هل يكمن الحنين في هذي التفاصيل، هل هو العمر الذي يتسرب والذاكرة التي تفقد عنوانها، هكذا أحاول البحث والتذكر، أن أرسم المشهد والفراشية حرير، نعم هي “فراشية العرائس ” حتى يلتحفن بها يغمرن الجسد الغض الذي التحف “البدلة الكبيرة ” وتزين بكل ثمين، تفوح منهن تلك الروائح الفاغمة التي تشي بالزهو والدلال، فلماذا تغيب الآن؟ و”البدلة الكبيرة ” يغمرها ليل ” جلابية سودة “.
والمشهد أثير وحميم , ليل السانية والعرس القريب, سانية تجاورنا صحبة صديقتي فاطمة وابنة عمي زهرة و”مرت عمي سالمة ” نجتاز شارع الإسفلت وندخل إلى عالم من الضوء والأصوات والزغاريد , هي “ليلة النجمة ” يسموافيها هكي, هكذا تقول بنت عمي, ومرت عمي تقول “ليلة الحنة “نسمع الحوار ولا نفهم ,فقط مسرورتان بهذا الفيض من الأضواء والبنات في عمرنا نتعارف ونبدأ اللعب والاستمتاع بما تجود البنات الكبيرات علينا , وفجأة تنادينا “زهرة ” تعالوا : أين سنذهب, نمشوا مع النجمة ,من لا يحب المشي مع النجمة هيا يا فاطمة , نتراص في سيارة وأصوات الزغاريد و”كلاكسات السيارات ” وصوت “النوبة ” وغناء الشباب والرقص , عالم من البهجة يلهب أكفنا ونحاول تجريب “زغروطة “, انتبه لذاك المكان الأثير والسيارات يخفضن السرعة والهمهمات و”مرت عمي ” تدعو لابنتها كي يمنحها الله ” “نصيب مقوّم ..يا سيدي الشعاب “يهفو قلبي ورائحة البحر في ليلة صيف , وننتبه على طريق جميل وشارع على جانبيه أشجار وبيوت بطوابق, يتوقف الركب وتبدأ “الصدارات ” بالنزول من الأبواب المشرعة , أرقب الأحذية اللامعة ,الأيادي المحناة والخواتم تبرق في أصابع رقيقة , والفراشية حرير تهفهف ,
فاطمة تنبهني من تأملي لنخرج من السيارة ونتبع الخطوات, درجات درجات ودرجات, نتخافت الضحك ونتأمل الأضواء المعلقة الملونة والزغاريد الناعمة والأصوات الرقيقة التي ترحب وتهلل, وينفسح المكان لنجد سطحا واسعا مفروش بالبسط الملونة, والبنات الصغيرات بعمرنا ينظرن إلينا خاصة أقدامنا, فتنظر كل واحدة لقدميّ صاحبتها , يطالعنا الشبشب وأقدامنا المتربة من كثرة ما ركضنا حافيتين, وأمّا ما نلبس فكان “قفطانا” عاديا يتدلى طويلا فيغطينا , ولكن ما أجمل أن تكوني طفلة ,طفلة “بنت سانية”, لذا نبتهج بالجلوس على سور واطئ ونرقب المشهد ونرسمه فغدا يوم متميز , الغد هو اللقاء “وسط الحياش ” أو عند شجرة التوت , وهناك سنكون سيدتِّي الجلسة فاطمة وأنا لنحكي كل التفاصيل لبنات السانية , والمشهد عجيب نراه ولأول مرة نعرف من هنّ “الزمزامات”, حين نجلس في القيلولة بظل الزيتونة ونأخذ “سطلا أو علبة طلاء فارغة ونبدأ بالضرب عليها والغناء ,حينذاك تركض الينا “الحاجة لا لاهم ” لتنهرنا : اسكتوا وانتوا زي الزمزامات, ولكن ما أحلى الزمزامات وجلستهن الخاصة و”عالة الشاهي ” تتربع بينهن وانظري يا فاطمة ,”السامينسا والحمص والكاكاوية “
و يتحلب ريقنا, نذهب لنطلب من واحدة تحرس ذاك الكنزفتسأل “معاكم خمس قروش ” فنهزّ رأسينا ونعود, حين ذاك تجيء بنت كبيرة “صبية ” برداء بهيج ,حرير عادي وتستمال معقود والضفيرة طويلة وتسأل ” انتم من عيلة العريس ” فنهزّ الرأس فتأخذ بيدي وتقول ” اعطيهم يا خالتي تركية اللي يبوه ” وهكذا يدانا حافلتان بكل ما نحب ,نجلس على السور الواطيء نرقب الشارع تحتنا وفجأة يعلو صوت “الدربوكة “وتلك الصبيى\ة بضفيرتها الطويلة ترقص
(اللي جانا وجاب كساويه ,حجب يامولاي عليه ) , وفي مشهدضاج بأصوات “البنادير”(عرفنا بعد ذلك أنهم يسمونها طار) تنهض “الزمزامات” ليستقبلن العروس.
عروسا ملفوفة في “الردي الكبير “تجلس على تلك المخدات الكبيرة الملونة المنقوشة,تمدّ يدها البيضاء للحنّة, تلك الحنّة التي تحوطها بيضات , والشمع يتلألأ, وأصوات السيارات والنداءات . وصوت حرير “الفراشيات”، والدرجات التي نقفزها وصوت ضحكاتنا وعودتنا إلى السانية وكل واحدة تقبض في يدها “حنّة” ,
كان عمي عبد الله بانتظار ابنته فاطمة، …وأمي بانتظاري في سقيفة بيتنا: رفعتي البنت لنجمة في البلاد وهي لابسة شبشب يا زهرة وقفطان حوش؟
_____________________
نشلا بموقع بوابة أفريقيا الإخبارية.