حوار مع الشاعر سالم العوكلي
أحلم بكتابة قصيدة تحترم تجربتي
حاوره: صالح قادربوه
قادربوه: هل الكتابة الأدبية بنت الكتابة العامة ؟ بمعنى أنها مظهر من مظاهر لغة الناس المتعددة المستويات.
العوكلي: تطرقت الكثير من النظريات النقدية لمفهوم الأدب، أي بمعنى: متى يمكن أن نصف هذا النص بأنه نص أدبي، يختلف عن النثر الوظيفي المتمثل في السرد التاريخي أو الكتابة الصحفية أو غيرها من صنوف النثر التي تسعى لغاية غير الأدب .. وظل السؤال حول الفارق بين اللغة الأدبية ولغة الشارع مستمرا، ليس بمعنى الفرق بين الفصحى والعامية ولكن بمعنى تحويل لغة الناس إلى لغة أدبية سواء كانت الكتابة بالعامية أو الفصحى، وهي المسافة التي تعيدنا للبحث في مفهوم الأدب ومن ثم مفهوم الشعرية بصفة عامة، ومع اجتهادات الكتابة الأدبية ظل القرب من الناس وشحن لغتهم بطاقة الإبداع الأدبي من أهم إنجازات الكتابة الحديثة، نثرية كانت أو شعرية، وربما يقف وراء هذه القدرة الموهبة والذكاء والمعرفة، والتي في مجملها تحقق كيمياء الكتابة التي تحيل اللغة المتداولة إلى لغة أدبية، بقدر ما هي قريبة من الناس بقدر عصيانها على التقليد وامتلاكها مستويات متعددة للقراءة.
قادربوه: ينفي بعض النقاد صلة الفن الوثيقة بالمعرفة، بدعوى أن لكل منهما حقل اشتغاله الخاص، مارأيك ؟
العوكلي: حينما نتحدث عن الفن عموما نخرج من إطار الأدب إلى فنون تعبيرية أكثر تجريدية مثل الموسيقى والرسم والمسرح والسينما وغيرها من الفنون، وعلى مدى التاريخ ظلت المعرفة هي وسيلة كل هذه الفنون لتترسخ وتبقى كحقل أسئلة إنسانية لا تنتهي صلاحيتها، ولم تخلد الفنون العظيمة من الموسيقى إلى الرواية إلا بمدى امتلاكها لأسئلة المعرفة أو أجوبتها، وظل العمل الفني الأصيل حقل بحث معرفي، يمتد من اختبار ممكنات الجمال نفسه إلى مسافات الانزياح بأسئلة الإنسان الوجودية، وفي هذه المسافة بالذات اشتغلت جل المناهج النقدية التي فرض وجودها مغامرات الفن التي لا تتوقف .. الجمال وهاجس المعرفة هما شرطا الفن الأخلاقيان على مدى التاريخ.
قادربوه: هل يتهدد فنوننا الأدبية الضياع بين الحلم الكوني و الحلم السياسي ؟
العوكلي: وهل ثمة فارق بين الحلم الكوني والحلم السياسي ! خصوصا وأن أشهر السياسيين والقادة كانت أحلامهم كونية، لتصبح مفردة ( كونيّ ) إحدى الاصطلاحات السياسية الدارجة خصوصا مع ثورة التقنية الكبرى التي جعلت من العالم قرية كونية، وجعلت من العولمة قدرا تقنيا أكثر من كونها مشروعا سياسيا، حلم الشعراء بعالم واحد دون حدود يسوده التسامح والسلام، وحلم السياسيون، ديمقراطيين كانوا أم طغاة، بالحلم نفسه، وأنتج حلم الشعراء مجازاتهم الكبرى، بينما أنتج الحلم السياسي تلك الحروب الطاحنة والتي مازالت مستمرة، فعندما أحلم في قصيدتي بالسلام الذاتي أو السلام في مدينتي أو في وطني يشكل هذا الحلم جزءا من الحلم الكوني، وعندما يكتب شاعر في إحدى جزر الكاريبي عن الرغيف يشارك الكون حلمه، وعندما يتحدث شعراء عن رهاب التلوث فإنهم يشاركون الكون خوفه، وعندما يكتب شاعر إفريقي عن شبهة لونه فإنه يدين الكون .. وهل كل هذه الأسئلة بعيدة عن السؤال السياسي ؟ لا أعتقد. يذكرني هذا السؤال بالروائي إبراهيم الكوني الذي يعتبره البعض بعيدا عن السياسة في ما يكتب، ألا يمتليء سرده بآليات الصراع مع المكان وحدس الجغرافيا، وتجليات السلطة، وسؤال الهوية، ورثاء القيم، ومخاوف الانقراض، والفردوس المفقود ؟ وهل كل هذه الثيمات بعيدة عن السؤال السياسي .. إن مجرد رهابه الشخصي من السلطة والسياسي الذي انعكس على ظاهر كتابته هو نوع من الانشغال السياسي.
قادربوه: هل تعتقد بوجود كتابة ليبية ؟
العوكلي: لم يوجد مجتمع على الأرض دون كتابة، ولو اضطر لكتابة سيرته وأحلامه على جدران الكهوف أو أوراق البردي أو ألواح الطين أو العظام، لا يمكن لمجتمع أن يعيش دون فن، وحتى في غياب التدوين والمؤسسة في ليبيا أنتجت القريحة الليبية تراثا ضخما في الشعر الشعبي والتشكيل اللوني والحكاية والموسيقى .. ويظل لكل مجتمع ذاكرة مدونة يحاول من خلالها أن يقول: كنا هنا .. وبقدر ما في ليبيا تراث شفهي إبداعي ضخم بقدر ما حفلت كل مراحل تشكلها بالكتابة وفي جميع المجالات .. ربما فقر البحث العلمي والنقد هو ما يجعل مثل هذه الأسئلة تظهر ؛ لأن النقد هو الذي يسرد تاريخ كل كتابة، وهو الذي يراكم أسئلة تلك الكتابة ومنعطفاتها المهمة، ويحيلها إلى مدونة جمالية ومعرفية تمتلك شرعية إسهامها في التراث الإنساني عبر التاريخ .. وحين يحدق الكاتب منا في ريشته فقط وهو يكتب سيحس بالغربة والعزلة التي تنتج مثل هذا القلق وهذا السؤال .. نعم توجد كتابة ليبية لكنها مازالت خاماً، كأي شيء فوق أرضنا.
قادربوه: يرى الكثيرون أن آليات فرز الجيد عن الرديء فيما يخص أدبنا الحديث معطلة ..
العوكلي: هذا موجود في كل حركة إبداعية وفي أي مكان، تسمح المطابع للجميع بأن يصدروا كتبا، لكن دائما ما يبقى هو الأصيل .. ونحن عادة تتم علاقتنا بالآداب الأخرى عبر الترجمة، والترجمة انتقائية تختار الكتب المهمة التي فازت بجوائز أو حققت مبيعات عالية أو أصداء نقدية مهمة، فنعتقد أن آداب تلك اللغات لا توجد بها إصدارات رديئة .. الساحة ستتسع للجميع لكن الدروب المؤدية إلى المستقبل لن تقبل إلا ما هو قادر على أن يخترق الزمن ويمضي، هذه هي آليات الفرز الحقيقية لكل فن .. هل بالإمكان أن نصدق أن تلك العصور التي كان الشعر فنها الوحيد تقريبا: العصر الجاهلي، والعباسي، والأموي، لم يكتب فيها الشعر سوى عشرات الأسماء التي وصلتنا ! بالتأكيد أعداد هائلة كتبوا الشعر في عصور تبجل الشعر، لكن الذين مضوا إلى المستقبل هم من يستحقون هذا السفر.
قادربوه: ما الذي ينقص الكتابات الليبية لتتحول إلى مشاريع حقيقية ؟
العوكلي: ما ينقص الكتابات الليبية هو الوسواس القهري – بمعناه المرضي – الذي يجعل الكتابة هَمَّ حياة برمتها ودواماً يومياً، ذلك الذي أصاب دوستويفسكي ونتشه وريتسوس وطاغور والمتنبي ونجيب محفوظ وأدونيس وغيرهم، والذي أصاب عندنا إبراهيم الكوني، والصادق النيهوم ونجيب الحصادي وخليفة حسين مصطفى ومحمد الأصفر وأحمد يوسف عقيلة، ومتردد في أن أقول: وغيرهم، لكن لابد: وهناك غيرهم.
قادربوه: مما هو مؤكد أن هناك عزوفا من القاريء الليبي عن متابعة النتاج الأدبي المحلي، إلى ماذا يمكن إرجاع ذلك ؟
العوكلي: هناك عزوف من القاريء الليبي عن متابعة النتاج الأدبي عموما، ويشاركه في هذا العزوف الكثير من الكتاب الليبيين، لكن إذا أحببت أن أجيب بشكل إجرائي فإنني سوف أقول إنه يقف وراء هذا العزوف دخول وسائل ترفيه ومعرفة أخرى أكثر سهولة ومتعة، وارتفاع أسعار الكتاب مع سوء توزيع وفقر مكتبات، وخلو المناهج تقريبا، حتى الجامعية المتخصصة، من الأدب الليبي، وظاهرة انتشار الكتب الرديئة التي تحدثت عنها، حيث الكتب تقتل الكتب كما يقول إمبرتو إيكو .. ولكن لنطرح السؤال بطريقة أخرى، لماذا كان شاعر مثل نزار قباني مقروءاً بكثافة في ليبيا ولا يكاد يوجد شخص واحد لم يقرأه أو يسمع به ؟ ولماذا كان في فترة ما كاتب متفلسف مثل الصادق النيهوم مقروءاً بغزارة وشعبياً ؟ ربما محاولة الإجابة عن هذا السؤال تحيلنا إلى إشكاليات أخرى متعلقة بالإقبال على القراءة أو العزوف عنها.
قادربوه: هل يمكن لنا القول إننا نملك مكتبة ليبية ؟
العوكلي: نعم نملك مكتبة ليبية، تعمها الفوضى، وغير مفهرسة، ومعظم كتبها مغلفة في صناديق كارتونية، وتقع في زقاق مظلم لا يعرفه إلا القليل.
قادربوه: هل أنت راض عن تجربتك الأدبية، وما الذي مازلت تحلم بتحقيقه أو تحققه ؟
العوكلي: أبدا لست راضيا، وأحس بإحباط كبير حين أراجع تواضع ما أنجزته في هذه السنين الطويلة، وأنا للأسف لست ممن تحولت عندهم الكتابة إلى وسواس قهري .. وأحلم فقط بكتابة قصيدة تحترم كل هذه السنين التي قضيتها مع الكتب والكتابة.
قادربوه: ما الذي أنجزه بيت درنة الثقافي للمشهد الثقافي الليبي ؟
العوكلي: أهم ما أنجزه بيت درنة الثقافي هو إثبات أننا من الممكن أن نسهم في حركة الثقافة الليبية عن طريق عمل ثقافي أهلي .. الكل يتباكى على المؤسسات العامة وعن قصورها ومشاكلها ولم يفكر في المبادرة بتأسيس جمعيات أهلية تعوض هذا النقص. حين حضرت ملتقى الجمعيات الأهلية الليبية بطرابلس لم أجد أحدا من الكتاب الليبيين، وكانت جمعية بيت درنة الثقافي هي الجمعية الثقافية الوحيدة، وجل من حضروا كانوا يمثلون جمعيات خيرية تعمل تحت بند البر والإحسان، فشعرت بحزن عميق من تلك الغربة التي عشتها في الملتقى.
قادربوه: أين نحن من خارطة معارف العالم وآدابه ؟
العوكلي: نحن جزء من خارطة العالم، مع اتساق عجيب بين الخارطة الجغرافية والخارطة الثقافية، ثمة صحراء شاسعة تتخللها واحات صغيرة، وساحل قريب من أوروبا أكثر احتشادا تداعبه أمواج الشمال .. الخارطة واضحة لكن تنقصها المعالم، وربما من يعبرون هذه الصحراء في الطائرات يقفلون نوافذهم وينامون، فلا يرون تلك الواحات المتناثرة، والمستيقظون منهم لا يرون إلا حقول النفط المتناثرة في الصحراء .. لا تنس أني أتحدث مجازا عن الثقافة الليبية.
قادربوه: نصوصك تحظى بقدر واسع من التقدير من المثقفين الليبيين، هل سيتيح لك ذلك التصدي للرداءة في بعض التجارب والنصوص المتوفرة محليا ومعاضدة التجارب المتميزة .. أم أنك كائن دبلوماسي ؟
العوكلي: طبيعة النقد أن يهتم بالكتب المهمة، والرديئة ناقدها الزمن، لابد من الانحياز عند الكتابة النقدية حتى لا يتحول النقد إلى وظيفة، عندما تلتقط كاميرا وتمشي في الطريق ستتوقف عند كل ما يدهشك وتصوره، هكذا يفعل النقد، والإهمال رأي نقدي، وإن كان الإهمال لدينا أصبح لا يفرق، إنه إهمال ناتج عن الكسل وغير مشحون بأي هاجس نقدي، وهذا ما يربك الحركة الإبداعية الليبية، وما يجعلنا نطرح مثل هذه الأسئلة: هل لدينا شعراء ؟ هل لدينا رواية ؟ هل نملك كتابة ليبية ؟ .. إلخ .. والحال أصبح مثل المرأة التي تشك في جمالها وتبحث عن الإجابة في عيون السواح.
قادربوه: هل مستقبل الشعر الليبي محبط ؟
العوكلي: ظل سؤال الشعر الدائم هو الراهن، لا يمكن التخطيط لمستقبل شعري مثلما نخطط لمستقبل سياسي أو اقتصادي أو صناعي، ومستقبل الشعر راهن جيل آخر مثلما ما كان ماضيه راهن جيل سابق .. خصوصا وأن للشعر والفن عموما زمناً خاصاً غير الزمن التاريخي، زمنا مربكا وعصيا على المنطق، نفسه الزمن الذي يجعل المتنبي أو أبا نواس أكثر حداثة من شعراء راهنين .. لذلك فسؤال الفن هو سؤال اللحظة، وكيف يؤبد هذه اللحظة ليخترق بها الزمن التاريخي .. ما أعرفه أن راهن الشعر الليبي غير محبط، مثل راهن الفلسفة أو السينما مثلاً.
نشر في صحيفة قورينا
تعليق واحد
أرجو منك يارامز نشر التعليق دونما تحريف رجاء !
هناك هوة شاسعة للأسف ياعوكلي بين من تكون وبين ما تريد أن تكونه ! أرجو أن لا تحاول كإنسان الإلتصاق بتجربتك كي تكون هي الواجهة , فالفارق شاسع كما تعلم , تعاملي معك أجاب عن الكثير من الأسئلة حول ماهية المثقف المحلي , منافقون ومتطاوسون , المبدأ الوحيد الذي تعتنقونه هو المثل الشعبي الوضيع ” اللي ما يعبد روحه يتفترش ” . إنكم مزيفون وغير حقيقيين , إنك أحد الأشخاص الكثيرين الذين صُدمت بهم ما جعلني أكفر بما كل ما هو محلي , تتحدث عن الثقافة الليبية وعن وجودها وكأنك لست نتاج تلك الثقافة الشعبية , ثقافة الإنغلاق والنرجسية حد التطرف , أرجو أن لا تعذرني أبدا , أنت ومن هم على شاكلتك !
علي الربيعي
كاتب