بقدر بهجة العيش بها لتوفرها على متطلبات الحياة الحديثة بمختلف أنواعها وزخم الحضور البشري وتنوعه فيها، تتميز المدن الكبرى في البلدان المتقدمة صناعياً وخدمياً ومعلوماتياً بكونها مراعي خصبة للوحدة والعزلة الاجتماعية. على عكس المدن الصغيرة يتحول ازدحام هذه المدن والعواصم الكبرى وشدة انشغال سكانها سعياً وراء أرزاقهم إلى بحار من فراغ موحش اجتماعياً لا يتيح لبهجة الألفة البشرية، ولا لتألق التواصل الإنساني مساحة للتمدد وتضيع فيه حيوات الأفراد، وتصير فريسة سهلة لأنياب صمت ووحشة «الكونكريت» وشراسة مخالب الوحدة.
باستثناء النسّاك والزُّهاد ومن على شاكلتهم ممن يختارون طوعاً العزلة كنمط للعيش كان الإنسان ولا يزال وسيظل كائناً اجتماعياً يولد ويكبر ويكمل دورة حياته في بيئة إنسانية تأسست بين أفرادها أواصر العيش المشترك وتطورت آليات التواصل الاجتماعي منذ القدم، إلا أن تطور الحياة المدنية وتعقدها في الغرب انعكس سلباً على الحياة الاجتماعية، حيث صارت العزلة ليست خياراً طوعياً بل ظاهرة مرضية منتشرة ذات مردود سلبي على حياة الناس والمجتمع، مما اضطر الكثير من الدول إلى تصميم ووضع السياسات لمعالجتها.
في بريطانيا، كمثال، توجد وزارة مهتمة بالرياضة والمجتمع المدني، أضيف إليها مهمة جديدة: العزلة. وتشير الإحصاءات الرسمية إلى وجود أكثر من تسعة ملايين شخص يعيشون في عزلة ويعانون الوحدة. ولا يقتصر هذا العدد الهائل على كبار السن بل يشمل أيضاً نسبة لا بأس بها من الشباب.
في الأيام القليلة الماضية أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية استراتيجية جديدة لمعالجة ظاهرة العزلة ووعدت بتطبيقها بحلول العام 2023. وبمقتضى هذه الاستراتيجية الجديدة ستتاح للأطباء فرصة تقديم وصفة اجتماعية وليس دوائية للمريض توصي بانضمامه إلى دورات تعليم الطبخ، أو نوادي التمشي، وتعليم الرسم والرقص وغيرها من الأنشطة الاجتماعية التي تتيح للمواطن فرصة مغادرة صمت جدران بيته والانضمام لهذه النوادي للتعارف والالتقاء بغيره من البشر، لكسر جدران عزلته ووحدته. وسيتم إشراك مكاتب البريد في تنفيذ هذه الاستراتيجية بحيث يشجع سعاة البريد على التأكد بشكل منتظم ودوري من سلامة الناس الذين يعيشون في عزلة وبُدئ فعلياً في تنفيذ المشروع تجريبياً في ثلاث مناطق بغرض تعميمه على كل البلاد في حالة ثبوت فاعليته.
هذا التوجه والاهتمام من قبل الحكومة البريطانية للتصدي لظاهرة العزلة الاجتماعية يعد إيجابياً ما لم يكن المقصود منه تخفيض الإنفاق الحكومي على العيادات والمستشفيات التي تتصدى لعلاج العزلة حالياً، بتقديمها وصفات دوائية غالية الثمن. ويحضرني في هذا السياق على سبيل المثال لا الحصر ما حدث في سنوات ماضية خلال فترة حكومة السيدة الحديدية مارغريت ثاتشر التي بغرض تقليص ميزانية وزارة الصحة، عمدت إلى تقديم مبادرة مماثلة عُرفت باسم مبادرة «العلاج في المجتمع» خاصة بمرضى الأمراض النفسية، ترتب عليها أن قامت المستشفيات والعيادات النفسية بتسريح للكثير من المرضى المقيمين بها ممن يعانون أمراضاً نفسية، بغرض تكفل أسرهم وجيرانهم ومن حولهم بتوفير جو اجتماعي إنساني، يكون بمثابة علاج لهم يساعدهم على التكيف الحياتي.
وقامت الحكومة بتسويق هذه المبادرة للناس لكن النتائج التي ظهرت بعد فترة زمنية قصيرة من تطبيقها كانت كارثية متسببة في موت كثير من الناس الأبرياء في الشوارع ومحطات القطارات، على أيدي أولئك المرضى الذين سرحوا من المستشفيات، مما أثار غضباً عارماً في وسائل الإعلام، فقامت الحكومة بإلغاء المبادرة وقامت المستشفيات بإعادة المرضى إلى حيث كانوا.
لم تكن صحة المرضى ولا صحة المجتمع الغرض من تلك المبادرة. الهدف غير المعلن كان تقليص ميزانية الصحة عبر تخفيض الإنفاق على العلاج النفسي. السيدة تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية قالت صراحة في إعلانها عن المبادرة الجديدة، إن أحد أهداف استراتيجيتها هذه تقليص مصاريف العلاج: العجين نفسه لكن اختلف الخباز!
كثير من ردود الأفعال إعلامياً حول مبادرة الحكومة التي صدرت وأطلعت عليها، سعت إلى التشكيك في جدواها، وأشار أصحابها، محقين، إلى أن مغادرة المواطنين الذين يعانون الوحدة وفقدان التواصل الاجتماعي لبيوتهم وتوجهم إلى صالات الرسم أو الرقص أو غيرها، ثم العودة لدى انتهائها إلى بيوت تسكنها العزلة ليس علاجاً ناجعاً، ما لم يتوفر حرص من الجهات المسؤولة والمتخصصة على خلق بيئة اجتماعية تتسم بالاستدامة، والعمل على ألا تنتهي العلاقات الإنسانية الجديدة التي تتكون خلال تلك الساعات القليلة بانتهاء حصص تعلم الرسم أو الطبخ أو الرقص.
_____________________________