رن جرس المنبه فأسكته ونهضت متثاقلا، اغتسلت، اتجهت صوب المطبخ ووضعت ركوة القهوة على الموقد، نزعت قائمة الطلبات عن باب الثلاجة (1).
«عزيزي (2)
أرجوك (3)… اغسل الأطباق والأكواب وجففها جيدا…
ضع الملابس في المغسلة مع كوبين من مسحوق الغسيل …
لا تستخدم الماء الفاتر… ولا تخلط الملابس الملونة والبيضاء…
اليوم موعد ري نباتات الظل… لا تنسى أن تشرع نافذتي
غرفة النوم والحمام… ضع أكياس القمامة أمام مدخل
البناية…عرج – في طريق عودتك إلى البيت- على
مطعم الأسماك واحجز لنا وجبة جاهزة لأربعة أفراد
فالليلة ستتناول وداد (4) وزوجها العشاء في بيتنا…
قبلاتي…».
فارت القهوة، أطفأت الموقد، وددت لو سمح لي الوقت هذا الصباح لتبييض قصتي الأخيرة قبيل ذهابي إلى العمل.
أنجزت طلبات زوجتي جميعها وخرجت.
لم أتمكن من فتح باب سيارتي، فقد ركن احدهم سيارته جوار باب السيارة… انتظرت قليلا وقررت أن اركب من الباب الآخر… وحين اتخذت وضعي خلف المقود وأشعلت المحرك جاء احدهم وركب السيارة المركونة إلى جانبي وطار بها دون كلمة اعتذار.
وصلت مقر عملي متأخرا… ركنت سيارتي بعد جهد لعدم وجود مكان شاغر… صعدت الدرج لاهثا إلى مكتبي… حياني زميل (5) بابتسامة شمعية مرسومة على وجهه منذ نصف قرن… أخبرتني زميلة مطلقة أن المدير يطلبني على وجه السرعة (6).
وجه لي مديري (7) ملاحظات تتعلق بتأخري عن العمل وبطء إنجازي للمعاملات… ولم يترك لي فرصة للرد وبتر كلامه قائلا: سأكتفي بالتنبيه الشفوي هذه المرة… مع السلامة. خرجت في الثانية والنصف، فوجدت إشعار مخالفة مرورية موضوعا بعناية بين زجاج السيارة الأمامي وماسحة المطر، بسبب ركن سيارتي في مكان يحظر فيه الوقوف… ولا ادري متى نبتت علامة الممنوع اللعينة أمام سيارتي.
قدت سيارتي على مهل محاولا السيطرة على شحنات الغضب، التي بدأت بالتنامي منذ هذا الصباح متسائلا: متى تسنح لي الفرصة لتبييض قصتي الأخيرة… إلا أن صبيا يكاد لا يرى يقود سيارته بسرعة جنونية أطلق آلة التنبيه، أفسحت له الطريق حتى فاجأني صبي آخر من ناحية اليمين… حوصرت بين سيارتي الصبيين الأهوجين وقررت إبطاء السرعة كي اتحاشاهما معا.
دخلت بيتي منهكا، ارتميت على الأريكة الوثيرة (8) وفكرت في حياتي كلها وتساءلت: هل هذه هي الحياة التي حلمت بها.
أخرجت وجبة الغداء المعدة في الليلة الماضية ووضعتها فوق الموقد على نار هادئة بانتظار عودة زوجتي.
فكرت أن انتهز هذا الوقت لتبييض القصة اللعينة إلا انني كنت متوترا، رميت الأوراق جانبا، ولعنت مدرس اللغة العربية الذي قرأ في ملامح النجابة المبكرة (9) وتنبأ لي بأنني سأصبح أديبا مرموقا، ليس في بلادي فحسب بل في العالم الثالث برمته إذا واصلت الكتابة.
ذهبت إلى الحمام، أقفلت الباب، وقفت أمام المرآة المثبتة على الجدار، تأملت وجها مجهدا لرجل هربت أحلامه، لا يملك سوى حذاءين أسودين وبضع قصائد غير منشورة ومشروع رواية لم ولن تكتمل… شرعت بالضحك كي افك اسارير الوجه الخشبي الذي ينعكس في المرآة.
_______________________________________________________
(1) هذه وسيلة الحوار مع زوجتي التي تضطر للاستيقاظ في وقت أبكر لبعد مكان عملها.
(2) إذا خاطبتك زوجتك بود- بعد سنوات طويلة من الزواج- فهذا يعني أنها تريد خدمة ما.
(3) الرجاء يعني أن المهام المطلوب إنجازها كثيرة، وربما شاقة.
(4) وداد وزوجها أثقل زوج على وجه الأرض، إلا أن زوجتي ترتاح لهما، ربما لان وداد دميمة، فزوجتي لا تدخل بيتها امرأة جميلة، أبدا.
(5) اعتاد هذا الزميل أن يلقبني بـ (نجيب محفوظ) منذ أن علم-بالصدفة- انني اكتب القصص انزعجت منه في البداية ثم أخذت الأمر على سبيل المزاح، نظرا لكبر سن الرجل الذي يتأهب للتقاعد بعد بضعة اشهر، وربما من الحياة برمتها.
(6) اعتدت على المكائد اليومية لصغار الموظفين… كحبك الدسائس أو الوقيعة أو الوشاية لدى رؤسائهم المباشرين داخل دائرتهم ..وبالطبع يعد التملق سلوكا يوميا.
(7) مديري من الصنف إياه… وتولى منصبه لاعن كفاءة أو خبرة بل بعد دعوته لرئيس مجلس الإدارة لتناول العشاء في بيته.
(8) زوجتي مشغوفة بتجديد أثاث البيت كلما توفر مبلغ من المال، وأحيانا نضطر إلى الاستدانة أو الشراء بالتقسيط، واكتشفت متأخرا أنها تتبع وصايا صندوق النقد الدولي أي عدم السماح لي بأي تراكم مالي… وعملا بنصيحة جارة عجوز لها وجه ضفدع وعينا ثعلب وملخصها أن الزوج إذا اغتنى بدل سيارته وزوجته.
(9) لا اعرف من أين كون فكرته هذه… ولكنه أول من زرع في رأسي وهم أن أكون أديبا.