تحت وطأة مشاغل الحياة وإدمان العالم الافتراضي والتماهي مع الذات لحد الجنون قد لا يجد المرء المحير إلا أن يسأل: هل هذه الحياة التي نعيشها بالفعل هي حياة الإنسان الحقيقية؟ هل نعيش واقعاً ملموساً أم خيالاً أم حُلماً مُستمراً؟ هل هي ظلال الحياة وليست الحياة ذاتها؟ كيف نعرف الحقيقة؟
الفيلسوف الصيني “تشانق تزو” (Chang Tzu) خاطب نفسه مرةً: (تشانق تزو حلم بانّه فراشة تطير وتحلق متنزهة في الهواء هنا وهناك، سعيدٌ مع نفسه، ويفعل كل ما يطيب له وكل ما يشاء ولا يعرف إنْ كان هو ذاته الفيلسوف، فجأة صحا من النوم فوجد نفسه وجهاً لوجه وفي دقة متناهية أنّه تشانق تزو.. لكنه لم يكن يعرف على وجه اليقين إنْ كان هو يحلم بأنّه فراشة، أو كان فراشة تحلم بأنها تشانق تزو).. استيقظ مندهشا مغموراً بالشك ولم يكن يعرف يقينياً بأنّ حياته حقيقة ملموسة. أوليس من الممكن أنْ تكون الفراشة هي الواقع ذاتها هي الحالمة بأنّها هي “تشانق تزو”! فثمة سؤال عادي على غرار هذه الحالة: كيف يمكن للمرء أن يعرف ويتيقن بأنه لا يحلم الآن؟ هل يعتقد أنّه يعيش حياة حقيقية؟
الفيلسوف اليوناني الشهير في كتابه (الجمهورية) حدّثنا عن مجموعة من البشر يعيشون في كهفٍ مقيدين وليس بوسعهم رؤية أي شيء إلا ظلالاً تظهر على جدار الكهف كالعرائس التي تقوم بتقليد الأشياء التي تظهر خارج الكهف تتحرك تحت ضوء الشمس، حيث لا يرى هؤلاء البشر إلا هذه الظلال في اعتقادٍ منهم بأنها هي الأمر الواقع لا لبس فيه وهو عالمهم الحقيقي وهم راضون بذلك. في أحد الأيام أستطاع أحدهم التخلص من القيود ومرق نافذاً خارج الكهف ليرى فجأة العالم الحقيقي كما هو، عاد ليخبر الجميع ولم يصدقه أحد بأنّ هناك في الخارج تظهر لكم الحقيقة واضحة ووضوح الشمس. عماد قصة الكهف أنّ افلاطون كان يحاول أنّ يجذب انتباه الإنسان إلى أنّ واقع الإنسان غير الكامل والمنقوص يشابه هذا الكهف كما كان يدعو للتفكير في أي نمط من أنماط الحياة يسعى الإنسان بأنْ يعيشه!
أمام هاتين الحالتين ثمة من سؤالين مهمين: كيف يمكن للإنسان أن يعرف بأنّه يعيش في الدنيا واقعاً حقيقياً ملموساً أم أنّه يحلم وحسب؟ وهل يمكن أن يعيش الإنسان حياة حقيقية في كهف اِفلاطون؟
في عالم اليوم قد يسأل المرء بناءً على السؤال الأول: هل نستطيع أنْ نعرف إنْ كنا نعيش داخل العالم الافتراضي أم خارجه؟ هل نستطيع أنْ نفرق بين العالم الافتراضي وبين العالم غير الافتراضي؟ هل نستطيع كبشرٍ أنْ نعيش حياة سعيدة في العالم الافتراضي على اعتبار أنّه هو العالم الحقيقي؟ ومن ثمة هل نستطيع معرفة كل شيء يحيط بنا في هذا العالم معرفةً يقينيةً؟ وهل عالمنا هذا الذي نعيشه عالمٌ افتراضي أم حقيقي؟
منذ القدم والإنسان يشكّ في أننا نمتلك المعرفة ونحيط علماً بكل شيْ! فلم يكن ليهدأ بل قد يعلن بصوتٍ عالٍ وبتواضعٍ معرفي تحت ضغط التفكير: (لا أحد يعرف أيما شيء) أو أنّ الشيء الذي يعرفه أنّه لا يعرف شيْ. ومنذ ذلك الزمن والإنسان يروغ في عالم دوائر الشّك وصولاً إلى الدائرة الكبرى أيّ الشك الكامل في اعتقادنا وفيما نعتقد فيه عن الحياة والكون.
سؤال ديكارت:
هل من الممكن أن يكون المرء يعيش حلماً طوال حياته؟ الفيلسوف الفرنسي ديكارت اعتقد في نفس السؤال. لنفترض أنّ أحداً لم يستيقظ منذ أن نام في الليلة الماضية، فهل بإمكانه أنْ يخبر عن ذلك؟ فالمرء ينتابه الشك في كثير من الأحيان، فقد يخبرك أحد الأصدقاء عن أمرٍ ما ولكنك قد لا تصدق ذلك أو تعتقد فيه، بل قد يبدأ المرء في الشّك في أشياء كثيرة كان يعتقد فيها بيقين تام. فقد سأل ديكارت الإنسان في زمانه: هل تعتقد الآن أنّك تحلم؟ فالشّك والحلم عرفهما الإنسان منذ الأزل. فاعتقاد المرء بأنّه يحلم طوال حياته ما هو إلا وصفة سحرية للشك في كلّ شيء فتحاً لأبواب المعرفة.
لكن ليس ثمة شيء يدعو للقلق فيما إذا كان الإنسان يشك كما هو الحال عند ديكارت أو إذا كان يحلم كما هو الحال مع “تشانق تزو”، كلا الحالتين تبين حالة الإنسان المعرفية وعلاقته بالواقع الذي يعيش فيه.
سؤال المعرفة:
ديكارت حينها كان يفكر عن سؤال المعرفة، عوضاً عن الشك هنا وهناك أو عن هذا وذاك فقد قام بالشك في كلّ شيْ. مسعى ديكارت كان معرفياً وحتى يمكن للوصول لذلك فقد رأى أنّ أفضل الطرق هو الشك في كل شيء يعرفه. وكيف نبدأ في أن نعرف؟
غير أنّ ديكارت فضلاً عن ذلك كان في باله شيْ آخر، فسؤال حلم الشك كان يعني له الخلاص من والتحرر من الاعتقاد الخاطئ. ومن ثمة أخذ يسعى في البحث عن شيء لا يخضع للشك! فاحتمال أنّه كان يحلم طوال حياته، أو الآن. قاده إلى السؤال: ما الذي كان يعرفه حتى الآن؟ ولماذا؟ ففي هذه الحالة كأنما المرء يسأل ذاته: أين أنا وماذا أفعل؟ بمعنى آخر ديكارت كان يضع الأسس لكل ما نعرفه أو نعتقد بأننا نعرفه. للقيام بذلك رأى أن نهدم كل ما نعرفه سابقاً. أهتدى ديكارت إلى الشك في كلّ شيْ قد عرفه من قبل.
لعملية الهدم هذه يضع ديكارت ثلاث محاجات افتراضية: إما أن يكون الإنسان مشوش التفكير أو أنه يحلم، او يقع تحت سيطرة شيطان ما ماكر. كل هذه العناصر تجعلنا نشك في العالم الخارجي.
محاجة ديكارت الأولى:
محاجة ديكارت الأولى تخبرنا بأنّ حواسنا خدعتنا في السابق، فكيف لا يمكن أن تخدعنا الآن؟ فقد يكون الظاهر على خلاف اعتقادنا فيه، فقد تخدعنا خيوط دخان نطاردها علنا نمسك بها، أو نتخيل في حقبة سياسية أنّ بلداً ما كان عصريا حديثاً دستورياً مدنيا، فإذا خدعتنا حواسنا من قبلٍ فلربما هي الآن تخدعنا أيضاً. لذا لا نستطيع أن نجزم من أنّ العالم كما نلاحظه هو كما هو على حقيقته.
محاجة ديكارت الثانية:
وفي محاجة أخرى فالحلم قد يتحدنا مثل الواقع. كيف يمكننا أن نعرف بأننا لا نحلم الآن؟ فأحياناً نحلم دون أنْ ندرك بأننا نحلم، وعندها نعتقد أنّ العالم في الحلم عالم حقيقي. فكيف يمكنك أن تعرف الآن وفي هذه اللحظة أنك لا تحلم؟ يمكنك أن تقرص ذاتك أو تقوم بأيّ تجربة لدحض ذلك ولكنك لن تستطيع أن تُقنع أحداً بذلك! ولكن إن كنت لا تعرف أنك لا تحلم الآن، فيبدو أنك لا تستطيع أن تعرف إنّ ما هو حولك حقيقي.
أما المحاجة الثالثة فهي تتعلق بالخداع. فثمة مخلوقات خارقة للعادة قد يخدعنا بالكامل ويجعلنا نعيش تجربة في عالم لا وجود له أساساً نقع تحت تأثير هيمنته وما يسمع ويرى. فكيف يمكنك أن تعرف بأنك لا تقع تحت سيطرة خداع دبّره لك الشيطان؟ فإذا كنت لا تعرف بأنك لا تقع تحت سيطرة هذا الشيطان، فكيف يمكنك أن تعرف بأنّ كل الأشياء الأخرى حقيقية والعالم من حولك حقيقي؟