دراسات

إِهَــــابُ العَــــولَمَةِ المُـمَزَّقِ!.. تَـأَمـُّـلاَتٌ وَرُؤَى فِيمَا وَرَاءَ العَــوْلَـمَةِ الثَّـقَافِيَّةِ

رُغْمَ كَثْرَةِ مَا كُتِبَ وَقِيلَ عَنْ ظَاهِرَةِ العَوْلَمَةِ فَإِنَّهَا مَا تَزَالُ تَسْتَوْعِبُ كَثِيراً مِنَ الاهْتِمَامِ والمُـتَابَعَةِ، وتَسْــتَحْوِذُ عَلَى مَزِيدٍ مِنَ النِّقَاشَاتِ وَالجَـدَلِ الوَاسِــعِ فِي الأوْسَــاطِ الفِكْرِيَّةِ وَالأَكَادِيمِيَّةِ فِي أَرْجَاءِ العَالَمِ، مِمَّا يَقُودُنَا إِلَى القَوْلِ بِأَنَّ هَذَا المُصْطَلَحَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ أَصْبَحَ بِشَــكْلٍ أَوْ بِآخَرَ يُعَبِّرُ عَنْ إِشْكَالِيَّةٍ (نَظَرِيَّةٍ) عَلَى صـَـعِيدِ المَعْنَى والمَــرَاحِلِ والتَّجَــــلِّيَاتِ الرَّاهِــنَةِ، وَعَلَى الرُّغْمِ مِنْ تَعَدُّدِ وُجُوهِ العَــوْلَمَةِ وَمَلاَمـِـحِهَا المُتَقَارِبَةِ فَإِنَّ الوَجْـــهَ الثَّقَافِيًّ يَظَلُّ ــ في نَظَرِي ــ الأَكْثَرُ شُحـُوبّاً وَقَتَامَةً وَخُــطُورَةً؛ وَذَلِكَ لِسَبَبٍ وَاحِدٍ يَكْمُنُ فِي جـَوْهَرِهِ وَمَعْــنَاهُ، فَهْـوَ يعْنِي اعْتِـبَارَ القِـيَمِ الثَّقَافِيَّةِ الغَرْبِيَّةِ بِمَـثَابَةِ المَعَـايِـيرِ الوَحِــيدِةِ المقْبُولَةِ للتَّعَامُلِ الدَّوْلِي، وَبِالتَّالِي تُشَكِّلُ العَــوْلَمَةُ نَمَطِيَّةً أُحَادِيَّةً ثَقَافِيَّةً، قِوَامُهَا دَعْوَةُ دِوَلِ الجَنُوبِ أَوِ (العَالَمِ الثَّالِثِ) لِلتَّخَلِّي عَنِ القِيَمِ الثَّقَافِيَّةِ المَوْرُوثَةِ، وَهَذَا فِي حَدِّ ذَاتِهِ ضَرْبٌ لِمَنْظُومَاتِ القِيَمِ الثـَّقَافِيَّةِ لهَذِهِ الدُّوَلِ وَمُـحَاوَلَةٌ وَاضِحَةٌ لِزَعْــزَعَةِ أَرْكَانِهَا، تَمْهِيداً لاسْتِبْدَالِهَاـــ وَلوْ جُزْئِيّاً ـــ بمُكوّناتٍ جَدِيدَةٍ، وَنَتِيجَةً لذَلِك يَتَوَحَّدُ العَالَمُ رُغْماً عَنْهُ فِي إِطَارِ نَمَطٍ  ثَقَافِي مُعَوْلَمٍ، فَتَنْتَفِي الخُصُوصِيَّاتُ وَالهَوِيَّاتُ الثَّقَافِيَّةُ التِي تُمَيِّزُ كُلَّ شَعْبٍ أوْ أُمَّةٍ عَلَى حِدَةٍ، وَهُنَا لاَبُدَّ أنْ نَضَعَ فِي الاعْتِبَارِ ثَلاَثَ عـَمَلِيَّاتٍ تَكْشِفُ عَنْ جَوْهَرِ العَـوْلَمَةِ وَهِيَ: العَمَلِيَّةُ الأُولَى: تَتَعَلَّقُ بِانْتِشَارِ المَعْلُومَاتِ بِحَيْثُ تُصْبِحُ مُشَاعَةً لَدَى جَمِيع النّاسِ، العَـمَلِيَّةُ الثّــانِيَةُ: تَتَعلّقُ بِتَـذْويبِ الحـُدُودِ بَيْنَ الـدُّوَلِ، وَالعَـمَلِيَّةُ الثّــالِثَةُ: هِيَ زِيَادَةُ مُعَدَّلاَتِ التّشَابُهِ بَيْنَ الجَمَاعَاتِ وَالمُجْتَمَعَاتِ وَالمُؤَسَّسَاتِ، وَكُلُّ هَذِهِ العَمَلِيَّاتِ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى نَتَائِجَ سَلْبِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ لِبْعَضِ المُجْتَمَعَاتِ، وَإِلَى نَتَائِجَ إِيجَابِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِهَا الآخَرِ، فَجَوْهرُ عَمَلِيَّةِ العَوْلَمَةِ إذاً يتَمَثَّلُ فِي سُهُولَةِ حَرَكَـةِ النَّاسِ وَالمَعْــلُومَاتِ وَالسِّلعِ بَيْنَ الدُّولِ على النِّطَـاقِ الكَـوْنِي.

* مَفهُومُ العَـوْلَمَةِ الثَّقَافِيَّةِ:

إِنَّ لِمَفْهـُومِ العَـوْلمَةِ مِنَ الجَوَانِبِ وَالأَبْعَادِ الكَثِيرَةِ، مَا يُثـِيرُ اهْتِـمَامَ البَاحِثِينَ والمُفَـكِّرِينَ وَالعُلَـمَاءِ، وَلَكِـنْ وَسَـطَ هذا الكَمِّ الهَائِلِ مِنَ الكِتَابَاتِ عَنِ العَوْلمَةِ تُصْبِحُ مَسْأَلَةُ صِيَاغَةِ تَعْـرِيفٍ دَقِيقٍ لهَا، مَسْأَلَةً مُعَقَّدةً وَشَائِكَةً، نَظَراً لتَعَدُّدِ التَّعْرِيفَاتِ، وَتَأَثُّرِ البَاحِثِينَ وَانْحِيَازِهِمْ (الأَيْديُولُوجِي) رَفْـضاً أَوْ قَبُولاً، فَضْلاً عَنِ الحَذَرِ الذِي تُقَابِلُ بِهِ الشُّعُوبُ عَمَلِيَّاتِ العَـوْلَمَةِ، وَتَخَـوُّفِ البَعْضِ مِنْ انتِشَارِهَــا عَلَى حِسَــابِ مَصَالِحِـهِمْ وَثَقَافَاتِهِم المُتَنَوِّعَةِ.

وَلِذَلِكَ سَيَتِمُّ التَّرْكِيزُ فِي هَذَا الإِطَارِ عَلَى الجَوَانِبِ الثَّقَافِيَّةِ لِلْعَوْلَمَةِ، وَتَجَلِّيَاتِهَا الرَّاهِنَةِ، وَأَبْعَادِهَا المُخْتَلِفَةِ ضِـْمنَ قِرَاءَةٍ مُتَـأَنِّيَةٍ فِيمَا وَرَاءَ طَـرْحِ هَذَا المَفْهُومِ، وَتَقْدِيمِهِ لِلْعَالَمِ وِفْقَ هَذِهِ الصِّيَغِ التِي تَصُبُّ كُلُّهَا فِي سِيَاقِ تَكْرِيسِ السَّــيْطَرَةِ الكَامِلَةِ لِلثَّقَافَةِ الغَرْبِيَّةِ عَلَى بَقِيَّةِ الثَّقَافَاتِ، وَإِلْغَاءِ خُصُوصِيَّاتِهَا، وَتَهْمِيشِهَا بِشَكْلٍ شِبْهِ كَامِلٍ.

إِنَّ مَفْهُـومَ العَوْلَمَةِ الثَّقَافِيَّةِ يُشِيرُ ــ كَمَا سَلَفَ القَوْلُ ــ إِلَى اعْتِـبَارِ القِـيَمِ الثقافِيَّةِ الغَربِيَّةِ بِمَثَابَةِ المَعَـايِـيرِ الوَحِيدَةِ المَقْبُولَةِ لِلتَّعَامُلِ الدَّوْلِيِّ، وَهَذَا الطَّرْحُ هُوَ نُقْطَةُ الانْطِلاَقِ فِي سَبْرِ أَغْوَارِ الجَانِبِ الثَّقَافِيِّ لِلعَولَمَةِ، وَكَشْفِ مَا فِي زَوَايَـاهُ مِنْ خَبَايَا.

فَالسِّمَاتُ الثَّقَافِيَّةُ لِلعَوْلَمَةِ تَتَبَدَّى ـــ فِيـمَا يَزْعُمُ دُعَاتُهَا ــ فِي تَزَايُدِ انْتِشَارِ أَنْمَاطٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ القِيَمِ الثَّقَافِيَّةِ وَالسُّلُوكِيَّاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ المُرْتَبِطَةِ بِالْفَنِّ وَالمَأْكَلِ وَالمَلْبَسِ وَالتَّسْلِيَةِ وَالذَّوْقِ العَامِّ ..إلخ عَلَى نِطَاقٍ وَاسِعٍ، مِمَّا يُسَاعِدُ فِي النِّهَايَةِ عَلَى تَوْحِيدِ التَّصَوُّرَاتِ وَالقِيَمِ وَأَنْمَاطِ التَّفْكِيرِ وَأَسَالِيبِ العَقْلِ بَيْنَ مُخْتَلَفِ شُعُوبِ العَالَمِ، وَيُوَفِّرُ بِالتَّالِي مِسَاحَةً وَاسِعَةً مِنَ الفَهْمِ المُتَبَادَلِ وَالتَّقَارُبِ بَيْنَ البَشَرِ مِنْ شَأْنِهَا إِقْرَارُ الأَمْنِ الدَّوْلِيِّ وَالسَّلاَمِ العَالَمِيِّ، وَلَوْ حَاوَلْنَا التَّعَمُّقَ فِي هَذِهِ الرُّؤَى وَالتَّجَلِّيَاتِ بِعَيْنِهَا فَسَنَجِدُ أَنَّ كَثِيراً مِنْهَا أَوْهَامٌ يُرِيدُ الغَرْبُ أَنْ يُرَوِّجَ لَهَا لِتَحْقِيقِ مَصَالِحِهِ فَقَط  لاَ غَيْرَ، فَهُوَ يَدْعُو لَهَا وَلاَ يَلْتَزِمُ بِهَا، وَيُلَوِّحُ بِثِمَارِهَا لِدُوَلِ العَالَمِ الثَّالِثِ، وَيَسْعَى لِجَنْيِّ هَذِهِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ تَسْقُطَ فِي حِجْرِ العَالَمِ النَّامِي.

إِنَّ مُعْظَمَ المُحَــاوَلاَتِ التِي تُرَكِّزُ عَلَى البُعْدِ الثَّقَافِيِّ لِلعَــوْلَمَةِ تُعَرِّفُ مَفْـهُومَ العَــوْلَمَةِ عَلَى أَسَاسِ أَنَّهَا عَمَلِيَّةُ خَلْـقِ ثَقَـافَةٍ عَالَمِيَّةٍ Global Culture، حَيْثُ أَنَّ هُـنَاكَ عَمَلِيَّاتِ تَحَوُّلٍ نَحْوَ التَّكَـامُلِ وَالتَّشَابُهِ. وَهَذَا أَيْضاً مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ “جان نيدرفين” عِنْدَمَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ التَّفْسِيرَاتِ شُيُوعاً لِلعَوْلَمَةِ، هِيَ التِي تُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّ العَالَمَ يَتَّجِهُ نَحْوَ التَّوَحُّدِ وَتَوْحِيدِ المَعَايِيرِ مِنْ خِلاَلِ تَزَامُنٍ تِكْنُولُوجِيٍّ وَتِجَارِيٍّ وَثَقَافِيٍّ نَابِعٍ مِنَ الغَرْبِ.

وَلِذَلِكَ يَرَى (السَّيِّد يَاسِين) أَنَّهُ عِنْدَ الحَدِيثِ عَنْ تَجَلِّيَاتِ العَوْلَمَةِ الثَّقَافِيَّةِ تَبْرُزُ مُشْـكِلَةُ الاتِّجَاهِ إِلَى صِيَاغَةِ ثَقَافَةٍ عَالَمِيَّةٍ، لَهَا قِيَمُهَا وَمَعَايِيرُهَا، وَالغَرَضُ مِنْهَا ضَبْطُ سُلُوكِ الدُّوَلِ وَالشُّعُــوبِ. وَالسُّؤَالُ هُنَا: هَلْ تُؤَدِّي هَذِهِ الثَّقَافَةُ العَالَمِيَّةُ ـــ حَالَ قِيَامِهَا وَتَأْسِيسِهَا ــ إِلَى العُدْوَانِ عَـلَى الخُصُـوصِيـَّاتِ الثَّقَافِيَّةِ، مِمَّا يُهَدِّدُ هَوِيَّاتِ المُجْتَمَعَاتِ المُعَاصِرَةِ؟، وَلاَ شَكَّ أَنَّ الإِجَابَةَ اليَوْمَ أَصْبَحَتْ وَاضِحَةً لِلْعِيَانِ، وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الثَّقَافَةَ العَالَمِيَّة التِي يُرَادُ لَـهَا أَنْ تَكُونَ فِي الطَّلِيعَةِ أَصْبَحَتْ تُهَدِّدُ الخُصُـوصِيـَّاتِ الثَّقَافِـيَّةِ، وَتَسْعَى لِتَهْمِيشِهَا وَإِقْصَائِهَا.

فَالعَوْلَمَةُ (Globalization) إِرَادَةٌ لِلْهَـيْمَنَةِ، وَبِالتَّالِي قَمْعٌ وَإِقْـصَاءٌ لِلْخُصُوصِيِّ، وَمُحَاوَلَةٌ لاحْتِوَاءِ العَالَمِ، وَجَعْلِهِ تَحْتَ دَائِرَةِ الهَيْـمَنَةِ الكَامِلَةِ فِي كَافَّةِ المَجَالاَتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالاقتِصَادِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ وَالاتِّصَالِيَّةِ، وَهُنَا يَرَى المُفَكِّرُ الرَّاحِلُ مُحَمَّد عَابِد الجَابِرِي أَنَّ: “نُشْدَانَ العَالَمِيَّةِ فِي المَجَالِ الثَّقَافِيِّ، كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ المَجَالاَتِ، طُمُوحٌ مَشْرُوعٌ، وَرَغْبَةٌ فِي الأَخْذِ وَالعَطَاءِ، فِي التَّعَارُفِ وَالحِوَارِ وَالتَّلاَقُحِ، إِنَّهَا طَرِيقَةُ الأَنَا لِلتَّعَامُلِ مَعَ الآخَرِ بِوَصْفِهِ أَنَا ثَانِيَة، طَرِيقُهَا لِجَعْلِ الإِيثَارِ يَحِلُّ مَحَلَّ الأَثَرَةِ، أَمَّا العَوْلَمَةُ فَهِيَ طُمُوحٌ، بَلْ إِرَادَةٌ لاخْتِرَاقِ الآخَرِ وَسَلْبِهِ خُصُوصِيَّتَهُ، وَبِالتَّالِي نَفْـَيُه مِنَ العَالَمِ، فَالعَالَمِيَّةُ إِغْنَاءٌ لِلْهَوِيَّةِ الثَّقَافِيَّةِ، أَمَّا العَوْلَمَةُ فَهِيَ اخْتِراقٌ لَهَا وَتَمْييعٌ”. وَبِهَـذَا تَتَّضِحُ لَنَا صُورَةُ العَوْلَمَةِ الثَّقَافِيَّةِ التِي تَتَخَفَّى وَرَاءَ أَقْنِعَةٍ بَرَّاقَةٍ انْخَدَعَ بِهَا الكَثِيرُونَ، فَهِيَ لاَ تَهْدِفُ إِلَى الانْفِتَاحِ عَلَى الآخَرِ بِشَكْلٍ حَضَارِيٍّ بِقَصْدِ الحِوَارِ وَالتَّلاَقُحِ وَالاغْتِنَاءِ مِنْ كَافَّةِ الثَّقَافَاتِ، بَلْ هِيَ تَسْعَى فِي كَثِيرٍ مِنْ جَوَانِبِهَا إِلَى إِقْصَاءِ الخُصُـوصِيَّاتِ الثَّقَافِيَّةِ وَقَمْعِهَا، بِقَصْدِ هَيْمَنَةِ ثَقَافَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى بَقِيَّةِ الثَّقَافَاتِ، وَسَيْطَرَتِهَا عَلَيْهَا، لِتَكُونَ مُرْتَكَزَاتُهَا وَمُكَوِّنَاتُ مَنْظُومَتِهَا الثقَافِيَّةِ أَدَاةً لِلتَّعَامُلِ الدَّوْلِيِّ بَيْنَ كَافَّةِ الدُّوَلِ وَالشُّعُوبِ.

وَلِذَلِكَ يَرَى (جَلاَل أَمِين) أَنَّ: “الذِينَ يُهَلِّلُونَ لِظَاهِرَةِ العَوْلَمَةِ يَقَعُونَ فِي خَطَأ فَادِحٍ، فَهُمْ يَفْهَمُونَ العَوْلَمَةَ أَوْ يُحَاوِلُونَ تَصْوِيرَهَا عَلَى أَنَّهَا تَنْطَوِي عَلَى عَمَلِيَّةِ تَحَرُّرٍ مِن رِبْقَةِ الدَّوْلَةِ القَوْمِيَّةِ إِلَى أُفُـقِ الإِنسَانِيَّةِ الوَاسِعِ، تَحَرُّرٌ مِنْ نِظَامِ التَّخْطِيطِ الآمِرِ الثقِيلِ إِلَى نِظَامِ السُّوقِ الحُرَّةِ، تَحَرُّرٌ مِنَ الوَلاَءِ لِثَقَافَةٍ ضَيِّقَةٍ وَمُتَعَصِّبَةٍ إِلَى ثَقَافَةٍ عَالَمِيَّةٍ وَاحِدَةٍ  يَتَسَاوَى فِيهَا النَّاسُ وَالأُمَمُ جَمِيعاً، تَحَرُّرٌ مِنَ التَّعَصُّبِ لأَيديُولُوجيَا مُعَيَّنَةٍ إِلَى الانْفِتَاحِ عَلَى مُخْتَلَفِ الأَفكَارِ مِنْ دُونِ أَيِّ تَعَصُّبٍ أَوْ تَشَنُّجٍ، تَحَرُّرٌ مِنْ كُلِّ صُوَرِ اللاَعَقْلاَنِيَّةِ النَّاتِجَةِ مِنَ التَّحَيُّزِ المُسْبَقِ لأُمَّةٍ أَوْ دِينٍ أَوْ أَيديُولُوجيَا بِعَيْنِهَا إِلَى عَقْلاَنِيَّةِ العِلْمِ وَحِيَادِ التَّقَانَةِ، هَكَـذَا تُصَوَّرُ لَنَا العَوْلَمَةُ، وَمِنْ ثَمَّ اقْتَرَنَ الحَدِيثُ عَنْهَا بِكَثْرَةِ الحَدِيثِ عَنْ أَشْيَاءَ بَرَّاقَةٍ تَسْلِبُ اللُّبَّ، مِنْ حُقُـوقِ الإِنْسَانِ وَالدِّيمُقرَاطِيَّةِ، إِلَى الإِشَادَةِ بِالْعَقْلاَنِيَّةِ وَالعِلْمِ، إلخ..، كَمْ يَكُونُ العَالَمُ جَمِيلاً لَوْ كَانَ هَذَا كُلُّهُ صَحِيحاً، وَلَكِنَّ الحَقِيقَةَ لِلأَسَفِ غَيْرُ ذَلِكَ، بَلْ لَعَلَّهَا عَكْسُ ذَلِكَ بِالضَّبْطِ، وَإِنَّمَا يُسَاعِدُ عَلَى تَصْدِيقِ كُلِّ هَذِهِ الأَشْيَاءِ أَنَّ لَفْظَ العَوْلَمَةِ يَصِفُ مَا يَجْرِي عَلَى السَّطْحِ دُونَ أَنْ يُفْصِحَ عَنْ مُحْتَوَاهُ الحَقِيقِيُّ، إِنَّ الكَلاَمَ يَجْرِي عَنِ العَولَمَةِ مِنْ دُونِ أَنْ يُثَارَ السُّؤَالُ عَمَّا تَجْرِي عَوْلَمَتُهُ”، وَيُؤَكِّدُ ذَاتُ البَاحِثِ أَنَّ العَولَمَةَ فِي الحَقِيقَةِ عَوْلَمَةُ نَمَطٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الحَيَاةِ، لاَ أَشْعُرُ بِأَيِّ الْتِزَامٍ بِتَبَنِّيهِ وَإِتِّبَاعِهِ، وَإِنَّمَا شَاعَ الاعْتِقَادُ بِضَرُورَةِ تَبَنِّيهِ وَإِتِّبَاعِهِ لِمُجَرَّدِ أَنَّهُ يَنْدُرُ أَنْ تُثَارَ مَسْأَلَةُ خُصُوصِيَّتِهِ، وَارْتِبَاطِهِ بِثَقَافَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَنَظْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ إِلَى الحَيَاةِ وَالكَوْنِ، (أَيْ بِأيديُولُوجيَة مُعَيَّنَةٍ فِي الحَقِيقَةِ)، وَمَسْأَلَةُ الخُصُوصِيَّةِ هَذِهِ نَادِراً مَا تُثَارُ بِسَبَبِ طُولِ عَهْدِنَا بِاكْتِسَاحِ هَذَا النَّمَطِ لِحَيَاتِنَا، (فَالظَّاهِرَةُ تَعُودُ بِدَايَتُهَا لِخَمْسَةِ قُرُونٍ خَلَتْ)، وَبِسَبَبِ اشْتِدَادِ هَذَا الاكْتِسَاحِ وَسُرْعَتِهِ فِي العُقُودِ الأَخِيرَةِ، وَبِسَبَبِ وُجُودِ مَصْلَحَةٍ أَكِيدَةٍ لأَصْحَابِ الثقَافَةِ وَالمُنْتَجَاتِ التِي تَجْرِي عَوْلَمَتُهَا فِي عَدَمِ افْتِضَاحِ خُصُوصِيَّتِهَا، وَاسْتِخْدَامِهَا لِمُخْتَلَفِ وَسَائِلِ القَهْرِ المَادِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ وَالنَّفْسِيِّ وَالعَقْلِيِّ لِتَصْدِيرِ مَا هُوَ خَاصٌّ عَلَى أَنَّهُ إِنْسَانِيٌّ وَعَامٌّ”.  وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ النَّمَطَ الثقَافِيَّ الذِي يُرَادُ عَوْلَمَتُهُ هُوَ نَمُوذَجٌ يَعْتَقِدُ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ الأَفْضَلُ وَالأَرْقَى عَالَمِيّاً، لِذَلِكَ يَرَوْنَ ضَرُورَةَ جَعْلِهِ نَمُوذَجاً مُتَّبَعاً عَلَى نِطَاقٍ وَاسِعٍ فِي كُلِّ مَكَانٍ عَلَى سَطْحِ الكُرَةِ الأَرْضِيَّةِ.

وَتَرَى لَجْنَةُ اليُونسكو العَالَمِيَّةِ التِي قَامَتْ بِالإِعْدَادِ لِمُؤْتَمَرِ “السِّيَاسَاتِ الثقَافِيَّةِ مِنْ أَجْلِ التَّنْمِيَةِ” التِي عَقَـدَتْ اجْتِمَاعَاتِهَا فِي مَدِينَةِ ستوكهولم (عَاصِمَةُ السويد) عَـامَ 1998 “أَنَّ التَّنْمِيطَ الثقَافِيَّ أَوِ التَّوْحِيدَ الثقَافِيَّ لِلْعَـالَمِ يَتِمُّ بِاسْتِغْـلاَلِ ثَـوْرَةِ وَشَبَكَةِ الاتِّصَـالاَتِ العَـالَمِيَّةِ وَهَيْكَلِهَا الاقْتِصَـادِيِّ الإِنْتَـاجِيِّ، وَالمُتَمَثِّلِ فِي شَبَكَاتِ نَقْـلِ المَعْلُومَـاتِ، وَالسِّلَـعِ، وَتَحْرِيكِ رُؤُوسِ الأَمْـوَالِ”.

وَإِذَا كَانَتِ الثقَافَةُ تَعْنِي ذَلِكَ المُرَكَّب المُتَجَانِس مِنَ الذِّكْـرَيَاتِ وَالتَّصَوُّرَاتِ وَالقِيَمِ وَالرُّمُوزِ وَالتَّعْبِيرَاتِ وَالإِبْدَاعَاتِ وَالتَّطَلُّعَاتِ التِي تَحْتَفِـظُ لِجَمَـاعَةٍ بَشَرِيَّةٍ، تُشَكِّلُ أُمَّةً أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا، بِهَوِيَّتِهَا الحَضَارِيَّةِ، فِي إِطَارِ مَا تَعْرِفُهُ مِنَ تَطَوُّرَاتٍ بِفِعْلِ دِينَامِيَّتِهَا الدَّاخِلِيَّةِ، وَقَابِلِيَّتِهَا لِلتَّوَاصُلِ وَالأَخْذِ وَالعَطَاءِ، فَإِنَّ العَوْلَمَةَ الثقَافِيَّةَ تَهْدِفُ إِلَى نَشْرِ أَنْمَاطٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ القِيَمِ الثقَافِيَّةِ وَالسُّلُوكِيَّاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ المُرْتَبِطَةِ بِدُعَاةِ العَوْلَمَةِ، وَبِالتَّالِي اكْتَسَاحَ بَقِيَّةِ الثقَافَاتِ وَضَرْبِ هَوِيَّتِهَا وَخُصُوصِيَّتِهَا فِي الصَّمِيمِ، وَالغَرِيبُ فِي الأَمْرِ أَنَّ الحُجَّةَ التِي يَتِمُّ طَرْحُهَا كَسَبَبٍ لِهَذَا التَّرْوِيجِ لِثَقَافَتِهِمْ هِيَ تَوْحِيدُ التَّصَوُّرَاتِ وَالقِيَمِ وَأَنْمَاطِ التفْكِيرِ بَيْنَ مُخْتَلَفِ شُعُوبِ العَالَمِ، لإِقْرَارِ السَّلاَمِ العَالَمِيِّ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ بَاطِلَةٌ فِي نَظَرِي؛ إِذْ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَحَّدَ العَالَمُ فِي طَرَائِقِ التَّفْكِيرِ وَالتَّصَوُّرَاتِ وَالقِيَمِ بِنَاءً عَلَى نَمُوذَجٍ مُحَدَّدٍ سَلَفاً، ثُمَّ أَيْنَ هُوَ التَّنَوُّعُ وَالاخْتِلاَفُ وَالتَّبَايُنُ الذِي أَوْجَدَهُ الخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي البَشَرِ، وَجَعَلَهُ مِيزَةً لاَ غِنَى عَنْهَا، فَلَوْلاَ تَعَدُّدُ الثَّقَافَاتِ وَتَمَايُزُ الأَفْكَارِ وَالمُعْتَقَدَاتِ، لَمَا وَصَـلَتِ البَشَرِيَّةُ إِلَى مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ مِنْ التَّطَوُّرِ وَالتَّقَدُّمِ البَاهِرِ فِي كُلِّ المَجَالاَتِ وَالعِـلُومِ وَالمَعَـارِفِ، فَالحَضَارَاتُ تَتَلاَقَحُ وَالثقَافَاتُ تَغْتَنِي مِنْ بَعْضِهَا البَعْضِ، رُغْمَ الاخْتِلاَفَاتِ التِي تُمَيِّزُ كُلاًّ مِنْهَا، لَكِنَّ أَنْصَارَ “العَوْلَمَةِ الثقَافِيَّةِ” يُصِرُّونَ عَلَى ضَرُورَةِ نَشْرِ نَمُوذَجِ الأَنَا (المُتَعَاظِمَةِ) لاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ كُلَّ الشُّعُوبِ سَوْفَ تَسِيرُ مَعَ هَذَا التَّوَجُّهِ، وَتَبْدَأُ تَدْرِيجِيّاً فِي التَّخِلِّي عَنْ هَوِيَّتِهَا الثقَافِيَّةِ لِصَالِحِ تِلْكَ الثَّقَافَةِ العَالَمِيَّةِ الجَدِيدَةِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَحْدُثْ حَتَّى الآنَ، بَلِ الذِي حَدَثَ هُوَ عَكْسُ ذَلِكَ تَمَاماً، إِذْ أَنَّ كَثِيراً مِنَ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالمُنَظَّمَاتِ بَدَأَتْ تَرْفَعُ أَصْوَاتَهَا بِرَفْضِ العَوْلَمَةِ، وَمُنَاهَضَتِهَا بِشَتَّى الطُرُقِ؛ لأَنَّهَا تُشَكِّلُ خَطَراً عَلَى الخُصُوصِيَّاتِ الثَّقَافِيَّةِ، وَتُكَرِّسُ هَيْمَنَةَ قِوَى الغَرْبِ عَلَى دِوَلِ العَالَمِ الثَّالِثِ لِتَحْقِيقِ مَصَالِحِهَا، فَالعَوْلَمَةُ لاَ تَعْنِي تَحْقِيقَ تَبَادُلٍ حَضَارِيٍّ وَقِيَمِيٍّ وَإِنْسَانِيٍّ، وَلاَ تَعْنِي الذَّهَابَ إِلَى الآخَرِ وَالتَّعَرُّفَ عَلَيْهِ وَدِرَاسَةِ رَكَائِزِ ثَقَافَتِهِ وَقِيَمِهِ، بَلْ هِـَي تَنْطَلِقُ مِنْ مَفْهُومِ الهَيْمَنَةِ وَالسَّيْطَرَةِ العَالَمِيَّةِ، وَالتَّرْوِيجِ لِصِدَامِ الحَـضَارَاتِ وَالثَّقَافَـاتِ بَـدَلاً مِنْ تَحَـاوُرِهَا الإِيجَـابِيِّ.

* مُنَاهَضَةُ العَوْلَمَةِ:

لَقَدْ رَفَعَ دُعَاةُ العَوْلَمَةِ شِعَارَاتٍ عِدَّة، رُبَّمَا كَانَ مِنْ أَبْرَزِهَا القُدْرَةُ الكَبِيرَةُ عَلَى حَلِّ كَافَّةِ المُشْكِلاَتِ التِي تُوَاجِهُ المُجْتَمَعَ الإِنْسَانِيَّ المُعَاصِرَ، لَكِنَّ مَا حَدَثَ بِالفِعْلِ هُوَ أَنَّ المُشْكِلاَتِ الاقْتِصَادِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ وَالثقَافِيَّةِ التِي تُوَاجِهُ العَالَمَ أَكْثَرُ تَعْقِيداً بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ لأَيديُولُوجيَّةٍ وَاحِدَةٍ أَنْ تَقْضِيَ عَلَيْهَا مُنْفَرِدَةً، وَتَجِدَ لَهَا حُلُولاً نَاجِعَةً بَيْنَ عَشِيَّةٍ وَضُحَاهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الادِّعَاءَاتِ التِي يَرْفَعُهَا أَنْصَارُ العَوْلَمَةِ هِي ادِّعَاءَاتٌ لاَ يُؤَيِّدُهَا وَاقِعُ الأُمُورِ، بَلْ إِنَّ هُنَاكَ عَلَى العَـكْسِ مِنْ ذَلِكَ نَوْعاً مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى التِّكْنُولُوجيَا وَالأَنْظِمَةِ الاقْتِصَادِيَّةِ التِي تُضِيفُ قُوَّةً إِلَى الأَقْوِيَاءِ ـــ الذِينَ يُؤَلِّفُونَ قِلَّةً مِنْ سُكَّانِ العَالَمِ ـــ وَضُعْفاً إِلَى الكَثْرَةِ الضَّعِيفَةِ أَوِ المُسْتَضْعَفَةِ ــ الذِينَ يُؤَلِّفُونَ الأَغْلَبِيَّةَ السَّاحِقَةَ عَلَى كُلِّ المُسْتَوَيَاتِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ الرَّأْيُ المَطْرُوحُ (بِهَذَا الصَّدَدِ) أَنَّهُ حَتَّى يُمْكِنَ تَجَنُّبُ قِـيَامِ حَرَكَاتِ تَمَرُّدٍ اجْـتِمَاعِيٍّ شَامِلَةٍ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ مُرَاجَعَةُ المَوَاقِفِ، وَالعَمَلُ عَلَى بِنَاءِ رَوَابِطَ قَوِيَّةً مَعَ هَذِهِ الجُمُوعِ الشَّعْبِيَّةِ مِمَّا قَدْ يُسَاعِدُ عَلَى تَجَاوُزِ الأَزْمَاتِ النَّاجِمَةِ عَنِ العَوْلَمَةِ، وَالنَّاشِئَةِ عَنْ إِغْفَالِ الفَوَارِقِ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَالثَّقَافَاتِ.

بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ المُعْضِلَةَ الأَخِيرَةَ، أَعْنِي إِغْفَالَ الفَوَارِقِ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَالثَّقَافَاتِ، دَفَعَتْ إِلَى تَزَايُدِ الحَرَكَاتِ المُنَاهِـضَةِ لِلعَولَمَةِ، فَكَثِيراً مَا تَخْرُجُ المُظَاهَرَاتُ الصَّاخِبَةُ فِي مُوَاجَهَةِ المُؤْتَمَـرَاتِ وَالاجْتِمَاعَاتِ الدَّوْلِيـَّةِ؛ لِرَفْضِ سِيَاسَاتِ الدُّوَلِ الكُبْرَى التِي لاَ تَتَّفِـقُ مَعَ مُتَطَـلَّبَاتِ الدُّوَلِ النَّامِيَةِ، كَمَا حَدَثَ فِي برشلونة مَثَلاً ــ فِي شَهْرِ مارس2002 ـــ حِينَ ضَمَّتِ المَسِيرَاتُ أَكْثَرَ مِنْ رُبْعِ مِلْيُونِ نَسَمَةٍ أَثْنَاءَ اجْتِمَاعِ قِمَّةِ الاتِّحَادِ الأُورُوبِيِّ، أَوْ كَمَا حَدَثَ فِي جنوا فِي عَامَ 2001، وَكَذَلِكَ قِيَامُ حَرَكَةِ (العَدَالَةِ الكَوْكَبِيَّةِ) التِي تَأْخُذُ فِي اعْتِبَارِهَا مَشَاكِلَ كُلِّ الشُّعُوبِ عَلَى كَوْكَبِ الأَرْضِ دُونَ اسْتِثنَاءٍ، وَالحَرَكَةُ الدَّوْلِيَّةُ لِمُنَاهَضَةِ العَوْلَمَةِ، وَالتِي تَحْمِلُ اسْمَ(Globalize Resistance): وَالتِي تَرْفُضُ مُنْذُ البِدَايَةِ أَنْ تُضْفِي عَلَى الرَّأسِمَالِيَّةِ مَا تَعْتَبِرُهُ طَابِعاً إِنْسَانِيّاً زَائِفاً، وَتَرَى أَنَّ مَبَادِئَ العَوْلَمَةِ لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَيَّةِ نَتَائِجَ طَيِّبَةٍ، وَأَنَّهَا عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، لَنْ يَنْتُجَ عَنْ تَطْبِيقِهَا سِوَى الخَلَلِ وَالاضْطِرَابِ وَالارْتِبَاكِ دَاخِلَ أَيِّ مُجْتَمَعٍ يُحَاوِلُ إتِّبَاعَ تِلْكَ المَبَادِئِ فِي رَسْمِ سِيَاسَتِهِ الاقْتِصَادِيَّةِ.

لَقَدْ جَاءَ رَفْضُ الشُّعُوبِ لِفِكْرَةِ العَوْلَمَةِ كَمَا يَطْرَحُهَا دُعَاتُهَا اليَوْمَ بِسَبَبِ تَجَاهُلِ خُصُوصِيَّاتِهِم الثَّقَافِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، وَإِصْرَارِ دُعَاةِ العَوْلَمَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ الشُّعُوبِ سَوْفَ تَرُوقُ لَهَا دَعَوَاتُ التَّحَرُّرِ مِنَ الثَّقَافَةِ المَوْرُوثَةِ؛ لأَنَّهَا سَبَبٌّ مِنْ أَسْبَابِ تَخَلُّفِهَا، وَبِالتَّالِي سَتَنْجَذِبُ بِسُرْعَةٍ مُذْهِلَةٍ لِقِطَارِ العَوْلَمَةِ السَّرِيعِ، وَسَتَرْكَبُهُ حَتْماً، وَتَتْرُكُ ثَقَافَتَهَا وَهَوِيَّتَهَا، وَهُنَا يُشِيرُ المُفَكِّرُ الرَّاحِلُ مُحمَّد عَابِد الجَابِرِي إِلَى أَنَّهُ: “مَعَ التَّطْبِيعِ مَعَ الهَيْمَنَةِ وَالاسْتِسْلاَمِ لِعَمَلِيَّةِ الاسْتِتْبَاعِ الحَضَارِيِّ يَأْتِي فُقْدَانُ الشُّعُورِ بِالانْتِمَاءِ لِوَطَنٍ أَوْ أُمَّةٍ أَوْ دَوْلَةٍ، وَبِالتَّالِي إِفْرَاغُ الهَوِيَّةِ الثَّقَافِيَّةِ مِنْ كُلِّ مُحْتَوَى، فَالعَوْلَمَةٌ عَالَمٌ مِنْ دُونِ دَوْلَةٍ، مِنْ دُونِ أُمَّةٍ، مِنْ دُونِ وَطَنٍ، إِنَّهُ عَالَمُ المُؤَسَّسَاتِ وَالشَّبَكَاتِ العَالَمِيَّةِ، عَالَمُ الفَاعِلِينَ وَهُم المُسَيِّرُونَ، وَالمَفْعُولُ بِهِمْ، وَهُم المُسْتَهْلِكُونَ لِلسِّلَعِ وَالصُّوَرِ وَالمَعْلُومَاتِ وَالحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ التِي تُفْرَضُ عَلَيْهِمْ، أَمَّا وَطَنُهُمْ فَهُوَ الفَضَاءُ المَعْلُومَاتِيُّ الذِي تَصْنَعُهُ شَبَكَةُ الاتِّصَالاَتِ، الفَضَاءُ الذِي يَحْتَوِي ــ يُسَيْطِرُ وَيُوَجِّهُ ــ الاقْتِصَادَ وَالسِّيَاسَةَ وَالثَّقَافَةَ”.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ مَزَاعِمَ أَنْصَارِ العَوْلَمَةِ بِقُدْرَتِهَا عَلَى تَوْحِيدِ العَالَمِ هِيَ مُجَرَّدُ أَوْهَامٍ تَخْدَعُ بِهَا الدُّوَلُ القَوِيَّةُ الغَنِيَّةُ بَقِيَّةَ شُعُوبِ كَوْكَبِ الأَرْضِ، بَلْ إِنَّ هُنَاكَ مِنَ المُفَكِّرِينَ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى حَدِّ اعْتِبَارِ العَوْلَمَةِ صُورَةً حَدِيثَةً مُتَطَوِّرَةً مِنَ الاسْتِعْمَارِ القَدِيمِ، الذِي كَانَ المُدَافِعُونَ عَنْهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ يَهْدِفُ إِلَى تَوْحِيدِ العَالَمِ، وَالتَّقْرِيبِ بَيْنَ أَنْظِمَتِهِ وَثَقَافَاتِهِ بِاسْمِ الدِّينِ أَوِ الحَضَارَةِ الإِنْسَانِيَّةِ الرَّاقِيَةِ، وَالارْتِفَاعِ بِمُسْتَوَى الشُّعُوبِ المُتَخَلِّفَةِ، وَالوُصُولِ بِهَا إِلَى آفَاقٍ جَدِيدَةٍ مِنَ الرُّقِيِّ الاقْتِصَادِيِّ وَالفِكْرِيِّ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ زَيْفُهُ، فَلَيْسَ ثَمَّةَ اخْتِلاَفٌ جَوْهَرِيٌّ فِي حَقِيقَةِ الأَمْرِ بَيْنَ الحَرَكَاتِ الاسْتِعْمَارِيَّةِ وَتَيَّارَاتِ دَعَاوَى العَوْلَمَةِ؛ لأَنَّ الاثْنَتَيْنِ تُغْفِلاَنِ تَمَاماً مَبْدَأَ اسْتِقْلاَلِ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَتَنَوُّعَ الثَّقَافَاتِ وَالنُّظُمِ الاجْتِمَاعِيَّةِ.

وَيُلاَحَـُظ ضِمْنَ هَذَا السِّيَاقِ، أَنَّ مُعْظَمَ الشُّعُوبِ اليَوْمَ ازْدَادَتْ تَشَبُّثاً بِثَوَابِتِهَا الثَّقَافِيَّةِ وَالقَوْمِيَّةِ؛ لِكَيْ لاَ تَقْتَلِعَهَا رِيَاحُ العَوْلَمَةِ العَاتِيَةِ، فَفِي كَنَدَا تَمَسَّكَ الكُتَّابُ المُنْتَمُونَ لِلسُّكَّانِ الأَصْلِيينَ بِأَسَاطِيرِهِم القَوْمِـيَّةِ لِلتَّدْلِيلِ عَلَى أَصَالَتِهِمْ، كَمَا ظَهَرَتْ فِي الصِّينِ نَزْعَةٌ قَوِيَّةٌ لإِعَادَةِ بِنَاءِ الثَّقَافَةِ الصِّينِيَّةِ عَلَى أُسُسِ التَّعَالِيمِ الكُونفُشْيُوسِيَّةِ لِمُقَاوَمَةِ الأَنْظِمَةِ الغَرْبِيَّةِ التِي تُرِيدُ فَرْضَ وُجُودِهَا الثَّقَافِيِّ، وَفِي أَفْرِيقيَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُ الكُتَّابِ وَالمُفَكِّرِينَ بِضَرُورَةِ الخُرُوجِ مِنْ عَـبَاءَةِ المُسْتَعْمِرِ القَدِيمِ، وَالتَّحَـرُّرِ مِنْ رِبْقَتِهِ، لِحِمَايَةِ الثَّقَافَةِ الأَفْـرِيقِيَّةِ مِنَ الاغْتِرَابِ وَالضَّيَاعِ وَالعَوْدَةِ إِلَى الوَرَاءِ.

وَفِي هَذَا الإِطَارِ يُؤَكِّدُ الدكتور سُليمان العسكري: “أَنَّهُ فِي ضَوْءِ هَذِهِ الحَالَةِ وَاسِعَةِ الانْتِشَارِ فِي العَالَمِ الثَّالِثِ، يَنْبَغِي أَنْ نَعْتَرِفَ بِأَنَّ النَّزْعَةَ الأُصُولِيَّةَ تُجَسِّدُ القَلَقَ الاجْتِمَاعِيَّ إِزَّاءَ خِطَابِ الهَيْمَنَةِ الغَرْبِيَّةِ المُتَسَتِّرِ وَرَاءَ مَزَاعِمِ العَوْلَمَةِ، فَخِطَابُ العَوْلَمَةِ المُنْبَثِقِ عَنْ فَلْسَفَةِ مَا بَعْدَ الحَدَاثَةِ عَمِلَ عَلَى تَقْلِيصِ الإِحْسَاسِ بِالْهَوِيَّةِ المُشْتَرَكَةِ لِلْجَمَاعَاتِ البَشَرِيَّةِ فِي بُقَعٍ مُحَدَّدَةٍ مِـنَ العَـالَمِ، وَمِثَالُهَا أُمَّتُنَا العَرَبِيَّةُ، حَيْثُ اسْتَهَانَ خِطَـابُ العَوْلَمَةِ بِالتَّارِيـخِ المُشْتَرَكِ لِمِثْلِ هَذِهِ الأُمَّـةِ، رَغْبَةً فِي تَحْوِيلِ الاهْـتِمَامِ بِحَاضِرٍ تُحَرِّكُهُ قَوَانِينُ السُّوقِ، وَتَصُوغُهُ التَّطَلُّعَاتُ الاسْتِهْـلاَكِيَّةُ”.

إِنَّ التَّمَعُّنَ فِي حَقِيقَةِ العَولَمَةِ يَكْشِفُ بِوُضُوحٍ تَرَافُقَهَا مَعَ مَشْرُوعٍ ثَقَافِيٍّ لاَ غِنَى لِلْعَوْلَمَةِ عَنْهُ، يَقُومُ عَلَى الانْدِفَــاعِ إِلَى السَّيْـطَرَةِ وَالهَيْمَنَةِ عَلَى العَالَمِ مِنْ خِلاَلِ الاقْتِصَادِ وَالسِّيَاسَةِ وَالإِعْلاَمِ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةٍ ثَقَافِيَّةٍ تَقُومُ مُرْتَكَزَاتُهَا عَلَى قِيَمِ وَمَفَاهِيمِ وَحَقَائِقِ الإِنْسَانِ الغَرْبِيِّ، المُتَّجِهِ لِلسَّيْطَرَةِ عَلَى أَرْضِ وَثَرَوَاتِ الآخَرِينَ، تَحْقِيقاً لِذَاتِهِ المُتَفَوِّقَةِ، وَبِمَا أَنَّ الحَضَارَةَ الغَرْبِيَّةَ وَثَقَافَتَهَا وَصَلَتْ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ التَّطَوُّرِ وَالتَّقَدُّمِ، عَلَى قَـاعِدَةِ العِلْمِ وَالعَقْلِ وَالطَّبِيعَةِ، فَإِنَّهُ مِنَ الصَّحِيحِ أَنْ تَكُونَ قِيَمُ وَمَبَادِئُ هَذِهِ الحَضَارَةِ صَالِحَةً لِلْجَمِيعِ، وَبِالتَّالِي، يُمْكِنُ تَعْمِيمُ مَا هُـوَ خَاصٍّ بِالمُجْتَمَعِ الغَرْبِيِّ لِيَشْمَلَ المُجْتَمَعَاتِ الأُخْرَى. وَقَدْ أَشَارَ سيرج لاتوش إِلَى أَنَّ مُصْطَلَحَ النِّظَامِ الدَّوْلِيِّ الذِي سَادَ فِي العُقُودِ السَّابِقَةِ كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ عَالَمِيَّةٍ مَرْكَزُهَا الحَضَارَةُ الغَرْبِيَّةُ، وَبِخَاصَّةٍ الوِلاَيَاتُ المُتَّـحِدَةُ الأَمْرِيكِيَّةُ، وَالتِي لاَ تَعْنِي إِلاَّ فَرْضَ الأَنْسَاقِ القِيَمِيَّةِ فِي إِطَارِ مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَنْمَاطُ الحَيَاةِ، وَلاَ يُمْكِنُ تَفَهُّمُ عَنَاصِرِ حُقُوقِ الإِنْسَانِ وَالدِّيمُقرَاطِيَّةِ إِلاَّ بِاعْتِبَارِهَا تَعْبِيرَاتٍ تُحَاوِلُ أَنْ تُحَقِّقَ تَنْمِيطاً حَضَارِيّاً عَالَمِيّاً، وَرُبَّمَا هَذَا مَا دَفَعَ ريجيس دوبريه إِلَى القَوْلِ إِنَّ: “العَالَمِيَّةَ كَانَتْ مُجَرَّدَ أُكْذُوبَةٍ أَوْ وَهْمٍ أَوْ سِتَارٍ خَادِعٍ؛ لأَنَّ النَّاسَ مَحَلِّيُونَ أَوَّلاً، وَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ سَبِيلٌ لِلذَّهَابِ وَالإِيَابِ بَيْنَ المَحَلِّيِّ وَالعَالَمِيِّ، يَنْبَغِي أَنْ نُفَكِّرَ عَالَمِيّاً وَلَكِنْ نَنْشَطُ مَحَلِّيّاً عَلَى الدَّوَامِ”.

وَيَتَنَاوَلُ البَاحِثُ إِبرَاهِيم أَبرَاش المَجَالاَتِ التِي تُشَكِّلُ العَـوْلَمَةُ تَحَدِّيّاً حَقِيقِيّاً فِــيهَا، وَمِنْهَا التَّحَدِّي الثَّقَافِيِّ، مُشِيراً إِلَى أَنَّ الذِي جَرَى فِي العِقْدَيْنِ الأَخِيرَيْنِ هُوَ تَزَامَنُ العَـوْلَمَةِ بِوَصْفِهَا مَسْعىً لإِزَالَةِ الحُدُودِ وَتَحْوِيلِ العَالَمِ إِلَى قَرْيَةٍ كَوْنِيَّةٍ تَتَجَاوَزُ الصِّرَاعَـاتِ وَالحُدُودِ الثَّقَافِيَّةِ، مَعَ الانْفِجَارِ الحَقِيقِيِّ لِلاحْتِكَاكَاتِ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَالثَّقَافَاتِ عَلَى المُسْتَوَى الدَّوْلِيِّ، حَيْثُ تَفَجَّرَتْ صِرَاعَاتٌ جَدِيدَةٌ تَقَومُ عَلَى أُسُسٍ ثَقَافِيَّةٍ ــ عِـرْقِيَّةٍ وَطَائِفِيَّةٍ ــ أَوْ مَا يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهُ أَثْنَنَةُ العَـالَمِ أَوِ التَّفْكِيكِ.

غَيْرَ أَنَّ مَا وَرَاءَ الشِّعَــارَاتِ البَرَّاقَةِ لِلْعَوْلَمَةِ تُأَكَدُ أَنَّ المُرَوِّجِينَ لَهَا يَنْطَلِقُونَ مِنْ اتِّجَاهٍ تَبْشِيرِيٍّ يُعَبِّرُ عَنْ أَنْوِيَةٍ حَضَارِيَّةٍ (غَرْبِيَّةٍ مَسِيحِيَّةٍ أَوْ مَرْكَزِيَّةٍ ثَقَافِيَّةٍ) يَهْـدِفُ إِلَى إِذَاعَـةِ وَنَشْرِ القِيَمِ التِي تُمَـثِّلُ القَاعِدَةَ المِحْوَرِيَّةَ لِهَذِهِ الحَضَارَةِ، كَمَا يَهْدِفُ إِلَى تَطْوِيرِ القِيَمِ المَقْبُولَةِ، وَرَفْضِ وَنَبْذِ الأَشْكَالِ الاجْتِمَاعِيَّةِ غَيْرِ المَقْبُولَةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَالتَّعَاوُنُ الدَّوْلِيُّ يَتَّجِهُ نَحْوَ قَبُولِ تَفْسِيرٍ مُحَدَّدٍ لِبَعْضِ القِيَمِ، وَذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ عَزْلِ وَإِدَانَةِ الدُّوَلِ التِي تُفَسِّرُ هَذِهِ القِيَم بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى حَرْبٍ تَسْتَهْدِفُ فَرْضَ مِثْلِ هَـذِهِ القِيَمِ بِاعْتِبَارِهَـا قِيَماً عَالَمِيَّةً، وَفِي ذَلِكَ  يَقُولُ عَبْدُ الإِلَهِ بَلقزيز إِنَّ :”العَوْلَمَةَ الثَّقَافِيَّةَ مَا هِيَ إِلاَّ التَّعْبِيرُ المَكْشُوفُ عَنِ السَّيْـطَرَةِ الثَّقَافِيَّةِ الغَرْبِيَّةِ التِي تُوَظِّفُ مُكْتَسَبَاتِ الثَّوْرَةِ المَعْـلُومَاتِيَّةِ لِهَذَا الغَرَضِ”، وَفِي نَفْـسِ السِّيَاقِ يَرَى سَمِير أَمِين أَنَّ العَوْلَمَةَ طَرَحَتْ نَفْسَهَا كَأَيديُولُوجيَا تُعَبِّرُ عَنِ النَّسَقِ القِيَمِيِّ لِلْغَرْبِ عَلَى حِسَابِ النَّسَقِ القِيَمِيِّ لِلْحَضَارَاتِ الأُخْرَى”، وَبِهَذَا يُمْكِنُ القَوْلُ أَنَّ خُلاَصَةَ القَاعِدَةِ التِي تَنْطَلِقُ مِنْهَا العَوْلَمَةُ فَرْضُ نَسَقِيَّةٍ غَرْبِيَّةٍ مُهَيْمِنَةٍ، وَتَجَاهُلُ ثَقَافَـاتِ وَقِيمِ الشُّعُـوبِ الأُخْـرَى.

* العَوْلَمَةُ الثَّقَافِيَّةُ وَالأَمْـرَكَةُ:

إِنَّ العَـولَمَةَ فِي أَحَدِ جَوَانِبِهَا عِبَارَةٌ عَـنْ أُطْـرُوحَةٍ فِكْرِيَّةٍ تَشَعَّـبَتْ عَنْهَا أُطْرُوحَاتٌ أُخْرَى، وَلِهَذَا فَقْدَ أُرِيدَ لَهَا أَنْ تُثِيرَ هَذِهِ الضَّجَّةَ التِي لَمْ تَهْدَأْ حَتَّى هَذِهِ اللَّحْظَةِ لِكَيْ يَتِمَّ تَمْرِيرُ تِلْكَ  الرَّغْبَةِ الغَرْبِيَّةِ فِي الهَيْمَنَةِ وَالسَّيْطَرَةِ عَلَى العَالَمِ بِنَجَاحٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ  أَنَّ النَّمُوذَجَ المُرَادُ تَعْمِيمُهُ مُحَـدَّدٌ سَلَفاً، وَهُوَ النَّمُوذَجُ الأَمْرِيكِيُّ، الذِي يَكْـشِفُ مُنَـظِّرُوهُ دُونَ مُوَارَبَةٍ عَنْ إِرَادَةِ الهَيْمَنَةِ عَلَى العَالَمِ، وَأَمْرَكَتِهِ بِعِـدَّةِ آلِيَّاتٍ هِيَ نِتَاجٌ لِلتَّطَوُّرِ الحَضَارِيِّ الذِي شَهِدَهُ المُجْتَمَعُ الدَّوْلِيُّ بِرُمَّتِهِ، مِثْلَ العَـمَلِ عَلَى نَشْرِ اقْتِصَادِ السُّوقِ، وَتَوْسِيعِ نِطَاقِ التَّبَادُلِ التِّجَارِيِّ، وَالتَّرْكِيزُ عَلَى الإِعْلاَمِ لِتَحْقِيقِ الأَهْدَافِ المَطْلُوبَةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الآلِيَّاتِ التِي تَصُبُّ فِي هَذَا الإِطَـارِ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ تُصْبِحُ العَولَمَةُ الثَّقَافِيَّةُ نَتِيجَةً حَتْـمِيَّةً لِهَذِهِ المُعْطَيَاتِ؛ فَتَبْرُزُ بِوَجْهِهَا الاسْتِهْلاَكِيِّ بِكَافَّةِ أَنْمَاطِهِ التِي تَبْدَأُ مِنْ تَجَـاوُزِ القَوَالِبِ الثَّقَافِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ القَدِيمَةِ، وَالقَفْزِ عَلَيْهَا لِعَالَمٍ تَدُورُ رَحَاهُ عَلَى قُطْــبٍ وَاحِدٍ، يُسْقِطُ فِي طَرِيقِهِ كَافَّةَ الحُدُودِ وَالحَوَاجِزِ وَالمَسَافَاتِ، مِـمَّا يُؤَدِّي إِلَى سُهُولَةِ تَدَفُّقِ المَعْلُومَاتِ وَالأَخْبَارِ وَالأَفْكَارِ وَالأَشْخَاصِ، فَتَجْتَاحُ العَـوْلَمَةُ كُلَّ بِقَاعِ الأَرْضِ بِتَجَلِّيَاتِهَا البَارِزَةِ الآنَ، مِثْلَ انْتِشَارِ سُلُوكٍ وَقِيَمٍ مُرْتَبِطَةٍ بِالفَنِّ وَالمَأْكَلِ وَالمَلْبَسِ وَالذَّوْقِ العَامِّ عَلَى نِطَاقٍ وَاسِعٍ، بَيْدَ أَنَّ هَذَا الجَانِبَ وَ إِنْ سَاعَدَ عَلَى التَّقَارُبِ بَيْنَ الشُّعُوبِ فَإِنَّهُ بِالطَّبْعِ يَسْتَـهْدِفُ شَيْئاً آخَرَ غَيْرَ مُعْلَنٍ وَهُوَ إِقْصَاءُ الثَّقَافَاتِ الرَّافِـضَةِ لِلتَّهْمِيشِ أَوْ حَتَّى تَـذْوِيبُهَا بِكَافَّةِ السُّبُلِ، وَعَلَى المَدَى البَعِيدِ، وَهُنَا سُؤَالٌ: لِمَاذَا يَقُومُ الاتِّحَادُ الأُورُوبِيُّ بِصَرْفِ مَلاَيينِ الدُّولاَرَاتِ مِنْ أَجْـلِ إِدْخَـالِ مُوسِيقَى (الهيب هُـوب) إِلَى الوَطَنِ العَرَبِيِّ لِيُعَلِّمَهَا لِلشَّبَابِ؟، وَهَلْ حَقّاً السَّبَبُ هُوَ مُحَارَبَةُ تَعَاطِي المُخَدِّرَاتِ؟؟، أَمْ مُحَاوَلَةُ نَشْـرِ نَمَـطٍ ثَقَافِيٍّ جَـدِيدٍ؟.

إِنَّ الدُّوَلَ الإِمْبِرْيَالِيَّةِ وَالطَّبَقَاتِ وَالنُّخَبِ المُهَيْمِنَةِ فِيهَا، وَبِهَدَفِ إِعَادَةِ إِنْتَاجِ هَيْمَنَتِهَا وَتَشْدِيدِ اسْتِغْلاَلِهَا، تَسْتَخْدِمُ كُلَّ وَسَائِلِ السَّيْطَرَةِ الفِكْرِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ، بِمَا فِي ذَلِكَ احْتِكَارَ المَعْرِفَةِ وَالمَعْلُومَاتِ، وَفِي الوَقْتِ ذَاتِهِ نَشْرَ ثَقَافَتِهَا وَقِيَمِهَا وَأَيديُولُوجِيَّتِهَا بِهَدَفِ إِعَادَةِ صِيَاغَةِ الثَّقَافَةِ العَالَمِيَّةِ وِفْقَ مَقَاييسِهَا وَمَعَايِيرِهَا، هَذِهِ العَمَلِيَّةِ مُرَكَّبَةٌ وَمُعَقَّدَةٌ لأَبْعَدِ الحُدُودِ، وَهِيَ تَجْرِي فِي كُلِّ المَيَادِينِ، وَبِمَا يَشْمَلُ القِيَمَ وَالتُّرَاثَ وَالوَعْيَ وَالأَدَبَ وَالمُوسِيقَى وَالسِّينِمَا وَالمَسْرَحِ وَالشِّعْرِ، وَأيْضاً حَتَّى المَلاَبِسَ وَالطَّعَـامِ.

فَتَبْرِيرُ الهَيْمَنَةِ الاقتِصَادِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَتَسْوِيغِهَا يَسْتَدْعِي غِطَاءً ثَقَافِيّاً، وَهَذِهِ العَمَلِيَّةُ الثقَافِيَّةُ تَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ اتِّجَاهٍ لِتَصُبَّ جَمِيعُهَا فِي النِّهَايَةِ عِنْدَ الهَدَفِ ذَاتِه، وَأَوَّلُ اتِّجَاهٍ رَئِيسٍ لِلضَّرْبَةِ الثقَافِيَّةِ الرَّأسِمَالِيَّةِ يَتَمَثَّلُ فِي إِعْلاَنِ انْتِصَارِ النِّظَامِ الرَّأسِمَالِيِّ بِصُورَةٍ حَاسِمَةٍ، وَرَفْعِ شِعَارِ “نِهَايَةِ التَّارِيخِ”. فَلَيْسَ أَمَامَ البَشَرِيَّةِ سِوَى طَرِيقٍ وَاحِدٍ لِلتَّقَدُّمِ وَالتَّطَوُرِ هُوَ ذَاتُهُ الطَّرِيقُ الرَّأسمَالِيّ، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ البَحْثَ عَنْ طَرِيقٍ آخَرَ هُوَ مَضْيَعَةٌ لِلْوَقْتِ وَتَبْدِيدٌ لِلطَّاقَاتِ وَالثَّرَوَاتِ. هَذِهِ الرُّؤْيَةُ التِي عَبَّرَ عَنْهَا المُنَظِّرُ فوكو ياما تَحْمِلُ بُعْداً عُنْصُرِيّاً وَوَعْياً مُزَيَّفاً، إِنَّهَا تَعْنِي أَنَّ أَرْقَى مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ البَشَرِيَّةُ هُوَ التَّجْرِبَةُ الرَّأسُمَالِيَّةِ الغَرْبِيَّةُ، وَبِخَاصَّةٍ النَّمُوذَجُ الأَمْرِيكِيُّ، وَلَيْسَ أَمَامَ بَقِيَّةِ شُعُوبِ العَالَمِ سِوَى السَّيْرُ عَلَى الطَّرِيقِ ذَاتِهِ، وَالقَبُولِ بِالدَّوْرِ القِيَادِيِّ لِلوِلاَيَاتِ المُتَّحِدَةِ وَتَبَنِّي نَمُوذَجِهَا، إِذْ أَنَّهَا القُوَّةُ الكَوْنِيَّةُ القَادِرَةُ عَلَى قِيَادَةِ العَالَمِ وَالتَّفْكِيرِ عَنْهُ، وَأَيُّ مُحَاوَلَةٍ مِنَ الشُّعُوبِ الأُخْرَى لِلْبَحْثِ عَنْ بَدِيلٍ لَيْسَ سِوَى تَبْدِيدٍ لِثَرَوَاتِ البَشَرِيَّةِ، وَمِنْ حَقِّ القُوَّةِ القَائِدَةِ رَدْعُهُ وَإِجْبَارُهُ بِالْتِزَامِ الطَّرِيقِ المُقَرَّرِ، هَكَذَا يَغْدُو أَيُّ حِزْبٍ سِيَاسِيٍّ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ شَعْبٍ يُعَارِضُ إِرَادَةَ الهَيْمَنَةِ الرَّأْسِمَالِيَّةِ الأَمْرِيكِيَّةِ عَدُوّاً لِلتَّقَدُّمِ وَالحُرِّيَّةِ، فَحُرِيَّةُ السُّوقِ الرَّأْسمَالِيَّةِ تَعْنِي تَحْرِيرَ الجَمِيعِ مِنْ أَيِّ التِزَامٍ تُجَاهَ الذَّاتِ، وَحَثُّهُمْ بِكُلِّ الوَسَائِلِ عَلَى السَّيْرِ وَرَاءَ تِلْكَ الإِمْبَرَاطُورِيَّةِ القَائِدَةِ.

وَ قَدْ ازْدَادَ النُّزُوعُ الأَمْرِيكِيُّ نَحْوَ السَّيْطَرَةِ العَالَمِيَّةِ بَعْدَ أَحْدَاثِ الحَادِي عَشَرَ مِنْ سبتمبر 2001، حَيْثُ وَجَدَتِ الإِدَارَةُ الأَمْرِيكِيَّةُ المُسَوِّغَاتِ الجَاهِزَةِ لِلسَّيْرِ قُدُماً نَحْوَ تَكْرِيسِ الهَيْمَنَةِ عَلَى العَالَمِ،  وَالسَّيْطَرَةِ عَلَى مَرَاكِزِ القُوَّةِ الاقتِصَادِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فِيهِ مِنْ خِلاَلِ عِدَّةِ طُرُقٍ وَوَسَائِلَ مِنْهَا:

1ــ التَّدَخُّلُ فِي الشُّؤُونِ الدَّاخِـلِيَّةِ لِدُوَلِ العَــالَمِ الثَّالِثِ بِحُـجَّةِ نَشْرِ الدِّيمُقرَاطِيَّةِ وَحُقُوقِ الإِنْسَانِ، وَتَمْكِينِ المَرْأَةِ مِــنْ مُمَارَسَةِ العَمَلِ السِّيَاسِيِّ بِحُرِّيَّةٍ، وَحِمَايَةِ الأَقَلِّيَــاتِ المُسْتَضْعَفَةِ.

2ــ اسْتِعْمَالُ القُوَّةِ العَسْـكَرِيَّةِ لِلْحُصُولِ عَلَى حَاجَتِهَا مِنَ الثَّرَوَاتِ وَالمَوَارِدِ الحَيَوِيَّةِ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ العَالَمِ، مِثْلُ دُخُولِهَا إِلَى العِرَاقِ عَامَ 2003، وَسَيْطَرَتِهَا عَلَى نَفْطِهِ وَثَرَوَاتِهِ (بِشَكْلٍ أَوْ بِآخَرَ)، وَإِشَـاعَةِ الفَوْضَى فِيهِ لِكَيْ يَسِيرَ السِّينَاريُو الأَمْرِيكِيُّ فِي العِرَاقِ كَمَا هُوَ مُخَطَّطٌ لَهُ.

3ــ ضِمْنَ هَذَا السِّيَاقِ طَرَحَتِ الإِدَارَةُ الأَمْرِيكِيَّةُ عِـدَّةَ مُبَادَرَاتٍ لِتَضَعَ الغِطَاءَ عَلَى أَهْدَافِهَا المُعْلَنَةِ وَغَيْرِ المُعْلَنَةِ، مِثْلَ مَشْرُوعِ “الشَّرْقِ الأَوْسَطِ الكَبِيرِ”، الذِي كَانَتِ الأَبْعَادُ الثَّقَافِيَّةُ فِيهِ وَاضِحَةً جَلِيَّةً، تَسْتَهْدِفُ ضَرْبَ القِيَمِ الثقَافِيَّةِ لِدُوَلِ المَنْطِقَةِ العَرَبِيَّةِ، بِحُجَّةِ أَنَّهَا مَنْطِقَةٌ تُصَدِّرُ الإِرْهَابَ، لِهَذَا لاَبُدَّ مِنْ تَغْيِيرِ المَنَاهِجِ التَّعْلِيمِيَّةِ، وَمُعَالَجَةِ الخِطَابِ الدِّينِيِّ المُتَشَدِّدِ بِشَتَّى الوَسَائِلِ، وَنَشْرِ الدِّيمُقرَاطِيَّةِ وِفْقَ المَنْظُورِ الأَمْرِيكِيِّ، وَهِيَ التِي تَفْتَحُ المَجَالَ لِلانتِخَابَاتِ النِّيَابِيَّةِ، وَمُحَارَبَةِ الفَسَادِ، وَحُرِّيَّةُ التَّعْبِيرِ، وَالحُرِّيَّاتِ العَامَّـةِ وَالشَّخْصِيَّةِ، وَفَتْحِ المَجَالِ لِمُؤَسَّسَاتِ المُجْتَمَعِ المَدَنِيِّ لِتَعْمَلَ بِفَاعِلِيَّةٍ وَدُونَ قُيُودٍ، وَمُصَاحَبَةَ ذَلِكَ لِلتَّحَوُّلِ الاقْتِصَادِيِّ نَحْوَ القِطَاعِ الخَاصِّ، وَالانْدِمَاجِ فِي السُّوقِ العَالَمِيَّةِ، بِنَاءً عَلَى فَرَضِيَّةٍ رَئِيـسِيَّةٍ هِيَ أَنَّ: التَّحَوُّلاَتِ الاقْتِصَادِيَّةِ المَطْلُوبَةِ سَتَفْتَحُ المَجَالَ لِتَحَوُّلٍ اجْتِمَاعِيٍّ وَاسِعٍ مِنْ خِلاَلِ تَبَدُّلِ وَتَغَيُّرِ ثَقَــافَةِ النَّاسِ وَاهْتِمَامَاتِهِمْ، وَاتِّسَاعِ نِطَاقِ الفِئَاتِ المُجْتَمَعِيَّةِ التِي تَتَأَثَّرُ بِالثقَافَةِ الغَرْبِيَّةِ وَمَقُولاَتِهَا الفَلْسَفِيَّةِ، وَنُمُوِّ نِسْبَةٍ مِنَ المُثَقَّفِينَ وَالكُتَّابِ وَالسِّيَاسِيينَ وَالشَّبَابِ الذِينَ يَرْتَبِطُونَ بِالمُؤَسَّسَاتِ الغَرْبِيَّةِ سَوَاءً عَلَى الصَّعِيدِ الفِكْرِيِّ أَوِ السِّيَاسِيِّ، وَالذِينَ سَيَصُوغُونَ الخِطَابَ السِّيَاسِيَّ وَالإِعْلاَمِيَّ، وَيُؤَثِّرُونَ عَلَى النِّسْبَةِ الكَبِيرَةِ مِــنَ الشَّبَابِ العَرَبِيِّ، وَهُنَا يَنْتَقِلُ مَيْدَانُ مُوَاجَهَةِ الحَرَكَاتِ الإِسْلاَمِيَّةِ إِلَى دَاخِلِ المُجْتَمَعَاتِ العَرَبِيَّةِ، مِنْ خِلاَلِ العَـمَلِ عَلَى تَجْفِيفِ مَنَابِعِهَا الفِكْرِيَّةِ وَالتَّعْلِيمِيَّةِ، وَبِالتَّالِي يُلاَحَظُ أَنَّ الهَدَفَ الحَقِيقِيَّ مِنْ وَرَاءِ دَعَـوَاتِ الدِّيمُقرَاطِيَّةِ وَالإِصْلاَحِ السِّيَاسِيِّ وَالاقْتِصَادِيِّ يَتَمَثَّلُ فِي حِفْظِ المَصَالِحِ الحَيَوِيَّةِ الغَـرْبِيَّةِ بِتَغْيِيرِ البُنْيَةِ الثقَافِيَّةِ لِلمُجْتَمَعَاتِ العَرَبِيَّةِ وَالمُسْلِمَةِ، وَهَذَا الاهْتِمَامُ مِنَ الأَنْظِمَةِ السِّيَاسِيَّةِ إِلَى المُجْتَمَعَاتِ انْعَكَسَ عَلَى اهْتِمَامِ الدِّبْلُومَاسِيَّةِ الأَمْرِيكِيَّةِ، وَالدَّعَوَاتِ المُخْتَلِفَةِ التِي صَدَرَتْ عَنْ خُبَرَاءَ أَمْرِيكِيينَ بِضَرُورَةِ إِجْرَاءِ إِعَادَةِ تَكْييفٍ هَيْكَلِيٍّ وَمَوْضُوعِيٍّ لِوَزَارَةِ الخَارِجِيَّةِ لِتَتَمَكَّنَ مِنَ القِيَـامِ بِمَهَـامِّهَا وَمَسْؤُولِيَّاتِهَا فِي ظِـلِّ التَّحَـوُّلِ فِي السِّيَاسَةِ الخَـارِجِيَّةِ الأَمْرِيكِيَّةِ بَعْدَ أَحْـدَاثِ الحَـادِي عَشَرَ مِنْ سبتمبر2001.

4ــ تَرْكِيزُ الإِدَارَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ عَلَى الإِعْـلاَمِ وَوَسَـائِلِ الاتِّصَالِ المُتَطَوِّرَةِ كَأَدَاةٍ فَاعِلَةٍ لِفَرْضِ قِيَمِهَا الثقَافِيَّةِ عَلَى العَـالَمِ، فَشَبَكَةُ المَعْلُومَاتِ الدَّوْلِيَّةِ وَالفَضَائِيَّاتِ وَالإِذَاعَاتِ المُوَجَّهَةِ كُلُّهَا وَسَائِلٌ لاَ  غِنَى عَنْهَا فِي هَذَا العَصْرِ لِنَشْرِ الأَفْكَارِ وَالتَّرْوِيجِ لأَيِّ ثَقَافَةٍ أَوْ أيديُولُوجِيَّةٍ، فَمَا بَالُكَ بِثَقَافَةِ القُطْبِ الأَمْرِيكِيِّ الأَوْحَدِ الذِي يَسْعَى مُنَظِّرُوهُ إِلَى جَعْلِهَا النَّمَطَ العَالَمِيَّ السَّائِدَ فِي كُلِّ بُقْعَةٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، وَرُبَّمَا مِنَ الأَمْـثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ  إِطْلاَقُ إِذَاعَةِ (سوا)، وَقَنَاةِ الحُرَّةِ الفَضَائِيَّةِ الأَمْرِيكِيَّةِ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ لِتَحْسِينِ صُورَةِ الوِلاَيَاتِ المُتَّحِدَةِ فِي المِنْطَقَةِ العَرَبِيَّةِ، وَالتَّرْوِيجِ لِثَقَافَتِهَا وَفُنُونِهَا وَنُظُمِهَا المَعْرِفِيَّةِ وَالفِكْرِيَّةِ، لِتَحْذُوَ تِلْكَ المُجْتَمَعَاتُ التِي تُعَانِي مِنَ التَّخَلُّفِ وَالفَقْرِ وَالبَطَالَةِ حَذْوَ المُجْتَمَعِ الأَمْرِيكِيِّ التَّعَـدُّدِيِّ الدِّيمُقْرَاطِيِّ.

وَيَرَى بَعْضُ البَاحِثِينَ أَنَّ التَّحَدِّي المَطْرُوحِ عَلَى الوِلاَيَاتِ المُتَّحِدَةِ هُـوَ عَـوْلَمَةُ الثَّقَافَةِ الغَرْبِيَّةِ، مُتَمَثِّلَةً فِي النَّمُوذَجِ الأَمْرِيكِيِّ، وَجَعْلِهَا بَدِيلاً عَنْ كُلِّ الثَّقَافَاتِ الأُخْرَى، أَيْ جَعْلَ تِلْكَ الثَّقَافَاتِ مُجَرَّدُ ثَقَافَاتٍ شَعْبِيَّةٍ، لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِلتَّوَاصُلِ بَيْنَ أَبْنَائِهَا فِي شُؤُونِهِم اليَوْمِيَّةِ الصَّغِيرَةِ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتِ الثَّقَافَةُ التِي تُعَبِّرُ عَنِ السُّلْطَةِ المَعْرِفِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالاقْتِصَادِيَّةِ، فَالثَّقَافَةُ تُعْتَبَرُ عَامِلاً حَاسِـماً فِي عَصْرِ العَـوْلَمَةِ، وَهِيَ المَسْئُولَةُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ النِّزَاعَـاتِ التِي  بَدَأَتْ تَظْهَرُ فِي هَذَا العَصْـرِ، كَـمَا يَتَنَبَّـأُ الكَثِيـرُونَ أَنَّ الصِّـرَاعَـاتِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ سَتُشْعِلُهَا عَـوَامِـلٌ ثَقَـافِيَّـةٌ أَكْثَـرُ مِنْـهَا اقْتِصَـادِيَّةٌ أَوْ أَيديُـولُوجِيَّةُ.

ثُمَّ إِنَّ أَخْطَرَ مَا فِي العَولَمَةِ بِالمَفْهُومِ الأَمْرِيكِيِّ أَنَّهَا انْتِهَازِيَّةٌ، تُرِيدُ انْتِهَازَ الوَضْعِ الدَّوْلِيِّ الحَالِيِّ لاقْتِيَادِ العَالَمِ صَوْبَ مَصَالِحِهَا، وَتُرِيدُ فَرْضَ قِيَمِهَا، فَالعَولَمَةُ الأَمْرِيكِيَّةُ فِي مُحَاوَلَتِهَا لِتَنْمِيطِ العَالَمِ  وَفَرْضِ الأَمْرَكَةِ، أَي القِيَمِ الأَمْرِيكِيَّةِ القَائِمَةِ عَلَى مَبْدَأ حُرِّيَّةِ الفَرْدِ المُطْلَقَةِ (وَالتِي بَاتَتْ تُهَدِّدُ المُجْتَمَعَ الأَمْرِيكِيَّ نَفْـسَهُ مِنَ الدَّاخِلِ) تَعْمَلُ عَلَى تَجَاهُلِ بَقِيَّةِ الثَّقَافَاتِ، رُغْمَ أَنَّهَا تَدَّعِي تَبَنِّي الدَّعْوَةِ لِنِظَامٍ ثَقَافِيٍّ مُعَوْلَمٍ تُسَاهِمُ فِي تَأْسِيسِ بُنْيَاتِهِ وَآلِيَّاتِهِ كُلُّ الثَّقَافَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ. إِذاً ضِمْنَ مَفْهُومِ العَوْلَمَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ يَتِمُّ تَحْدِيدُ المَرْجِعِيَّةِ الفِكْرِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ لِلْبَشَرِيَّةِ التِي لَيْسَ أَمَامَهَا سِوَى الاسْتِجَابَةِ وَالتَّكَيُّفِ مَهْمَا كَـانَ الثَّمَـنُ.

الإِقْـرَارُ بِهَذِهِ المَرْجِعِيَّةِ يَسْتَدْعِي عَمَلِيَّةً مُرَافِقَةً تَتَمَثَّلُ بِإِعَادَةِ صِيَاغَةِ ثَقَافَةِ الأُمَمِ وَالشُّعُوبِ وَالجَمَاعَاتِ، وَهَذِهِ تَتِمُّ عَبْرَ دِينَامِيَّتَيْنِ:

الأُولَى: إِلْغَاءُ الخُصُوصِيَّاتِ وَإِدْغَامُهَا فِي النَّمُوذَجِ العَامِّ المُهَيْمِنِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ احْتِقَارَ عَادَاتِ الأُمَمِ وَالشُّعُوبِ وَتَقَالِيدِهَا وَتُرَاثِهَا وَثَقَافَتِهَا القَوْمِيَّةِ وَالإِثْنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، أَوْ احْتِوَاءَهَا وَتَفْرِيغِهَا مِنْ مُحْتَوَاهَا الايجَابِيِّ.

الثَّانِيَةِ: إِطْلاَقُ دِينَامِيَّةِ التَّفْتِيتِ وَالشَّرْذَمَةِ وَالتَّنَاقُضَاتِ ذَاتِ المَضْمُونِ الطَّائِفِيِّ وَالدِّينِيِّ وَالإِثْنِيِّ؛ لِدَفْعِ المُجْتَمَعَاتِ إِلَى فُقْدَانِ اليَقِينِ، وَالشَّكِّ فِي الذَّاتِ، وُصُولاً لِلْيَأْسِ وَالإِحْبَاطِ. وَضِمْنَ هَذَا السِّيَاقِ تَأْتِي عَمَلِيَّةُ تَمْزِيقِ الدُّوَلِ وَإِشْعَالِ الحُرُوبِ الطَّائِفِيَّةِ وَالإِثْنِيَّةِ فِي العِرَاقِ وَأفغَانَسْتَان. وَفِي الوَقْتِ الذِي تَجْرِي فِيهِ عَمَلِيَّةُ إِلْغَاءِ الخُصُوصِيَّاتِ وَالقَفْزِ عَنْهَا وَاحْتِقَارِهَا، تَجْرِي عَمَلِيَّةٌ مُرَافِقَةٌ تَتَمَثَّلُ فِي تَعْمِيمِ النَّمُوذَجِ الثَّقَافِيِّ الأَمْرِيكِيِّ، هُنَا نُصْبِحُ أَمَامَ عَمَلِيَّةٍ هَـائِلَةٍ وَنَمَاذِجَ مُذْهِلَةٍ تَبْدَأُ مِنْ أَصْغَرِ الأَشْيَاءِ لِتَطَالَ عُمُومَ الوَاقِعِ، وَهَذِهِ عَمَلِيَّةٌ تَأْخُذُ أَبْعَاداً وَتَجَلِّيَاتٍ مُذْهِلَةٍ، إِنَّهَا غَزْوٌ ثَقَافِيٌّ شَامِلٌ وَمُتَوَاصِلٌ يَأْتِينَا عَبْرَ مُخْتَلَفِ وَسَائِلِ الاتِّصَالِ وَالتِّكْنُولُوجيَا.

* العَوْلَمَةُ وَالاخْتِرَاقُ الثقَافِيُّ:

رُبَّمَا يَكُونُ مِنْ أَبْرَزِ سِمَاتِ عَصْرِ العَولَمَةِ مَا يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهُ بِعَمَلِيَّةِ “الاخْتِرَاقِ الثقَافِيِّ”، التِي بَدَتِ اليَوْمَ تَتَّخِذُ أَشْكَالاً وَسِمَاتٍ تَخْتَلِفُ عَنْهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ مَضَى، فَهِيَ بِشَكْلٍ عَامٍّ تَعْتَمِدُ عَلَى تَمْرِيرِ رَسَائِلَ مَكْتُوبَةً وَمَسْمُوعَةً وَمَرْئِيَّةً لاخْتِرَاقِ الإِدْرَاكِ وَالوَعْيِّ، وَلِتَثْبِيتِ هَيْمَنَةٍ فِكْرِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، يُمْكِنُ أَنْ نُؤَكِّدَ دُونَ تَحَرُّجٍ أَنَّهَا هَـْيَمَنَةُ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الحَضَارَاتِ وَالثَّقَافَاتِ، مِنْ خِلاَلِ اسْتِخْدَامِ مَا يُوَفِّرُهُ العَصْرُ مِنْ وَسَائِلَ تُسَاعِدُ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الهَيْمَنَةِ، التِي مَا تَزَالُ غَايَةً مَنْشُودَةً وَإِنْ سَارَتْ خُطُوَاتٍ كَثِيرَةً فِي هَذَا الجَانِبِ. إِنَّ ثَقَافَةَ الاخْتِرَاقِ “تَتَوَلَّى القِيَامَ بِعَمَلِيَّةِ تَسْطِيحِ الوَعْيِّ، وَاخْتِرَاقِ الهَوِيَّةِ لِلأَفْرَادِ وَالأَقْوَامِ وَالأُمَمِ، إِنَّهَا ثَقَافَةٌ جَدِيدَةٌ إِعْلاَمِيَّةٌ سَمْعِيَّةٌ بَصَرِيَّةٌ تَصْنَعُ الذَّوْقَ الاسْتِهْلاَكِيَّ وَالرَّأْيَ السِّيَاسِيَّ، وَتُشِيدُ رُؤْيَةً خَاصَّةً لِلإِنْسَانِ وَالمُجْتَمَعِ وَالتَّارِيخِ، إِنَّهَا ثَقَافَةٌ تُقَدِّمُهَا العَوْلَمَةُ بَدِيلاً عَنِ الصِّرَاعِ الأَيديُولُوجِيِّ”، وَهِيَ فِي حَقِيقَتِهَا آلِيَّةٌ مِنْ آلِيَّاتِ تَكْرِيسِ هَيْمَنَةِ الثَّقَافَةِ الغَرْبِيَّةِ عَلَى العَالَمِ، وَتَهْمِيشِ بَقِيَّةِ الثَّقَافَاتِ الأُخْرَى، وَالتَّأْثِيرِ عَلَيْهَا وَإِقْصَائِهَا قَدْرِ الإِمْكَانِ، عَنْ طَرِيقِ اسْتِخْدَامِ الإِمْكَانِيَّاتِ المُتَاحَةِ فِي هَذَا العَصْرِ، فَتَدَفُّقُ الأَفْكَارِ وَالمَعْلُومَاتِ وَالمُخْتَرَعَاتِ العِلْمِيَّةِ عَبْرَ قَنَوَاتٍ لاَ تَخْضَعُ لِلسَّيْطَرَةِ يَخْلُقُ فَضَاءً ثَقَافِيّاً كَوْنِيّاً، يَبْدُو مِنَ النَّاحِيَةِ النَّظَرِيَّةِ مَفْتُوحاً أَمَامَ كُلِّ الثَّقَافَاتِ، لِتُسَاهِمَ فِي تَشْكِيلِهِ مِنْ خِلاَلِ التَّفَاعُلِ وَالحِوَارِ وَالتَّأْثِيرِ وَالتَّأَثُّرِ، بَيْدَ أَنَّهُ مِنَ النَّاحِيَةِ العَمَلِيَّةِ فَضَاءٌ غَرْبِيُّ الطِّرَازِ، أَوْ هَكَذَا يُرَادُ لَهُ أَنْ يَكُونَ، مِنْ خِلاَلِ السَّيْطَرَةِ عَلَى مَرَاكِزِ الثِّقَلِ السِّيَاسِيِّ وَالاقْتِصَادِيِّ فِي العَـالَـمِ.

وَفِي هَذَا الصَّدَدِ يُقَدِّمُ الفَيْلَسُوفُ الشَّهِيرُ جاك دريدا وِجْهَةَ نَظَرِهِ حَوْلَ العَوْلَمَةِ بِقَوْلِهِ: “إِنَّ المُنْتَفِعَ بِعَمَلِيَّةِ العَوْلَمَةِ عَدَدٌ مُحَدَّدٌ مِنَ البُلْدَانِ، وَعَدَدٌ مُحَدَّدٌ مِنَ الطَّبَقَاتِ فِي هَذِهِ البُلْدَانِ، البُلْدَانُ الغَنِيَّةُ الشَّمَالِيَّةُ التِي تَسْتَحْوِذُ عَلَى رَأْسِ المَالِ، وَتُسَيْطِرُ عَلَى أَدَوَاتِ القَرَارِ الاقْتِصَادِيِّ (أَيْ مَجْمُوعَةُ الثَّمَانِيَّةِ وَالبَنْكُ الدَّوْلِيُّ وَصُنْدُوقُ النَّقْدِ الدَّوْلِيِّ، إلخ)”، وَيُؤَكِّدُ دريدا أَنَّ القَائِمِينَ بِأَحْدَاثِ 11/سبتمبر/2001 يَدَّعُونَ قِيَامَهُمْ بِهَا عَلَى الأَقَلِّ بِاسْمِ المَطْرُودِينَ مِنَ العَوْلَمَةِ الذِينَ يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ، وَبِأَنَّهُمْ خَاسِرُونَ، وَمُهَمَّشُونَ وَمُهْمَلُونَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، لاَ يَمْتَلِكُونَ إِلاَّ وَسَائِلَ الفُقَرَاءِ فِي عَصْرَ العَوْلَمَةِ مِنْ أَجْلِ الفُرْجَةِ عَلَى هَذَا العَرْضِ السَّفِيهِ لاغْتِنَاءِ الآخَرِينَ، وَلِذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حِوَارٌ شَفَهِيٌّ وَمُسَالِمٌ مَعَ كُلِّ ضَحَايَا العَوْلَمَةِ المَزْعُومَةِ، فَيَصِيرُ اللُّجُوءُ إِلَى أَسْوَءِ أَنْوَاعِ العُنْفِ هُوَ مَا يُقَدَّمُ غَالِباً عَلَى أَنَّهُ الرَّدُّ الوَحِيدُ المُمْكِنُ عَلَى تِلْكَ الأُذُنِ الصَّمَّاءِ، وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ يَرَى دريدا أَنَّهُ: “لاَ تُوجَدُ عَوْلَمَةُ؛ وَذَلِكَ لأَنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرَ وَهْمٍ أَوْ حِيلَةٍ أَوْ سِلاَحٍ بَلاَغِيٍّ يُخْفِي الاخْتِلاَلَ المُتَزَايِدَ وَالتَّعْتِيمَ الجَدِيدَ، وَهِيَ لاَ تَدُلُّ إِلاَّ عَلَى عَدَمِ الاتِّصَالِ الثَّرْثَارِ وَالمَنْقُولِ إِعْلاَمِيّاً بِشَكْلٍ يَفُوقُ الحَدَّ، وَلاَ تَعْدُو أَنْ تَكُونَ التَّرَاكُمَ الضَّخْمَ لِلثَّرْوَةِ وَوَسَائِلِ الإِنْتَاجِ وَالتِّكْنُولُوجيَا، وَلاَ تَعْـدُو أَنْ تَكُونَ هَذَا التَّسَلُّحُ الفَائِـقُ التَّحْدِيثِ، وَهِيَ تَتَمَثَّـلُ فِي اسْتِحْـوَاذِ عَـدَدٍ قَلِيـلٍ مِنَ الدُّوَلِ وَالهَيْئَاتِ العَـالَمِيَّةِ عَلَى كُـلِّ هَـذِهِ القِـوَى”.

إِنَّ جاك دريدا وَهُوَ يَطْرَحُ رُؤْيَتَهُ لِعَـوْلَمَةِ القَرْنِ الحَادِي وَالعِشْرِينَ؛ يُقَدِّمُ تَوْصِيفاً نَقْدِيّاً دَقِيقاً لِمَلاَمِحِ الهَيْمَنَةِ وَالاخْتِرَاقِ التِي يُمَارِسُهَا الغَرْبُ عَلَى بَقِيَّةِ الأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، مِنْ خِلاَلِ السَّيْطَرَةِ الوَاضِحَةِ عَلَى أَدَوَاتِ القَرَارِ الاقْتِصَادِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ، وَتَسْخِيرِهَـا لِتَحْقِيقِ مَصَالِحِهِ، وَإِخْضَاعِ بَقِيَّةِ الشُّعُوبِ لإِرَادَةِ الهَيْمَنَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ، وَمَنْ يَمْتَنِعُ سَتَسْحَقُهُ جَنَازِيرُ العَوْلَمَةِ المُتَوَحِّشَةِ، وَبِالتَّالِي يَخْلُصُ دريدا إِلَى أَنَّهُ لاَ تُوجَدُ عَوْلَمَةٌ؛ وَذَلِكَ لأَنَّهَا لَيْسَتْ سِـوَى وَهْــمٍ أَوْ حِيلَةٍ أَوْ سِلاَحٍ بَلاَغِيٍّ، يُخْفِي وَرَاءَهُ ذَلِكَ الاخْتِلاَلَ المُتَزَايدَ، وَالتَّعْتِيمَ الجَدِيدَ فِي كُلِّ شيء، وَيُظْهِرُ زَيْفَ الحِوَارِ المُسَالِمِ الذِي يَدَّعِيهِ أَنْصَارُ العَوْلَمَةِ، فَهُـوَ حِوَارُ طُرْشَانٍ، لاَ يَنْظُرُ إِلَى بَقِيَّةِ الثَّقَافَاتِ عَلَى أَنَّهَا ثَقَافَاتٌ لَهَا مُكَوِّنَاتُهَا وَتَارِيخُهَا، وَنُظُمُهَا المُمَيَّزَةُ وَالرَّاسِخَةُ، بَلْ يَضْغَطُ عَلَيْهَا لِتَسِيرَ فِي طَرِيقٍ رَسَمَهُ الغَرْبُ لَهَا، لِتَنْكُصَ عَلَى عَقِبَيْهَا، وَتُمَزِّقَ نَسِيجَهَا الاجْتِمَاعِيَّ وَالثَّقَافِيَّ، وَتَدْخُلَ  إِلَى حَيْثُ أُرِيدَ لَهَا، “فَطَبِيعَةُ العِلاَقَةِ بَيْنَ الثَّقَافَةِ الغَرْبِيَّةِ المُهَيْمِنَةِ مَعَ ثَقَافَاتِ الأَطْرَافِ المُهَمَّشَةِ، قَدْ تَجْعَلُ مِنْ هَذَا الحِوَارِ غِطَاءً لِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ التَّبَعِيَّةِ، فَالعِبْرَةُ فِي أَيَّةِ عِلاَقَةٍ لَيْسَتْ بِالصِّيَاغَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَالتَّعْبِيرَاتِ التِي تَصِفُهَا، بَلْ بِطَبِيعَةِ النَّتَائِجِ المُتَرَتِّبَةِ عَلَى هَذِهِ العِلاَقَةِ، حَسَبَ مَصَالِحِ كُلِّ طَرَفٍ فِيهَا”.

إِنَّ الاخْتِرَاقَ الثَّقَافِيَّ كَمَا يَرَى بَعْضُ البَاحِثِينَ مُحَمَّلٌ بِأَيديُولُوجيَا مُعَيَّنَةٍ، هِيَ أَيديُولُوجيَا الاخْتِرَاقِ، التِي تُقَدِّمُ نَفْسَهَا كَخَصْمٍ لِبَدِيـلٍ آخَـرَ تُسَمِّيهِ وَتُقَـاوِمُهُ، وَتَعْمَلُ عَلَى اخْتِرَاقِ الرَّغْبَةِ فِي البَدِيلِ، وَشَـلِّ نُشْدَانِ التَّغْيِيرِ لَدَى الأَفْـرَادِ وَالجَمَاعَاتِ.

إِنَّ أَيْديُولُوجيَا الاخْتِرَاقِ تَقُومُ عَلَى نَشْرِ وَتَكْرِيسِ جُمْلَةٍ مِنَ الأَوْهَامِ، هِيَ نَفْسُهَا (مُكَوِّنَاتُ الثَّقَافَةِ الإِعْلاَمِيَّةِ الجَمَاهِيرِيَّةِ فِي الوِلاَيَاتِ المُتَّحِدَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ)، وَقَدْ حَصَرَهَـا بَاحِثٌ أَمْرِيكِيٌّ فِي الأَوْهَامِ الخَمْسَةِ التَّالِيَةِ: وَهْمُ الفَرْدِيَّةِ، وَهْمُ الخِيَارِ الشَّخْصِيِّ، وَهْمُ الحِيَادِ، وَهْمُ الطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ التِي لاَ تَتَغَيَّر، وَهْمُ غِيَابِ الصِّرَاعِ الاجْتِمَاعِيِّ، وإَذَا أَرَدْنَا أَنْ نُوجِزَ فِي عِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ مَضْمُونَ هَذِهِ المُسَلَّمَاتِ الخَمْسِ أَمْكَنُ القَوْلُ إِنَّ الثَّقَافَةَ الإِعْلاَمِيَّةَ الجَمَاهِـيرِيَّةَ الأَمْرِيكِيَّةَ هَذِهِ، تُكَرِّسُ أيديُولُوجيَا الفَرْدِيَّةِ المُسْتَسْلِمَةِ، وَهِيَ أَيديُولُوجيَا تَضْرِبُ فِي الصَّمِيمِ الهَوِيَّةَ الثَّقَافِيَّةَ بِمُسْتَوَيَاتِهَا الثَّلاَثَةِ: الفَرْدِيَّةِ وَالجَمْعَوِيَّةِ وَالوَطَنِيَّةِ القَوْمِيَّةِ”. فَوَهْمُ الفَرْدِيَّةِ يَقُومُ عَلَى اعْتِقَادِ المَرْءِ أَنَّ وُجُودَهُ مَحْصُورٌ فِي فَرْدِيَّتِهِ، وَهَذَا الوَهْمُ يَعْمَلُ عَلَى تَمْزِيقِ الرَّابِطَةِ الجَمَاعِيَّةِ، وَوَهْمُ الخِيَارِ الشَّخْصِيِّ يُكَرِّسُ النَّزْعَةَ الأَنَانِيَّةَ، بَيْنَمَا وَهْمُ الحِيَادِ يُشِيرُ إِلَى التَّحَلُّلِ مِنْ كُلِّ الْتِزَامٍ أَوْ ارْتِبَاطٍ بِأَيَّةِ قَضِيَّةٍ. وَيَرْمِي الوَهْمُ الرَّابِعُ إِلَى صَرْفِ النَّظَرِ عَنْ رُؤْيَةِ الفَوَارِقِ بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ وَالفُقَرَاءِ، وَالبِيضِ وَالسُّودِ، بِمَعْنَى شَلِّ رُوحِ المُقَاوَمَةِ، أَمَّا وَهْمُ غِيَابِ الصِّرَاعِ الاجْتِمَاعِيِّ فَيَعْنِي الاسْتِسْلاَمَ لِلْجِهَاتِ المُسْتَغِلَّةِ.

إِنَّ مَفْهُومَ عَوْلَمَةِ الثقَافَةِ وَالتِي سَوْفَ تَكُونُ نَتِيجَةً طَبِيعِيَّةً وَمَنْطِقِيَّةً لِعَوْلَمَةِ البُعْدِ السِّيَاسِيِّ وَالاقْتِصَادِيِّ سَوْفَ تَكُونُ التَّحَدِّيَ الحَقِيقِيَّ وَالقَوِيَّ لِمَفْهُومِ الوُجُودِ البَشَرِيِّ بِنَظَرَاتِهِ الإِنْسَانِيَّةِ حِيناً وَالعُنْصُرِيَّةِ حِيناً آخَرَ، وَأَنَّ العَالَمَ سَوْفَ يَجِدُ نفسه أمام هَذَا الصِّرَاعَ حَوْلَ مَفْهُومِ العَوْلَمَةِ الثَّقَافِيَّةِ، وَهُنَا سَيَكُونُ أَمَامَ سُؤَالٍ مُهِمٍّ وَهُوَ: هَلْ سَوْفَ يَتِمُّ طُغْيَانُ ثَقَافَةٍ قَوِيَّةٍ عَلَى جَمِيعِ الثقَافَاتِ؟، أَمْ أَنَّ تَنَوُّعَ الثقَافَاتِ وَالتَّقَالِيدِ هُوَ العَوْلَمَةُ الحَقِيقِيَّةُ، وَالتَّعَايُشُ السِّلْمِيُّ مَعَهَا هُوَ الذِي سَيَكُونُ عُنْوَانَ “العَوْلَمَةِ الثقَافِيَّةِ” القَادِمَةِ؟. إِلَى حِينِ ذَلِكَ سَيَبْقَى دَفْعُ البُعْدِ السِّيَاسِيِّ وَالاقْتِصَادِيِّ مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ مَفْهُومِ التَّنَوُّعِ الثَّقَافِيِّ العَالَمِيِّ أَوِ الهَيْمَنَةِ الثقَافِيَّةِ العَالَمِيَّةِ مِنْ قِبَلِ أَيِّ قُطْبٍ مِنَ الأَقْطَابِ التِي تَتُوقُ إِلَى الهَيْمَنَةِ العَالَمِيَّةِ عَلَى الوَحْدَاتِ الدَّوْلِيَّةِ الأُخْرَى، وَسَيَظَلُّ التَّنَوُّعُ الثقَافِيُّ مَلْمَحاً بَارِزاً لِلْمُجْتَمَعَاتِ البَشَرِيَّةِ مَهْمَا حَاوَلَتْ تِلْكَ الأَقْطَابُ طَمْسَ هَوِيَّاتِ بَقِيَّةِ الثَّقَافَاتِ، وَإِقْصَائِهَا عَنْ دَائِرَةِ النَّشَاطِ الحَيَوِيِّ وَالفَاعِلِ فِي عَصْرِ العَوْلَمَةِ المُتَوَحِّشَةِ.

لَقَدْ عَمِلَتِ العَولَمَةُ الثقَافِيَّةُ وَمُنْذُ سَنَوَاتٍ عَلَى وَضْعِ بَقِيَّةِ الثقَافَاتِ فِي حَالَةٍ مِنَ التَّشَرْذُمِ الثقَافِيِّ،  وَالتَّفْتِيتِ المُتَعَمَّدِ لِقَوَاعِدِ المُعْطَى الثقَافِيِّ الرَّاسِخِ، لِكَيْ يُعَادَ صِيَاغَتُهُ مِنْ جَدِيدٍ وِفْقَ الرُّؤْيَةِ الخَاصَّةِ بِأَنْصَارِ العَوْلَمَةِ وَدُعَاتِهَا فِي شَكْلِهَا الغَرْبِيِّ المَطْرُوحِ حَالِيّاً، لَكِنَّ الرَّفْضَ الذِي قُوبِلَتْ بِهِ العَوْلَمَةُ حَالَ دُونَ تَحْقِيقِ كَافَّةِ أَهْدَافِ وَجَوَانِبِ هَذَا المَشْرُوعِ الثقَافِيِّ طَوِيلِ الأَمَدِ، وَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لاَ يَعْنِي انْتِهَاءَهُ أَوْ تَوَقُّفَهُ، بَلْ عَلَى العَكْسِ، إِنَّهُ يَسِيرُ بِخُطىً وَئِيدَةٍ تَتَعَامَلُ مَعَ الوَاقِعِ بِحَذَرٍ، وَتَتَجَاوَبُ مَعَ ظُرُوفِهِ وَتَغَيُّرَاتِهِ، فَتُسْرِعُ مَرَّةً، وَتُبْطِئُ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ، لَكِنَّهَا عَلَى مَا يَبْدُو لَنْ تَتَوَقَّفَ حَتَّى تَكْتِمَلَ بَقِيَّةُ اللوْحَةِ العَوْلَمِيَّةِ  الضَّائِعَةِ  التِي رَسَمَهَا الغَرْبُ قَبْلَ عِـدَّةِ قُـرُونٍ.

___________________________________

* أَهَمُّ المَرَاجِـعُ وَ المَصَـادِرُ :

أولاً: الكُتُبُ:

1ــ بركات مُحمَّد مُراد، العولمة تجلياتها وأحداثُ سبتمبر، طرابلس: منشُورات مجلة المؤتمر الليبية،(كتيب العدد 13)، 2003.

2ــ جاك دريدا، ما الذي حــدث في حــدث 11 سبتمبر؟، حديث دار مع جيوفانا بورادوري، ترجمة: صفاء فتحي، القاهرة: المجلسُ الأعـلى للثقـافة، 2003.

3ـ السَّيد يَاسِين، العـالميَّةُ والعَـولَمَة، القاهرة: دارُ نهـضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2002.

4ـ صالح السنوسي، العولمـة أفقٌ مفـتوحٌ و إرثٌ يُثيرُ المخاوف، القـــاهــرة: دار ميريت للنشـر والمعلومـات، 2003.

5ــ مُحمَّد السيد سليم، تطورُ السـياسة الدولية في القرنين التاسع عشر والعشرين، القاهرة: دار الأمين للطباعة، 2002.

6- نايف علي عبيد، العـولمة: مشـاهدٌ وتسـاؤُلاتٌ، سلسلة مُحـاضرات الإمـارات رقـم: (46)، أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2001.

* ثَانِياً : الدَّوْرِيَّاتُ:

1ــ إبراهيم أبراش، “فِي عَصْرِ العَولَمَةِ تتجَدَّدُ تَسَاؤُلاَتُ عَصْرِ النَّهْضَةِ: العَرَبُ وَتحَديَاتُ عَصْرِ العَوْلَمَةِ”، مجلة: المُستقبل العـربي، بيروت، العـدد: 337، مارس 2007.

2ـ أحمد أبُو زيد، “العالمُ يتمرَّدُ عَلَى العَولَمَةِ”، مجلة: العـربي، الكويت، العـدد: 574، سبتمبر 2006.

3ــ جَلاَل أمين، “العَولَمَةُ وَالدَّوْلَةُ”، مجلة: المُستقبل العربي، بيروت، العدد: 228، فبراير1998.

4ـ سُليمان إبراهيم العسكري، “هَوِيَّتُنَا وثقافةُ الاخْتِلاَفِ”، مجلة: العـربي، الكويت، العدد: 586، سبتمبر 2007.

5ـ السيد ياسين، “في مفهُوم العَولَمَةِ”، مجلة: المستقبل العربي، بيروت، العدد: 228، فبراير1998.

6ـ مُحمَّد عابد الجابري، “العَولَمَةُ والهَوِيَّةُ الثقافيَّةُ: عشرُ أطرُوحَاتٍ”، مجلة: المُستقبل العربي، بيروت، العـدد: 228، فبراير 1998.

* ثالثاً:  المواقعُ الإلكترونية :

1ـ خالد كاظم أبو دُوح، “مفهُوم العـولمة: رُؤيَةٌ نقديَّةٌ”، مجلة: الحوار المُتمدن، العدد: 1771، بتاريخ:21/12/2006، مُتاحٌ على الرابط: http: \\www. Rezgar.com.\m.asp

صـالـح النمـلة، “العــولمة.. عــولمة الأزمــات السيـاسيـة والاقتصادية”، جـريدة: الريـاض، مُتـاحٌ عـلى الرابـط الإلكتروني التــالي:

http://alriyadh.com/2003/12/24/article17790.html

3ـ مُحمَّد سُليمان أبو رُمَّان، “البُعدُ الثقافيُّ في مشرُوع الشرق الأوسط الكبير : الديمُقراطيَّة والتحديثُ في خدمة مصالح الدُّول الكُبرى”، موقعُ الإسلام اليوم، 6/3/2004، عُنـوانُ الرَّابِـطِ:

http://www.islamtoday.net/albasheer/show_artic 

4- نصّـار إبراهيم، “العولمة: جدلُ الثقــافة والتــربية: التـربيةُ حجرُ الـزاوية في المُواجهة والتفاعُل”، مُتاحٌ على الرابط التـالي:  www.qattanfoundation.org/pdf/1564

مقالات ذات علاقة

ليبيا واسعة – 57 (رايـد)

عبدالرحمن جماعة

جماليات الاشتغال السردي في القصة القصيرة

عبدالحكيم المالكي

فوزية شلابي: أسرارُ العاشقةِ الطرابلسية

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق