟ وهل من واجب المثقف التنظير أو النزول للميدان والعمل، وقيادة الجماهير؟، وقبل ذلك؛ من هو المثقف؟) وفي الختام وجهت دعوة مفتوحة: (الموضوع متاح للجميع للمشاركة.).
وسأحاول من خلال مجموعة المقالات القادمة، بإذن الله تعالى، الإجابة عن مجموعة التساؤلات، للفائدة الشخصية، والفائدة العامة. وسأبدأ مع المثقف. خاصة بعد تفاعل مجموعة الأصدقاء عبر التعليقات.
من هو المثقف؟ أو، ما هو تعريف المثقف؟
لغوياً: المثقف والثقافة مشتقان من مادة (ثقف)، والتي تدل – حسب ما جاء في معاجم اللغة العربية وقواميسها – على عدَّة معانٍ، منها: الحذق، وسرعة الفهم، والفطنة، والذكاء، وسرعة التعلُّم، وتسوية المعوجِّ من الأشياء، والظفَر بالشيء.
ومن مجموعة التعريفات اخترت:
المثقف هو الذي يضع نظرة شاملة لتغيير المجتمع.
المثقف هو الذي يعمل لصالح القطاعات العريضة في المجتمع.
المثقف يتميز بان لديه القدرة على النقد الاجتماعي والعلمي.
ويرى جان بول سارتر إن المثقف إنسان يتدخل ويدس أنفه فيما لا يعنيه.
أما الفيلسوف الإيطالي “غرامشي” في تعريفه للمثقف، فهو يميز بين نوعين؛ المثقف العضوي والمثقف التقليدي. ويعني بالمثقف العضوي: هو المثقف الذي يعمل على إنجاح المشروع السياسي والمجتمعي الخاص بالكتلة التاريخية المشكلة من الفلاحين (الجنوب الإيطالي) والعمال (الشمال الإيطالي). أما المثقف التقليدي فهو: المثقف الذي يوظف أدواته الثقافية للعمل على استمرار هيمنة الكتلة التاريخية السائدة المشكلة من الإقطاع والبرجوازية والفئة العليا الاكليروس.
وهو ما يؤكده المفكر “علي حرب” في كتابه (أوهام النخبة أو نقد المثقف)، إذ يعرف المثقف بأنه: ذلك الفرد الذي يبشر بقضايا كلية كبرى: كالحرية والثورة والوحدة والاشتراكية والعلمانية والعدالة وغير ذلك من مقولات التيارات الفكرية المختلفة.
بعد هذه التعريفات، دعونا نقف مع التعريف الاصطلاحي للمثقف، الذي يقول بإن المثقف: ناقدٌ اجتماعي، (همه أن يحدِّد، ويحلِّل، ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل، نظامٍ أكثر إنسانية، وأكثر عقلانية)، كما أنه الممثِّل لقوَة محرِّكةٍ اجتماعيًّا، (يمتلك من خلالها القدرةَ على تطوير المجتمع، من خلال تطوير أفكار هذا المجتمع ومفاهيمه الضرورية).
بعد مجموعة التعريفات، نتوقف عند نقطة مهمة، وهي أن المثقف شخص متصل مباشرة بالمجتمع، عارف ومحيط بقضاياه وهمومه، بالتالي فهو: يستطيع تحديدها وتحليلها، ووضع البرامج والخطط لتجاوزها.
النقطة الثانية والمهمة أيضاً، امتلاك المثقف وسائل التواصل مع مكونات المجتمع، والتي تؤهله لفهمها، وبالتالي القدرة على إحداث التغيير، من خلال تطور الأفكار والمفاهيم، وهي مكمن قوته.
التوقف الثالث، مسألة الثقافة، فهي ليست مجرد التقاء لغوي، بقدر ما هو التقاء معرفي، لابد منه ليكون المثقف، إذ من المهم أن يملك قدرًا من الثقافة التي تؤهله من نظرة شمولية، وقدرٍ من الالتزام الفكري والسياسي تجاه مجتمعه، وهو مبدع كل يوم، يستطيع بهذا الإبداع الثقافي أن يفصل بين تهذيبات القول وتجليات الفكر، بين الثقافة وعدم الثقافة، بين التحضر والتطور.
إذن هي ثلاث مرتكزات أساسية لكل مثقف، ليكون مثقفاً، الاتصال المباشر بالمجتمع، وامتلاكه وسائل التواصل مع مكونات المجتمع، وأخيراً الثقافة. هذه الشروط الثلاث، هي الأهم لتعريف المثقف، وبالتالي الاطلاع بدوره، الذي سيكون محور موضوعنا القادم، والذي سيكون في جزء منه، محاولة لفهم مقولة “سارتر”: مهمة المثقف إزعاج السلطة.