من أعمال التشكيلية الليبية مريم العباني.
تشكيل

المرأة . . أيقونة التشكيل الليبي 

من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.
من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.

 

لطالما رسم الفنانين الليبيين المرأة ولطالما شكلت المرأة موضوعا مهما وحساسا لهم ولن نبالغ إن قلنا أن المرأة هي الشاغل الأول وما من فنان ليبي لم يرسمها ويحتفي بها في لوحاته تقريبا ويجعلها موضع حفاوة , المرأة الأم المرأة الزوجة المرأة الأبنة المرأة الأخت والمرأة الحبيبة في كل الأحوال , ولأن المرأة عطاء لا يُحد ولا ينضب رسمها كل فنان من زاويته , وبغزارة تم رسمها , ومع هذا فالمرأة كموضوع للرسم لم يُستنفد بعد ولا زال يعد بالكثير , ولو أنفق كل فناني العالم جل وقتهم في رسمها ما شارفوا على الأنتهاء إلى نقطة ختامية , فالمرأة تظل الملهمة الأولى للفنانين في كل مكان من العالم والفنانين الليبيين ليسوا استثناءً , هم أيضا يحملون مشاعر نبيلة تجاهها وعواطف جياشة , لهذا ليس مُستغرباً أن يتجهوا لرسمها بشغف , ولأن لكل فنان أدواته ورؤاه الفنية وأسلوبه وتكنيكاته جاء التناول مختلفا ومتبايناً ومتنوعا .

ولم يقتصر رسم المرأة على الفنانين الرجال فالفنانات أيضا رسمنها بشكل جميل , وأجمع كل الفنانون تقريبا على تبجيل واحترام المرأة , وكل من جعلها موضوعا رئيسياً أو ثانوياً في مُنجزه البصري أحتفى بها أو ناصرَ قضاياها وأبرز مكانتها كأم وكحبيبة وحتى كإمرأة فقط , وانتصر لأنوثتها , كونها رمزا للخصب وللعطاء وللتضحية و للمحبة .

وفيما اكتفى بعض الفنانين برسم الوجه رسم آخرون الجسد كاملا , وكما يحدث في الشعر لا بد للمرأة من أن تستدرج الفنان إلى جمالها المادي والمعنوي فلا يدري إلا وهو يُهرع إلى عدة الرسم ليوثق مشاعره تجاهها بالألوان والخطوط وتظليل المساحات وتفريغ شحنته العاطفية وعكسها على البياض الذي سيكون مسرورا بحمل هذا الفيض من المشاعر واحتضانه في اتساعه .

من أعمال التشكيلي الليبي الطاهر المغربي.
من أعمال التشكيلي الليبي الطاهر المغربي.

المرأة في التشكيل الليبي , قد يكون العنوان عريضا وواسعا ولا يتوافق مع ما سنورده من تحليل وعرض في هذه الأسطر , سوى أن هذا العرض لا يتعدى كونه محاولة متواضعة لاستجلاء بعضا من هذا الملمح في مدونة التشكيل الليبي أو هذا ما أردناه له , وهو بكل تأكيد ملمح واضح وساطع اشتغل عليه جل الفنانين الليبيين سواء بشكل صريح وتشخيصي أو بشكل مضمر في لوحات تجريدية تفوح من تفاصيلها المجردة رائحة الأنوثة وعبق الأمومة , ولا يقتصر هذا الأمر على الفنانين الرجال فللمرأة إسهامها في هذا المنحى , فهي بدورها رسمت المرأة من زاويتها الخاصة والشخصية ولربما حملت لوحاتها خصوصية وطابع استثنائي كون من رسم المرأة هذه المرة هي المرأة ذاتها ولا يعرف المرأة وحاجاتها أكثر من المرأة .

فها هو الفنان التشكيلي مرعي التليسي على سبيل المثال يرسمها في الزي الليبي الأصيل في لوحة من لوحاته الكثيرة , لوحة تنضح بالحميمية , وكونها موضوع قديم وعتيق هي موضوع للحنين أيضاً ولا يكتمل هذا الحنين المشفوع بالجمال إلا بوجود المرأتين في مكان ينتمي للماضي أكثر من انتماءه للحاضر واستغراقهن في حديث ودي وحميمي بسيط نفتقده اليوم , حديث يبدأ بالسلام والسؤال عن الصحة والأبناء وينتهي بتوزيع الأبتسامات والكلام الطيب , وهذا الأفتقاد تحديدا هو ما يسبغ على اللوحة معنىً إضافيا ويجعل منها وسيلة للتطلع إلى أوقات آمنة وأزمان مسالمة ونحن نخوض اليوم في فوضى عارمة لن نجتازها مالم يكن لدينا إيمان بالفن وبدوره في الحياة , ولأسلوب الرسم الواقعي الذي اتبعه الفنان في رسمها – وهو البارع والمتمكن – دورا في تشكل انطباعات الحنين والطمأنينة والحميمية والإحساس بالأمان .

وتلك الفنانة عفاف الصومالي رسمتها بالألوان المائية التي تجيد التعامل معها وصورتها بحرفية عالية لتبرز جمالياتها الشخصية وجماليات أزياءها وجماليات المكان الذي تحل به ليتحول إلى بؤرة أمان وطمأنينة , ليتحول المكان إلى عيد حقيقي , لما لا وهي التي تمتلك حضورا كرنفالياً قادرا على بث الفرح في المكان ونشر الحبور .

لوحة اللا، للتشكيلي عبدالرزاق الرياني.
لوحة اللا، للتشكيلي عبدالرزاق الرياني.

في حين أكّدَ الفنان عبدالرزاق الرياني من جانبه على أصالتها وانتماءها لهذا التراب بلوحاته التي صورتها وهي تتزين بالأزياء التقليدية التي زادتها جمالاً إلى جمالها وسط بقية أفراد العائلة والأبناء , وحين صورها وهي تتمسك بعادات وتقاليد المجتمع المتجذرة فيه , فهو يرسمها بأسلوبه المفرط في الواقعية بخامتي الزيت والمائية وهي تنشر الجمال من حولها بأزيائها الطرابلسية الأصيلة باذخة الجمال , وهي ترتدي الملابس التقليدية وتتزين بالحلي الفضية والذهبية لتبدو للناظر إلى لوحاته كملكة متوجة على عرش الحياة , وهذا لا شك نابع من تقدير الفنان للمرأة واحترامه لها , وما كان للأعمال الفنية أن تظهر بهذا المستوى من الجمال لو لم يكن الفنان يحمل لها في قلبه هذا التقدير والأحترام الذي عبر عنه خير تعبير بالرسم , واللوحات في تصوري كمتلقي مجرد انعكاس قوي وردة فعل على انفعال حاد وعاطفة جياشة ومشتعلة تجاه المرأة بصفة عامة , وهذا ما جعله يحرص على تجسيدها بهذا الشكل المتألق في لوحاته المتتالية , والمرأة عنده كما عند الكثير من الفنانين – الليبيين والعرب والأجانب – هي نبع الحنان الأول ومواسم الخصب , هي المعادل الموضوعي لكل ما هو جميل في الكون , ولهذا رسمها الفنان كما يحب وبحميمية زائدة وفي باله – سواء وعى ذلك أو لم يعيه – أن يرد لها بعضا من صنيعها الجميل ويعيد لها شيئا من الضوء الذي نثرته في طريقه , وفي كل الأحوال تستحق المرأة أن يُحتفى بها ومهما مُنحت من تقدير وتبجيل نظل مقصرين في حقها لأن ما أعطته ولا زالت أكبر من أن يقدر بثمن .

وها هو ذا الفنان بشير حمودة يرسمها كما لم يرسمها أحدا من قبل وهي ترتدي الفراشية وتلتحف بالبياض رمز المحبة والسلام بتكعيبيته المعهودة وبخطوطه المستقيمة والمتكسرة والمتقاطعة ومساحاته اللونية ذات الأشكال الهندسية, وأنجز لها عدة بورتريهات نصفية وكانت من أولوياته في مشروعه الفني الذي توجهُ مؤخرا بإقامة معرض في طرابلس ضم كل أعماله التي أنجزها السنوات الأخيرة .

أما الفنانة نجلاء الفيتوري المنحازة تماما للمرأة فتلك قصة أخرى تًستحق أن تُروى , بلوحاتها التي تفيض بالأنوثة ويغمرها السحر , لما لا واللوحات موضوعها المرأة في أفراحها وفي مناسباتها الأجتماعية وفي حياتها اليومية وهي تعتصر الحياة لتصنع الفرح فلا تدع مناسبة تستحق الأحتفاء تمرق دون أن تستثمرها وتبتهج , وأتصور أن نشر الفرح صفة ملازمة للمرأة الليبية ومن يريد ان يتأكد من هذا الأمر عليه العودة إلى طقوس الأعراس ومناسبات الختان والأعياد الدينية وغيرها من المناسبات السعيدة وللفنانة عدة لوحات تصور المرأة وهي تحتفل وهي تفرح , هذا هو دأب المرأة الليبية في الواقع , وهذا هو ما ركّزت عليه الفنان في لوحاتها التي تنتصر للأنوثة دون مواربة في المقام الأول , حين تغوص في عوالم المرأة لتلتقط كل ما هو جميل وآسر وساحر , والفنانة إذ تُسخِّر ريشتها وألوانها وقبل ذلك أفكارها وخيالها للأحتفاء بالأنوثة لا تفعل ذلك بطريقة تقليدية مباشرة بل تلجأ إلى لغة التجريد – الغير مُطلق – ولذلك سريعا ما يجد المتلقي مفاتيح للولوج إلى العمل وسرعان ما يعثر على تفاصيل صغيرة تقوده إلى تأويل العمل الفني والأستمتاع بالعملية برمتها بجانبيها الفني والفكري , فاللوحات لا تكتمل إلا بوجود هذين العنصرين المكملين لبعضهما البعض , وللألوان في لوحات الفيتوري دلالاتها , ولتوزيعاتها اللونية المبهجة مقاصد بحسب ما أتصور فالفنانة تبدو في رسمها كما لو أنها تنضد نوتات موسيقية أو تتعهد جُمل كسولة بالعناية لتضخ في مفاصلها الإيقاع المطلوب .

من أعمال التشكيلي الليبي بشير حمودة.
من أعمال التشكيلي الليبي بشير حمودة.

ثم أنهُ ثمة سر لا أُدرك كنهه هنا ولا أعرف تحديدا ما الذي يشدني إلى اللوحات التي اعدُها متميزة , غير أنني أجدني كل مرة منجذباً إليها معجبا بها , ربما لأن ألوانها حيوية أكثر مما يجب ومتنوعة أو لاكتظاظها بالتفاصيل أو لعدم وجود فراغات فيها أو لتوزع ألوانها على مساحات محدودة أو اللعب في المساحات الضيقة أو لموضوعاتها التي تعالج جماليات عالم النساء وهذا الإعجاب منحني ميزة أن أُحدد لوحات الفنانة – لا سيما لوحاتها المتأخرة – حتى وإن لم يكن عليها اسمها متى ما صادفتني في ثنايا وانعطافات الفضاء الأزرق , ولهذا أراني في غمرة انجذابي وعلى طريقة الشاعر مفتاح العماري أنشد:-
لأمرٍ في لوحات الفيتوري
تعجبني لوحات الفيتوري .

وهذا الفنان الراحل الطاهر المغربي يضع لها مجموعة من اللوحات ركّزَ فيها على أعلى مرتبة يمكن أن تصل إليها المرأة وتتطلع لها وهي أن تصبح أماً , حيث عبّرت اللوحات عن هذه المنحة الإلهية والأمانة التي وهبها الله للمرأة بأسلوبه الذي عُرِفَ به في الرسم وهو الأسلوب الذي يكاد يتخلص من كل الزوائد ويتجاوز التفاصيل لصالح التكوين والموضوع ككل وينحو نحو التعاطي الفطري مع الرسم أو لنقل التعامل مع اللوحة من وجهة نظر طفولية , فكأن الفنان يرسم بروح طفل أو أنه يرتد إلى طفولته البعيدة حين يغمس الفرشاة في العجينة اللونية بهدف رسم المرأة , وهذا ما يجعل من كل لوحات المغربي للمرأة – حسب وجهة نظري تنحصر في هاته الصفة , أي صفة الأمومة التي تستحق أن يوضع فيها ليس لوحات معدودة بل مجموعة كاملة أو أن يتفرغ بعض الفنانين لاستجلائها كهبة إلهية بما يمتلكون من خيال خلاق .

وتبدو الفنانة مريم العباني في بعض لوحاتها التي وضعتها للمرأة مهمومة بهاجس الزمن , إذ أنها رسمت الجدات إلى جانب الحفيدات وكأنها تحاول في لوحاتها تلك مجادلة الزمن واحتوائه بطريقتها في الرسم التي تمزج ما بين أسلوبي الرسم الواقعي والأنطباعي , هذا في الوقت الذي توزع فيه الضوء في لوحاتها بنسب عالية كما لو انها تريد القول بأن المرأة هي مصدر الضوء الذي يلف الحياة ويغمر العالم ولولا هذا الضوء الأثير لكان الكون محض ظلام دامس , إذ هذا ما تقوله الألوان الصافية والنقية , وكان لأسلوب الرسم المتبع من قبل الفنانة كبير الأثر في تألق لوحاتها من خلال توزيع الألوان الزيتية بحسب ما أظن بنسب دقيقة ومن خلال تخفيف الألوان ومزجها بطريقة شفافة بحيث بدت اللوحات وكأنها لوحات تم الأشتغال عليها بالألوان المائية لا الزيتية كما أتصور من خلال اطلاعي على صوراً لها , وتُفصح نظرات النساء اللواتي رسمتهن الفنانة مريم العباني أو بالأحرى الجدات في تقديري عن طاقة هائلة من الحنان والطيبة , فهاته الصفات ستقفز مباشرة إلى ذهن المتلقي ما أن يقع بصره على إحدى اللوحات ولربما كانت هذه الصفات الإنسانية فكرة ابتغت الرسامة تمريرها للقارئ ورسالة أرادت له أن يقرأها .

وشغلت المرأة حيزا واسعا في لوحات الفنان عمران بشنة وبخامات متعددة – جواش وزيتي وأكريلك – فأحتفى بها هو الآخر ورسمها كما يحب أن يراها متألقة وذات مكانة عالية في المجتمع , وأوفاها بعضا من حقوقها كأم وكزوجة ضمن مشهد متكامل بصحبة أناس آخرين و منفردة , وتبعا لهذا التوجه رسمها وهي تصنع الحياة وهي تقوم بدورها في تقدم المجتمع لأن الدور الأكبر والعبء الأعظم يقع على عاتقها كما أسلفنا , فهي الأم والزوجة والأخت والمعلمة ومدبرة البيت وكل هاته المسميات ترتب عليها مسئولية عظيمة وعبء ثقيل لم تتوانى يوما في حمله بكل طيبة خاطر ورضا نفس , ومن هنا كان لا بد من أن تكون اللوحات نابضة وحيوية وموحية ذات أبعاد إنسانية وحاملة لكل هاته المعاني السامية , التي ما كانت لتتجسد لولا التقنيات العالية التي استُعملت في إنجازها إذ يبدو الفنان فيها وفي غيرها متمكنا من أدواته مستوعبا تماما لشغله الفني ومنتبها لكل خطوة من خطواته عارفا لقيم ونسب اللون ومدركا لكل ضربة فرشاة كونه هو الآخر يتعامل مع البياض بمسئولية إذ يحاوره ويستخلص من شساعته متنه الفني ولوحته .

من أعمال التشكيلية الليبية مريم العباني.
من أعمال التشكيلية الليبية مريم العباني.

ولا بد من الإشارة هنا إلى اللوحات التي رسمها الفنان عمران بشنة وهو غزير الإنتاج ومتعدد الأساليب الفنية , بالأسلوب الضبابي وهو أسلوب في الرسم تفرد به دون غيره من الفنانين الليبيين ويقوم على تصوير الأجساد بحيث تبدو وكأنها تُرى من وراء غلالة أو ستار وتفتقد إلى ذاك الوضوح الذي تتسم به أساليب الرسم الأخرى , والتي خصصها تقريبا بالكامل للمرأة ما أضفى عليها غموضا محبباً وسحرا نابعا من طغيان صورتها في الحضور وفي الغياب وعدم إدراك لعوالمها الشاسعة وأسبغ عليها نوعا من الحضور الخيالي فإذا هي القريبة البعيدة , في ذات الوقت الذي تبدو فيه كظل أو كطيف حتى ان الرائي يحس بأنها امرأة واحدة تقفز من لوحة إلى أخرى بكامل غموضها وأسرار فتنتها .

هذا في العموم , وفي نهاية الموضوع أوردنا هاته الثلة من الفنانين على سبيل المثال لا الحصر , ذلك أن العديد من الفنانين الأخرين ممن لم نذكرهم هنا لأسباب عدة لعل أهمها م وجود فكرة متكاملة عن تجاربهم , مثّلت لهم المرأة موضوعا أساسياً وشاغل أولي أترك لكم متعة اكتشافهم بأنفسكم في ثنايا المشهد التشكيلي الليبي متنوع الأتجاهات والأساليب .

مقالات ذات علاقة

أعمال الفنان الليبي علي الزويك هرمونية صنعتها الفطرة

عدنان بشير معيتيق

المصور الفوتوغرافي حكيم مادي: دراسة متأنية لعلاقة الضوء بالعتمة

عدنان بشير معيتيق

علي المنتصر.. «تشكيل» في مواجهة الحرب

خلود الفلاح

3 تعليقات

عبداللطيف السيليني 27 أبريل, 2021 at 12:42

ممتاز جدا نتمنى التوفيق والنجاح الدائم لكل من ساهم في إظهار الزى الوطنى والفن التشكيلي بهذه الطريقة الحلوة وشكرا لكم

رد
المشرف العام 27 أبريل, 2021 at 15:58

أشكر مرورك الكريم

رد
عبداللطيف السيليني 27 أبريل, 2021 at 12:46

أعجبني الموضوع والحقيقة رائعة جدا

رد

اترك تعليق