نحو مدخل للتعامل مع النص القصصي القصير
تمثل الكتابة الإبداعية عموما والحكائية خصوصا حالة ممارسة لخروج مستمر عن النسق المعتاد، وهذا الخروج، قد يكون جزئيا في صورة تقنية أو رؤية جديدة بحيث نجد تجريبا ناضجا أو غير ناضج، وقد يكون في البعد الكلي للنص بحيث يخرج النص الجديد في معماره وخصائصه الجنسية عن النصوص السابقة ويحدث ذلك عبر الربط المستمر بين الكاتب والمتلقي لاتفاقات جديدة حول طبيعة النص، كما أن ” أي نوع وهو يتشكل في سياق معين يوفر له سياقه شروط التكون والنمو، وأي نوع يختفي ويزول عندما تنعدم الملابسات التي تحدد بقاءه و استمراره” (تودروف)[i]
ونظرا لكل ذلك من المهم قبل الدخول للاشتغال النقدي على النص القصصي، من المهم بالنسبة القارئ –الناقد- أن يلم ولو قليلاً بالخصائص الجنسية الناظمة لحركة الأنواع القصصية، حتى لا يكون عرضة للتقليدية والجمود في الرؤية للتطور الحاصل على النص القصصي، وكذلك حتى يكون حكمه على النصوص المحتوية على تجريب وتجديد غير متجنية أو قاصرة، كما أنه من المهم أن تنتظم في ذهنية القارئ –الناقد- مكونات الممارسة السردية حتى يصير أكثر قدرة على الفصل بين المستويات وحتى لا يقع في الخلط أثناء ممارسة القراءة.
الأنواع القصصية الموجودة في المدونة الليبية للقصة القصيرة:
تظل مسألة تحديد الأنواع التي تنضوي تحت مفهوم القصة مسألة مشكوك فيها، ونحن هنا إذ نحاول تقسيم هذا الجنس -المتغير باستمرار- لمجموعة من الأنواع، لا نفترض لهذه الأنواع دواماً أو بقاءً مستمرا، ذلك أن النص الحكائي في عمومه متغير كما أن الحاجات التي تربط بين القارئ والمتلقي لا تتوقف عن التغير.
ولكن نظرا لوجود فوارق سياقية بين بعض النصوص التي تمثل تلك الأنواع، كان من الضروري الفصل بينها، وعلى سبيل التحديد أجزم بوجود خمسة أنواع رئيسية من القصة في كتابات الليبيين التي رأيتها، ذلك أن تلك الأنواع تفصل بين النصوص التي تمثلها –أفضل تمثيل- تفصل بينها خصائص نوعية واضحة الاختلاف، كما نذكر أن سنحاول عدم الوقوع في الانزلاق في التصنيف الأسلوبي للخطاب والذي سبب لفترة طويلة الخلط بين الممارسة الفردية التي تنتظم مع ممارسات أخرى يتشكل بفضلها للخطاب أسلوبه النوعي وبين النوع كشكل متعال من البنية المعمارية والتي تنظم حركة النصوص داخله –سنتناول الخطابات النوعية لمزيد من التوضيح في هذا المقال- ونحن هنا عند تعاملنا مع قضية النوع لا نخرج كثيرا عن ما صنف من قبل ولن ندعي تقديم شيء جديد بقدر ما نسعى نحاول أن نشير إلي حدود عامة لكل نوع وخصائص ومواصفات، تجعلنا نتعامل معه بعيداً عن عقدة سيطرة الأنواع الشهيرة والتي أعتاد القارئ على تداولها مثل القصة القصيرة بالمفهوم القديم.
نعتمد في هذا التقسيم علي أربعة مؤشرات هامة:
1) حجم المادة النصية.
2) طبيعة الاتفاقية أو العقد الحاصل بين القارئ والمتلقي حول هذا النوع.
3) مدى ما تغطيه تلك المادة من عمر الشخصيات أو الفواعل ومدى التحولات الحاصلة على تلك الفواعل.
4) مستوى التعالق المعماري بين النص وخط:السردي __الشعري، وخاصة قضية الغموض الشعري، الذي هو الملمح الأهم في الشعرية المعاصرة.
من جهة الحجم مثلا نفْصل بين القصة القصيرة والقصيرة جدا كما نجد أيضا استرشاداً للفصل من خلال مدى ما تغطيه المادة من عمر الشخصيات أو من الحدث للفصل بينهما، كما نفصل من جهة السياق التفاعلي وطبيعة الاتفاقية بين القصة القصيرة جدا والنص والذي ليس إلا قصة قصيرة جداً، أتفق طرفا التواصل فيه علي صياغتها بلغة شعرية منثورة أقرب لشعر النثر وتمتاز بقدر ما من الغموض، كما أنهما معاً يختلفان عن قصة الومضة من حيث الحجم ومن حيث التكون إذ تطرح قصة الومضة قيمة أو حكمة سريعة عبر الرمز يلخص من خلالها كاتبها خلاصة تجربة أو تطرح موقفه من قضية ما وتعكس بذلك حالة شعورية تنتابه، كما نفصل من خلال البند الرابع بين النص ذو الطبيعة الغامضة والذي ينتمي للأصل الشعري، وبين القصة القصيرة جداً التي شبهه من حيث الحجم وتختلف عنه من حيث البناء المعماري، ومن حيث تعاقد التواصل الحاصل، حيث في “النص –كنوع- سنجد الاتفاقية تتسع لما اتسعت له الاتفاقية بين الشاعر –المعاصر- والقارئ، من حيث طبيعة التواصل المشوبة بالغموض والرمز وكذلك من حيث غياب السردي –الحكاية والحدث- لصالح الشعور، فيما تعتمد القصة القصيرة جداً على شيء من الوضوح، تصبحه انتقاءات خاصة من حدث وفواعل وزمان ومكان وحضور اكبر للسردي-حكائي- داخلها.
نقسم إذن الأنواع القصصية التي أمامنا لما يلي:
1) القصة الطويلة: والتي نتركها هنا فليست ضمن مجال بحثنا هذا.
2) القصة القصيرة: تمثلها أغلب نصوص مجموعة الخيول البيض ل”أحمد عقيلة ” و مجموعة السوأة ل”عبدالله الغزال” وكذلك أغلب نصوص مجموعة “سر ما جرى للجد الكبير” ل”علي الجعكي” وكذلك مجموعة د.أحمد الفقيه مرايا فينيسيا ومجموعة القفص ل”إبراهيم الكوني” والدوائر وبعض نصوص المرأة الفرح ل”محمد المسلاتي” نوكذلك أغلب نصوص الأمين الشريف في مجموعته القصصية “أم الخير” كما منها مجموعة “إبراهيم بيوض” خفايا التأويل وأغلب نصوص “جمعة الفاخري” في مجموعتيه القصصيتين امرأة مترامية الأطراف ورماد السنين المحترقة، وبعض نصوص “محمد الأصفر” في مجموعته حجر رشيد.
3) نوع القصة القصيرة جداً:
والتي تمثل النوع الأكثر انتشارا خاصة من خلال طبيعة النشر داخل الصحف وما تفرضه من قسريات على النص الحديث ومنها:
بعض قصص “الأصفر” في مجموعته حجر رشيد وكذلك مجموعة بعض قصص “أحمد عقيلة” غناء الصراصير وكافة القصص التي نشرها في موقع القصة[ii] هو و الأصفر وكذلك مجموعة “عمر عبود” أخر التيه وأغلب قصص مجموعة “الشفق الأبيض” لفوزي الحداد وبعض نصوص مجموعة “عودة الديناصور” ل”عبدالله السعداوي” و بعض نصوص مجموعة” طقوس” لعوض الشاعري وأغلب نصوص “عبدالعزيز الرواف” و”محمد زيدان” التي نشرت في موقع القصة وكذلك بعض قصص “الصديق بودوارة” في مجموعته “يحكي أن”.
4) نوع قصة الومضة: التي تمثلها بعض ومضات “الصديق بودوارة” في مجموعته “يحكى أن” وكذلك مجموعة “إبراهيم الككلي” في مخطوطه “رجل ما”، وكذلك نصوص –مازالت مخطوطة- لجمعة الفاخري.
5) نوع (النص ): والذي حقيقة لم تنضج بعد بشكل كاف لدينا حتى الآن، و رأيت بعضا منها في كتابات الأصفر واغلب كتابات “أمال العيادي” في مجموعتها القصصية.
وعبر ذلك نجد قصصاً غير قابلة للتأطير أو تقع في المسافة الفاصلة بن نوعين ومنها قصة القضية للمسلاتي.
تمظهرات العمل الحكائي:
قسمت السرديات أو علوم السرد تمظهرات العمل السردي لثلاثة مستويات وإن كان كل سردي له رؤيته في هذا الجانب[iii] إلا أن المتفق عليه بينهم هو ما يخص الخطاب والنص ويرون أغلبهم أن الخطاب هو المادة السردية في صورة العلاقة الحاصلة بين الراوي والمروي له ويعتبرون ذلك مفصولاً عن مستوى النص والذي يحدث عبر العلاقة الحاصلة بين الكاتب والقارئ عبر النص الذي ليس إلا المادة المكتوبة ضمن الكتاب –فيما يخص النصوص المكتوبة- ويتابعون في هذا المستوى النصي العلاقات الخارجية للنص وإحالاتها كلها باعتبارها رسائل-مشفرة عبر النظام المكتوب واتفاقيات هذا النوع- يرسلها الكاتب للقارئ، فيتحول العنوان بهذا حاملاً لمفهوم محدد كمناص أو مدخل أولي للقراءة، بينما في مستوى الخطاب تتابع السرديات-الحصرية[iv]– الخطاب داخلياً ولا يتم هنا الاهتمام بالكاتب، بل بالراوي الموهوم الذي أختلقه الكاتب لإنجاز نصه داخلياً.
المستوى الثالث هو مستوى الممارسة السردية –وهو ما يعرفه “جيرار جنيت” بالسرد- وفيها تتم متابعة –بلاغية النوع- للممارسة السردية بين سرد وصف.[v]
المستوى الرابع هو مستوى الحكاية والذي نرى أنه برغم تأكيد أغلب مؤسسي علوم السرد عليه كتمظهر أساسي لتحقق النص وخطابه، إلا أنه لم يتم التركيز عليه في صورة مكوناته الأربعة –حدث، شخصية، زمان، مكان- ولم تتوفر حتى الآن –حسب ما أعلم- سرديات متخصصة لهذا المستوى الحكائي المهم[vi].
الخطاب بين الراوي والمروي له:
تعريف الخطاب: ننطلق من كون الخطاب هو طريقة الحكي. وتمثل عملية التخطيب طريقة التشكيل النهائي للمادة القصصية عبر ثبوت أو تغيير زمن القصة الأصلي وتغير طرح الحدث والشخوص وتأثيثات المكان، ونتيجة للإمكانيات المفتوحة والممكنة للمكونات الثلاثة الرئيسية لتمفصلات الخطاب الروائي، نجد من الممكن تخطيب القصة الأصلية بعدد لانهائي من الخطابات.
الراوي والمروي له:-
يتم متابعة طرح الخطاب الروائي بين الراوي والمروي له عبر مكونات الخطاب الروائي التالية:-
الراوي الخطاب المروي له
ويقصد بالراوي هنا، تلك لشخصية الوهمية التي يستخدمها الروائي ليسرد ويشخص عبرها الخطاب نائبة عنه داخل الخطاب الروائي، سواء كان ذلك الراوي حاضر متكلما كما في صيغة المعروض، أو سارد بضمير غائب كما في صيغة المسرود أو ناقلا لكلام الغير كما في صيغة المنقول.
المروي له:
إذا كان الراوي شخصية من خيال الروائي قد منحها وجوداً في الرواية ومنحها صلاحيات كثيرة بها يتحدد شكل الرواية وآلياتها، فإن هذا الراوي لابد أن ينطلق في روايته استجابة للمروي لهم، لأن حديث الأنا هو عمق لخطاب الأنت، وإن اختلفت درجة حضور الآخر (المروي له) فربما تزيد هذه الدرجة زيادة تؤثر بدورها على بناء الخطاب الروائي… وربما تقل درجة الحضور فلا تلاحظ لها أي تأثير قوي،[vii] والراوي الذي يروي بما أنه أحد كائنات الورق فهو يفترض بالتبعية وجود المروي له انطلاقاً من أن أي خطاب لابد له من مخاطب،فالخطاب الحقيقي لابد له من مخاطب حقيقي، والخطاب المتخيل (السارد/ الراوي) لابد له من (مسرود له/مروي له ) والمعادلة سابقة الذكر والتي تربط بين الراوي والمروي له عبر الخطاب هي معادلة متخيلة لأنها بنت خيال مركب بدأ من الروائي الذي افترض (راوياً) أو سارداً ومنحه صلاحيات[viii]، فلما بدأ الراوي في خطابه وروايته فبالتبعية برز المروي له وهو ناتج خيالي، والمروي له على هذا النحو شأن داخلي فهو الذي يتلقى خطاب الراوي، والاهتمام بـ(المروي له) في النقد لم يحظ بنصيب وافر حتى الآن، إذ أن النقاد والروائيين منذ قال (هنري جيمس) و(وجهة النظر) وقد انصب الاهتمام الإبداعي والتنظير النقدي على الراوي بأوضاعه المختلفة وكانت هذه خطوة نقدية مهمة تجاوز بها النقد نظرته التقليدية التي كانت منصبة على دراسة الرواية والقصة من خلال الكاتب نفسه، الأمر الذي لم يساعد على تحليل دقيق للخطاب الروائي… ومنذ الاهتمام بالراوي بدأت العناية بتحليل داخلي للخطاب الروائي.
الراوي في القصة الليبية:
جانب أخر تبدى لنا خلال التعامل مع المدونة القصصية الليبية الحديثة؛ تمثل في وجود طاقات خفية تتلبس بالراوي فهو لم يعد ذلك الراوي التقليدي و الأمين [ix]، بل إننا مع راوي مداور وخبيث يطرح من خلال طاقاته الخفية هذه، يطرح الكاتب كل ما يريده دون أن يقع في المباشرة، فالقارئ لنصوص القفص للكوني يدرك قدر التماهي العميق الذي حققه هذا الكاتب المخضرم بين راويه والشخصيات، ضمن ذلك الفضاء المفتوح، كما نجد تجارب مميزة أخرى هنا خاصة لدى من امتلك طاقة للوصف العاكس لشخصيات مثل السوأة للغزال و يتحول الوصف لمعبر –غير مباشر- عن المندس في عمق الشخصية، وكذلك في سر ما جرى للجد الكبير والعديد من نصوص احمد عقيلة نجد راوياً في غاية التماهي مع الشخصيات أو الفواعل التي ترتسم عبره أقدارها.
الخطابات النوعية المختلفة في القصة الليبية القصيرة:
يبدو من الغريب أو المثير للخلط أن نتحدث بعد حديثنا السابق عن (الأصناف النوعية لنصوص)، أن نتحدث عن الخطابات النوعية، ولكن نؤكد هنا أننا نتحدث عن ألوان من الممارسات الخاصة والتي تجسدت ضمن الممارسة الخطابية وأن هذه الأنواع من الخطابات متواجدة أيضا في الرواية والقصة الطويلة، وهو -ما سيزيح قليلا- قضية الخلط بين الخطابات النوعية كتنميط لممارسة أسلوبية ضمن الجنس الحكائي في عمومه بداية من المرويات الشفهية مروراً بالرواية والقصة الطويلة وكل الأنواع التي كنّا نتحدث عنها والتي تختلف عن المؤشرات السابقة التي كنّا نتحدث عنها في جانب الأنواع المندرجة تحت الاسم النوعي الشامل (قصة قصيرة) وهو أسم جنس طالماً تمّ تداوله بشكل عام غير دقيق.
الخطاب الساخر:
والذي ينتج من الخطاب العادي مصحوبا بخطاب أخر يمثل طاقة السخرية، أي أننا أمام ازدواج في الخطاب، بين طرح عادي ظاهري و طرح أخر خفي يتحقق عبره موقف خفي للكاتب من قضية معينة ومن أمثاله بعض كتابات “الصديق بودوارة”، و”محمد الأصفر” “
وكذلك بعض نصوص “جمعة الفاخري “، و”أحمد عقيلة” و”محمد زيدان.
والخطاب الساخر غالبا لا يأتي كذا ساخراً لمجرد التسلية ولكن لطرح أبعاد واقعية غالباً.
الخطاب الفانتازي:[x]–
والذي يتشكل من مادة بين الغرائبي والعجائبي ولا يمثل حالة تلبس من الراوي بخطاب مدسوس، وإنما اتفاق بين الراوي والمروي له أمامنا علي تداول تلك المادة الخطابية الخيالية وغير الواقعية والتي من غير المتوقع أن تحدث في الحياة العملية؛ أو غير ممكنة الحصول.ونجد بعض من هذه الكتابات في نصوص مجموعة “عبدالله السعداوي” “عودة الديناصور”، وكذلك قصة “خديجار” ل”سالم العبار” وكذلك بعض نصوص الأصفر وأحمد عقيلة والذي يختلف عن الباقين من خلال دمجه للفنتازي بالأسطورة القديمة بحيث يخلق أمامنا راويه والمروي له داخل خطابه تلك الغرائبيات أو العجائبيات الفنتازية وكأنما هي واقع حقيقي ويدعم ذلك كل مكونات الخطاب، أيضا “العبّار” في نصه “خديجار” نجد تعاضداً من خلال المناص الأول والذي يشرح فيه معنى النار لجعل النار الخفية التي اشتعلت في الأنثى –في أخر النص-مدركة ثم مقبولة عند المتلقي بل وأشبه بالواقعية بل ربما هي الأصل، كما نجد ذلك في اغلب نصوص مجموعة “علي الجعكي” سر ما جرى للجد الكبير، حيث تنثال إلينا من وعي الشخصيات التي يرسمها الكاتب هواجسها وما تراه من أشياء، ونلحظ هنا في هذه المجموعة أن الكاتب- عكس الكتّاب الآخرين اللذين يستخدمون طاقة ما قبل النص (العناوين و العتبات)- أنه يمارس خلق أسطورته عبر تشكّل النص أمامنا كما التماهي الحاصل بين قصة الجد وقصة الحفيد في قصة (سر ما جرى للجد الكبير )،وعبر مناقشات الراوي المندمج مع الشخصية وهي تحكي قصة الجد الذي تاه خلف الغزال، ويتضافر التلميح مع اللغة الشعرية والوصف الموثن للحدث الحاصل عبر وعي مهتاج، يتضافر كل ذلك لخلق الأسطورة والخطاب الفانتازي أمام المروي لهم.
كما نجد الخطاب الفنتازي يزداد قوة عند “على الجعكي” في لحظة التنوير كما في قصة اللعبة، حيث يموت السيد فاضل والذي يسكن في ضاحية المدينة وترتفع وتيرة الدراما عبر اللامعقول الذي اكتسب معقوليته عبر اتفاقية القراءة:
..أخذ جسده يرتفع على السرير ببطء..يرتفع.. لقد فقد توازنه، أحس انه يطير بخفة في الهواء..يخلق حول الرؤوس المنكبة عليه.
ينساب في الغرفة الواسعة بسهولة..استمتع بهذه اللعبة..يطير…يقترب من الضوء الساطع المعلق بالسقف… من منبع الشمس..يتشبت بخيوطها..يتعلق بحريرها الأبيض الناعم..ينزلق عبر النافذة إلى خارج الغرفة..يبتعد في الفضاء الفسيح حيث يترك ضوضاء المدينة “.[xi]
شيء من هذا نجده أيضاً في بعض نصوص “عبدالله السعداوي”: “عودة الديناصور” خاصة في القصة المعنونة بهذا الاسم، حيث يظهر الديناصور من جديد ويبدو أستاذ التاريخ الطبيعي هو الوحيد المختلف عن الآخرين، إن عبدالله السعداوي –من خلال اتفاقية القراءة والكتابة وعبر ما اصطلح على انه رمز، يطرح أمامنا اللامعقول والذي ينتهك الواقع حاملاً معه لنا مقبوليته، ويتحقق عبر ذلك كله للكاتب المراد من رمزه الذي أنتجه ومن نهج كتابته الذي أشتغل عليه.
الخطاب التوثيني:-
والذي يطرح فيه الكاتب ومن خلال الراوي المدفوع بطاقة التوثين[xii]، يطرح فيه رؤية خفية خبيثة لما يشكله من مادة وقد يكون ذلك لغرض خلق هالة من القداسة حول فئة ما أو عرق ما، كما يفعل الكوني في رواياته وقصصه وهو يدفع راويه بطاقة التوثين الكبرى لمجتمعه الحكائي، كما نجد هذا وإن باستخدام مختلف وبقوة أيضاً لدى عبدالله الغزال في مجموعته السوأة وهو يضع راويه باستمرار في حالة تأمل من خلال شهقات فطرية تعكس روح الإنسان البكر ساعده في خلق ذلك طبيعة الشخصيات التي اختارها، كالبكماء والممسوس والسجان وكذلك وعيه العميق باللعبة الخطابية وقدرته على التلبس بعمق الشخصيات والارتكاز خارجيا وتبئيرها داخلياً.
نجد توظيفا لطاقة التوثين في بعض كتابات جمعة الفاخرى، وإن كنت اشعر انه أستخدمه ليطلق من خلال سخرية عكسية كما في قصته القصيرة “ملكة جمال الكون”.
خطاب التوثين العكسي:
وهي السخرية الحادة، ونجدها في نصوص الصديق بودوارة مثل نص “موت جمل” وكذلك نص “لجنة تفتيش”ضمن مجموعة “يحكى أن”. وكذلك نص طبول الدم لمحمد الأصفر (مجموعة حجر رشيد)، كما نحس بروح تهكمية خفية لدى جمعة الفاخري في كثير من نصوص مجموعتيه.
خطاب الراوي المزود بالوعي الصوفي:
ومنهم بعض رواة عبدالله الغزال في مجموعته السوأة حيث يتحول الراوي المزود بطاقة الروح المتصوفة، يتحول لحالة تأملية تختلج داخل روحه مسارب تخرج أمامنا من خلال التقاطاته المقصودة والدالة على ذلك ويختلف هنا عن التوثين العادي سابق الذكر أننا هنا مع إكبار وإعلاء وتفخيم لأشياء لها علاقة بالمثل الدينية العليا ولقيم الصوفية أو الإسلامية العميقة.
خلاصة:
عبر التقسيم السابق لأنواع القصة القصيرة المتداولة في كتابات الليبيين والتي بلا شك لا تختلف عن كتابات باقي الكتاب العرب، نشعر بالراحة والقدرة للدخول والتعامل بموضوعية ووعي لبعض المشاكل النظرية التي تعترضنا ونحن نمارس قراءتنا للنص الذي أمامنا، فلا تصبح شعريته وغموضه، مصدر قلق ولا نفي له، ولا يصبح قصر(كمساحة نصية) عامل توجس وشك لنا، كما أننا بهذا الشكل نستطيع أن نتلمس –بوعي- مكامن الإبداع في الخطابات القصصية المنتجة ويصير انطلاقا من كل ذلك تلقينا لها أكثر فاعلية ونصير قريبين على حد ما مفهوم القارئ النموذجي-والتي ليست صفة- كما صنفه ايكو.
[i] سعيد يقطين / قال الراوي / المركز الثقافي العربي / ط.1/ 1997.م/ التأطير الأول
[ii] http://www.arabicstory.net
موقع القصة العربي / موقع على الساحة الالكترونية يوجد فيه أكثر من 600 قاص منهم 40 من ليبيا تقريباً.
ويشرف عليه القاص السعودي: جبير المليحان
[iii] أنظر للمزيد الفصل الأول من كتاب: تحليل الخطاب الروائي/ سعيد يقطين/” ط.2/1993.م/ المركز الثقافي العربي
[iv] يقصد بالسرديات الحصرية (سرديات الخطاب الروائي والتي تحصر اشتغالها على الخطاب الداخلي للنص السردي)
[v] (G.Genette Figures II.p.56.57)
نقلاً عن:حميد الحميداني/ بنية النص السردي، ط.3/ 2000م/ المركز الثقافي العربي/ ص79،78.
[vi] لا توجد حتى الأن سرديات تنظر في مستوى الحكاية، على الرغم من أن هذا المستوى من الممكن أن يكون المستوى الرابط بين السيميائية كألية بحث عن بنية المعنى وبين علوم السرد وبين السرديات الاجتماعية من خلال اوصول لبنية النص العميقة التي ستكون منطلق لأشتغال كل من هؤلاء.
[vii] نجيب التلاوي/ وجهة النظر في رواية الأصوات العربية/منشورت أتحدالكتاب /2000.م
[viii]المرجع نفسه.
[ix]محسن الموسوي / ثارات شهرزااد في السرد العربي الحدث/دار الأداب /ط.1/1993.م/ لفصل الأول
[x] تزفيتان تودروف/نقلاً عن:د.سعيد قطين /قال الراوي
ود.عبدالسلام شرماط /مقال عن الكتابة العجائبية /مجلة فضاءات عدد.5
[xi] علي الجعكي / سر ما جرى للجد الكبير /ص:60
[xii] صلاح الدين بوجاه /الشئ بين الجوهر و العرض /ط.1 /1994/ص.126
2 تعليقات
الاستاذ عبدالحكيم المالكي احد ابرز الكتاب والنقاد الذين لفتوا انتباهي . اذا كان لي ان اصف هذا الرجل بكلمة واحدة فساقول انه مدهش. له قدرة عجيبة على الغوص في النص الابداعي والتوقف عند تفاصيله والاهم هو ربطه وتصنيفه وفق منهج علمي مع غيره من النصوص . ان ذلك يدل على شخصية ذات مواصفات نادرة واستثنائية.
اطال الله من عمرك .
منتصف شهر رمضان
ابراهيم بيوض
نشكر مرورك الكريم