أحـمـــــد الـزاعـــــــل
هِي حقيبة صغيرة فقَط تزِنُ كيلو اجراماً واحداً .. جوازُ سفري المُؤشّر، و زجاجة الدّاكار ، و مفكّرة عناوين فارغة يتخلّلُها قلمٌ لم يُولد على بياضٍ بعد ، أُرَتّب أغراضَ غرفتي لأول مرّة ، أرفع عنها علب السجائر الفارغة و الأشرطة و باقات الكُروت ، أمسح آثار الجّرائم القديمة ــ المُهملة في السلّة و المُحرّمة في الكِيس ــ أنا مسافر و لن أترك خلفي ما يعيب ، عساهم يذكرونني بقولهم : (( ماشاءالله عليه كل حاجه في داره منظمة او نظيفة ربي يحفظه )) ، لكن غالب ظني أنهم سيقولون : (( باهي الي جاته سفريه بيش نظف داره هالمعفّن )) ،أقِف عند الباب متأملاً لِلحظة فأنا مفارق ؛ إلى اللقاء يا سريري و ستارتي و طاولتي و كتبي ، وداعاً يا أشيائي ، ما زال الكل نيام فالوقت جداً مبكر ، أبي و أمّي لكُمَا السلام ، رضاكما ونيسي و على الله اتكلت .
أخيراً وصلت إلى المطار و مازال الظلام حالكاً في فضائه ، يكسره بياضُ الطائرة الوحيدة هناك ، متهالكة يأكل الصدأ جوانحها ، لكني لم أكترث ، المهم أنها تستطيع الطيران ،المهم أنّها ستحملني بعيداً بعيداً بعيداً أنا و حقيبتي و آمالي و طموحاتي ، جلستُ في قاعة الانتظار بعد انتهائي من إجراءات الصعود ، احتضن فنجان القهوة و أمعن النظر في عجلات الطائرة أود لو أنّي استطيع ربط جذوري بها ، ربط الغيرة و الحيرة و القبيلة و الوطن و الحب و الدموع و كل ما لأجلِه سأعود ، اقتلعها من الجذور ..آآآه ليتني أستطيع .
في هذه الأثناء كنت أسمع أصواتاً بعيدة و قريبة لم استوعبها ، تطن في ذهني كوقع سقوط لألواحٍ او ما شابه ،انتشلني منها صوت موظف ينادي لصعودنا إلى الطائرة ، هممْتُ بلهفتي إلى أُتوبيس المُدرّج و منه إلى طائرة الأحلام الوردية ، أصعد درجات الفضّة درجة درجة درجة ، وقفتُ بالباب أُلقي سلاماً على ما خلّفتُ من أحبة و أوفياء ، و على أعداء و أشقياء و على رتابة و ملل ، و لسانُ حالي يقول (( اقعدو فيها )) و ما إن أدرتُ بوجهي إلى الداخل لترتطم جبهتي العريضة بزاوية حديدية صلبة في أعلى الباب أعلنت انتهاء أجمل الأحلام في حياتي ، أجد نفسي بعدها ممدداً على الأرض مع ألواح السرير المهشمة و بقايا أغلفة الأشرطة و السجائر و باقات الكروت.