الطيوب : حاوره / مهنّد سليمان
نواصل في الجزء الثالث من سلسلتنا الحوارية لنلتقي بالكاتب والمترجم الليبي الكبير “فرج الترهوني” وذلك على خلفية صدور ترجمتان له عن دار الفرجاني للنشر والتوزيع بطرابلس فجاءت الرواية الأولى بعنوان (المجنّد) للكاتب الأيرتيري “غيبريسوس هايلو” والكتاب الثاني بعنوان (أهل الله) للكاتبة الأمريكية (أغنس كيث) استكمالا لسلسلة لقاءاتنا مع الكتاب والروائيين اللذين صدرت لهم أعمال جديدة ضمن إصدارات دار الفرجاني لعام 2022م، ومن خلال هذه البسطة الجديدة نحاول معرفة الثيمات والمضامين التي يقوم عليها الإصداران.
أهل الله كتاب يوثق لتجربة سيدة أمريكية الأصل وقعت أسيرة في حب ليبيا، كيف جاء اختيارك لهذه الترجمة؟
في حقيقة الأمر أنّ الاختيار جاء من قبل دار الفرجاني للنشر، فرئيسها غسان الفرجاني، سيراً على خطى والده المؤسس، حريصٌ للغاية على نشر كل ما يتعلق بليبيا من كتب ومطبوعات، لأن مثل هذه الأعمال ستبقى في محافظ التاريخ نبراسا للأجيال الحاضرة والمستقبلية. ومرجعا مهما للباحثين والأكاديميين.
فترة ما بين عامي ١٩٥٥ و١٩٦٤ شهدت مخاضا شديد الحساسية في التاريخ السياسي الليبي كيف رصدت المذكرات هذه المرحلة؟
إذا ما تذكّرنا كتاب “عشرة أعوام في طرابلس” للآنسة توللي الذي يتحدث عن طرابلس خلال عشر سنين من أواخر القرن الثامن عشر، وهو كتاب مثير بحقّ، فإن كتاب “أهل الله” يتبع النهج نفسه في رسم الكاتبة صورة دقيقة لكافة نواحي الحياة في ليبيا خلال هذه الأعوام التسعة المهمة من تاريخها، والتي شهدت مرحلة التأسيس والبناء بعد الاستقلال، وأغنس كيث كامرأة أجنبية من ثقافة مغايرة تقوم بذلك بكل حيادية، ومقرونة بالعطف الإنساني والمحبة لليبيا ولليبيين النابعة من شخصها. الفارق مع الآنسة توللي وكتابها أن أغنس، لها باع طويل في تجربة الكتابة عن الشعوب الأخرى التي احتكت بها، وكتبت عنها، وأحد تلك الكتب بعنوان (ثلاثة عادوا إلى الوطن) THREE CAME HOME تحوّل إلى فيلم سينمائي يمكن للمهتمين العثور عليه في منصة يوتيوب.
أرى أن هذا العمل غاية في الأهمية، لأن الكاتبة تتطرق فيه إلى كافة جوانب الحياة في ليبيا آنذاك، وأحيانا تربط بعضها بالتاريخ القديم، فإلى جانب تقديمها لصورة بانورامية رائعة للصحراء وسكانها، فإنها تقدّم بإيجاز بعض الآراء الاجتماعية والسياسية لتلك الفترة التأسيسية المضطربة، نرى من خلالها صدق رؤيتها وتوقعاتها للوطن الليبي الذي يمر بأزمات كبرى الآن.
المجند رواية قديمة تتطرق لقضية التجنيد الإجباري التي انتهجها الايطاليون تجاه الليبيين حدثنا عن هذا العمل؟
هذه الرواية الكلاسيكية القصيرة (نوفيلاّ) التي كتبها الروائي الإريتري غيبريسوس هايلو، بليغة وقادحة للتفكير، وقد كُتبت باللغة التيغرينية عام 1927 ونُشرت عام 1950 ، تعتبر واحدة من أقدم الروايات المكتوبة بلغة أفريقية، ولها تأثير كبير على استقبال الأدب الأفريقي والتقييم النقدي له.
وتُصوّر رواية المجند، بسخرية وغضب متحكم فيه إلى حدّما، التجارب المذهلة للإسكاري (العسكري) الإريتري، وهم الأفراد المجندون للقتال في ليبيا من قبل الجيش الاستعماري الإيطالي ضد المقاومة الليبية التي تقاتل من أجل تحررها من الحكم الاستعماري الإيطالي. ويرسم هايلو من خلالها صورة سيئة، لكنها حقيقية، للاستعمار الإيطالي. وتتضمن بعض المقاطع الأكثر إثارة للمشاعر صحوة بطل الرواية، لمأزقه الساخر المتمثل في كون بلده تحت الاحتلال الاستعماري وفي الوقت نفسه جرى استغلاله كأداة لقمع الليبيين المُستعمَرين.
إن أوصاف الرواية الدقيقة لساحة المعركة تخيف القارئ، فهي مزعجة وحقيقية على حد سواء، للمشهد الليبي – برمال الصحراء الشاسعة والواحات والفرسان وجنود المشاة ووحشية الحرب. وفي المجمل هي رواية عن الاستعمار وعن حروبٍ ظالمة كانت سائدة آنذاك، وتصف التفاعلات الإنسانية كما يرويها شخصٌ استُغل من قبل الأشرار لاقتراف الجرائم ضد شعب مسالم.
المجند تطرح بشكل موازي مفهوم الوطنية الجامعة، أترى بأن ترجمة المجند للعربية استقامت مع الظرف الراهن؟
” المجند تعطي للرواية التيغرينية محيطها الضروري للتأطير المبكر في الأدب الأفريقي، حيث يظهر التطور والنضج في تصوير ما يعتمل في النفس من اضطرابات داخلية وكذلك خصائص الحياة الواقعية لشخصياتها. كما أنها رواية تتصارع مع قضايا الهُوية، والقناعات الذاتية، والحرب، والآثار الصادمة للاستعمار على النفس البشرية. وهي رؤية مبكرة على نمط روايات أفريقية رائعة مثل رواية “الأشياء تتداعى” و “هاوس بوي” وغيرها، والقضايا التي تطرحها الرواية هي إنسانية عامة في كل زمان ومكان، وشخصيا أرى حكاية بطلها المجند “توغوابو” تتجدد الآن بشكل مكثف في حرب روسيا الشنيعة ضد الشعب الأوكراني.
الترجمات التي تصدى لها المترجمون الليبيون كانت معظمها مذكرات لأطباء أو رحالة أو مستشرقين، هل نظرة الآخر لنا تساعدنا على فهم طبيعتنا أكثر؟
هذه الترجمات التي ذكرت لهذه الفئة من الكتب والمذكرات تساعدنا أكثر على فهم نظرة الآخرين لنا (مع التسليم بحيادهم طبعا)، ومن خلالها قد نتعلّم شيئا ما عن أنفسنا، ما كنا لنعرفه بالبديهة. ولكن في “أهل الله” سيجد القارئ الحصيف بعض التفسيرات لجذور الصراع القائم حاليا بين الليبيين. وأنه بالرغم من كل الظروف والمثالب التي تُرافقُ تأسيس أي دولة جديدة، فقد كان هنالك مشروعٌ وطني لقيامة الأمة الليبية من الرماد وتغيير الواقع المتردي بفعل ليل استعماري طويل، لكن انقلاب عام 69 أجهض كل شيء وأعادنا عقودا إلى الوراء، وكما هو معروف فالتشخيص الدقيق للعلّة هو هي بداية الطريق للوصول إلى العلاج!
انطلاقا من اشتغالك بالترجمة ما هو تقييمك لحركة الترجمة في ليبيا وماذا ينقصه؟
الأمر غاية في البساطة، وبغض النظر عن محاولات الترجمة الخجولة التي يقوم بها البعض ـ وأنا منهم ـ فلا توجد حركة ترجمة حقيقية في ليبيا، ولا يمكن حتى الجرأة على مقارنتها بمن حولنا في الشرق والغرب فالبون شاسع ، ولذلك أسباب عديدة أهمها تردّى الوضع الثقافي والأدبي والفني في البلاد لستة عقود الآن، ولأسباب سياسية واجتماعية تضع قيودا على حركة النشر وحرية الكلمة (التعامل مع قضية السفينة لوغوس هوب، كمثال)
أما الثاني فهو وضع التعليم المنهار بشكل فضائحي تقريبا، فما نراه أن غالبية الليبيين لا يقرأون الكتب، مترجمة أو غير ذلك، فذلك أمرٌ غير متأصل في ثقافتنا العامة، وهذه مصيبة حقيقية، حيث لا توجد بوادر على الوعي بها، ومعالجتها. باختصار نحن شعب أمّيّ الثقافة. وهذا موضوعٌ يطول الحديث فيه.
السبب الثالث، وهو بالأهمية نفسها، هو عمليّة النشر، فمن الطبيعي أن دور النشر تُحجم عن نشر كتاب ما بسبب ارتفاع تكاليف النشر، واحتمالية ألا تجد المطبوعة الرواج الكافي، لتجنّب الخسائر المادية، وذلك باختصار لأن “أمة اقرأ لا تقرأ”، وبالرغم من أن حركة النشر الإلكتروني أثّرت سلبا على عملية نشر الكتب الورقية، إلاّ أنني أجزمُ أن هذا لا ينطبق على ليبيا، لأن قليلا من الليبيين يقرأون أصلا، وحتى إن فعلوا يكون مبتغاهم الكتب الدينية أو الأكاديمية (لنيل الشهائد!)
كذلك من المهم أن نعرف أن قليلين في ليبيا من تصدّوا للترجمة الأدبية، فجلّ الترجمات التي قام بها ليبيون تتعلق بالنواحي الأكاديمية والتاريخية والاجتماعية. وفي رأيي وبحكم تجربتي المتواضعة، فقد فشلَت الأجسام الثقافية (الرسمية) في تغيير هذا الواقع، لأن ذلك يتطلّب خطة تعليمية تربوية ثقافية شاملة تُطيح بكل المفاهيم القديمة الراكدة التي سيكون استمرارها وبالاً على ليبيا والليبيين، تماما مثل هذا الصراع العبثي والاحتراب الأهلي الأهوج الذي يجري الآن، والذي هو نتاج بديهي لعقود طويلة من الاستبداد.
هل هنالك ترجمات أخرى منتظرة؟
في جعبتي الآن كتابان أولهما عن “بنغازي” ويتحدث عن الهجوم على البعثة الأميركية عام 2012 ومقتل السفير الأميركي، والتأثير السلبي لهذه الحادثة على ليبيا، وعلى دور أميركا في المنطقة، وسطوة الجماعات الإسلاموية والمليشيات، وهو كتاب شائق بمعني الكلمة، مؤلفه دبلوماسي أميركي سابق في ليبيا، إيثان تشورن، وأعتقد أن به معلومات مثيرة جديدة، ستكون مفاجأة لكثيرين ممن تهمهم هذه المواضيع، لأن الكاتب يعرف أدق تفاصيل الواقع الليبي.
أما الثاني فهي ترجمة لرواية الكاتب الصيني العظيم والفائز بجائزة نوبل، مو يان، وهي رواية غرائبية تسردٌ من خلال عملية التجسّد، ملامح مهمة من تاريخ الصين الحديث، وقد تلقت الرواية عروضا وثناءً منقطع النظير عند نشرها عام 2008. وأنا أبحث الآن لها عن دار نشر ما!
عند إتمام مراجعة تدقيق هذين العملين خلال شهر كما آمل، سأعطي لنفسي راحة مستحقة من الالتزام بالترجمة، وآمل أن أتفرغ في شيخوختي هذه إلى القراءة، ومشاهدة مباريات كرة القدم وكرة المضرب التي أعشقها، وربما القيام ببعض أعمال البستنة الخفيفة حسبما تسمح به مفاصلي الواهنة! لكن ستظل الترجمة عشقا أبديّا يطاردني حتى في أحلامي.