رواية صلاح ياسين رواية جزلة مكتوبة بلغة راقية منعمة بعصير الفكر ورقة التعبير ومتانته، مشبعة بالوقفات الوصفية والحوارية المنداة بطعام الروح.
بقلم: خالد جودة أحمد
حققت رواية “خريف أشجار .. وارفة ..!!”، للروائي صلاح ياسين، في ذائقتي التشغيل السردي وتنوعه من حيث التخصيب بالرؤي الاجتماعية والذاتية، مما جعل الرواية تشكل الوعاء الفلسفي الذي يحمل تأملات في الذات والمجتمع عبر مقابلة الزمان.
وحيث إن عنوان الرواية من الأهمية بمكان، لأنه في القول المشهور علامة كلية للمحتوي، والبراعة في إنتقاء العنوان يعد أمرًا فارقًا وضروريًا، ويحتاج لرعاية بالغة من يراع الروائي وقدحه الذهني، وعصفه الوجداني، وقد يستغرق الجهد لإبداع العنوان جهدًا يماثل – وقد يزيد – في إبداع النص ذاته.
والعنوان هنا منحوت بعناية، يحمل حدين متضادين بالعنوان (خريف / وارفة)، مما يعني هذا اللقاء من دراما أو أسى الحياة، حيث الخريف جاء لأشجار وارفة في غير الآوان المنضبط بتوقيت الخريف، أو كما يعلم القارئ بعد حين أنها في حقيقتها محنة الزمن البديل، حيث إن بطل السرد (محمود حمزة “الشيخ الشاب” في رؤية ثلة دكتورة جوليت عمار) رجل يأتي إلينا من الزمن الجميل، ليحيا في عصر مغاير، فتكون محنة “الخريف”، وتأتي الخاتمة بارعة لتمثل لنا صدمة اللقاء تلك بين الواقع والحلم، بين الربيع الداخلي للإنسان والخريف الذي يتغول حوله ويحكم سنانه الدامية حول قلبه:
“قام واقفًا تلفت حوله للحظات وكأنه ينظر لذكرياته وقد تبعثرت متناثره علي أرض الطريق، ثم انحرف سائرا آخذًا طريقه نحو المخبز، ليشتري خبز الغد، وبعقله أنه مازال محتفظًا بقدرته على العودة إلى الماضى .. ومواصلة الانتظار لأميرته المستحيلة”.
هناك حكاية مضمرة في الرواية (قصة داخل القصة) تأتي من خلال ومضات من الذاكرة وحالة حنين إلى حبيبة تركته في الزمن الوضيئ مؤطرة بالنداء الأثير (سمو الأميرة) تأتي في فواصل فيها غموض شفيف للقارئ، مثلت معادلًا موضوعيًا للزمن الجميل، والانتظار للأميرة – المرغوب ذاته – وسيلة للتقوى على معايشة الزمن الكئيب. يقول: “لكنني عاهدت نفسي أن أنتظر، أن أمارس متعة الانتظار وعذاباته والجنون”.
وهذا المعادل الموضوعي حققته فكرة لقاء المظهر والجوهر بشواهد دالة: فالناس صنفين (قطعة من الحديد أم فضة نقية)، أو بسؤال آخر في الرواية “هل الورود الصناعية أفضل أم الطبيعية؟”، ومن الأمثلة للفضة النقية (محمود حمزة)، ومثال للحديد حيث شخصية “ستيفاني أو فاتيما” نموذجًا للجمال الصارخ والعطر النفاذ والعجب والمكياج الكامل والنفيس والسلوك الغليظ، فتحولت الابتسامات رغوة الروح العفوية عند فاتيما إلى ضحكات صاخبة ناعمة في نفس الوقت.
والرواية لها فلسفة خاصة تقوم على قبول الحياة بما فيها من هنات وعثرات، والتغافر والإحسان والسداد. يقول الشيخ الشاب بعد أن صاغ السيناريو المحكم لحل عملي لمشكلة بطلين مساعدين آخرين من الرواية، واشتمل الحل على مقدمة منهجية من حيث دراسة الواقع وجمع المعلومات بصورة طبيعية: (الحياة ليست تامة البراءة .. وأن هناك ما يستدعي إعمال العقل والتفكير المتريث خاصة في أمور قد تبدو بسيطة أو غير مهمة)، لذلك يري حمزة جمالاً في الورود الصناعية، وينسقها في شكل دائري هرمي، ويقدم تلك الطاقة هدية لأنها أطول عمرًا، إنها الذات التي ترى الجمال لأنه تثمر بداخلها شجرة وارفة جذورها زمن جميل أثير في العالم الروائي. أو بتعبير الرواية “أنت روحك جميلة يا حمزة فتري كل شيء جميلاً”.
وهذا العطاء الحكمي جاء من عطايا الربيع السردي الفلسفي للرواية، ففكرة العزلة المتأملة، حيث تعبيرات ومعارف حول سر قوة الروح وعلم “فراسة الدماغ”، وحيث رياضة المشي، فحمزة دائمًا يسير متمهلاً يتنفس الأفكار يرتبها أو يبتكرها، وهو يعبر جسر النيل القديم، حيث (يريد أن يفكر .. يتذكر .. يجتر ويسترجع).
وجاء الخريف بالرواية محمولاً علي الوصف: “الخريف هو الفصل الثالث من فصول السنة قبل الشتاء مباشرة تتحول أوراق الأشجار الخضراء الزاهية إلى اللون الأخضر الواهي، ثم أصفر قاتم، ثم اللون البني، ثم الخلع من الأصول لتصبح الأشجار جرداء”، لكن الرواية تقتني فكرة المقاومة من خلال الربيع الداخلي رغم الخريف، وهو الأمر الممكن والرائع حيث قالت الرواية (بتصرف): “حكمة الله في خلقه .. الكافور والسرو والحور وشجرة الأرز والنخيل أشجار دائمة الخضرة لا علاقة لها بتأثيرات الدورة الطبيعية”.
والرواية بها وقفات وصفية وحوارات مطولة، ومعارف نفسية وفكرية مسرودة بوسائل عدة، جاء منها المحاضرة العلمية “الثقافية” وإجراءاتها وأجوائها ومكانها ومداخلاتها، حيث تقديم وجبة معرفية حول “علم الجمال الاجتماعي”، وخلال هذا الإجراء الروائي يتعادل زمني السرد والزمن الطبيعي، ويكون تمهل الإيقاع الروائي لاستحلاب هذه النظرات الفكرية.
وهناك حوارات في الثلة الروائية مناظرة لهذه الفكرة، حتي أن قيم (الخير / الحق / الجمال) والتأمل حولها شكل قوسين للرواية. ولم يكن ممكنا أن يجري تشييد هذا العصف الفكري، أو يتحقق هذا الشأن روائيًا إلا عبر هذا الوعاء المنطقي بالرواية.
وقد يري البعض أن الإيقاع هذا يعيب الرواية، والحقيقة أنه لا يوجد (مسطرة) واحدة يمكن القياس عليها في الفن، فكل رواية وشأنها الداخلي، وجمالية الرواية تحققت عبر رحلة الفكر والتأمل، وخصوبة اللغة، والتأرجح بين زمن واقع وآخر جميل، وتباين الشخصيات، وسبل التواصل الإنساني والعملي معها رغم تباينها.
كما تدعو الرواية في حكمها القيمي إلى “جودة الحياة” بشواهد مفيدة: “.. فليس في الحياة أجمل من أن تقضي يومك فيما تحب، وفيما لا يخدش وجدانك عندما تعود إلى نفسك، غير طامع في أكثر مما هو لك”، وعصير التأمل يحقق إرتواء وسبل تخصيب الشجرة الوارفة الداخلية رغم خريف الواقع، علي وجوه منها:
• الذوق واللياقة اللغوية والتحابب الإنساني الشيق في لقاء نضار النفوس، وحيث القبول والتغافر والتفاهم مع آخر طمس الواقع الآني والأهواء ضوء فؤاده. وحيث تؤمن الرواية بقيمة “التنوع الثقافي” فنجد ثلة نادي الشط تشكل السفين الإنساني، فالأعضاء الأصدقاء فيهم سيدات ورجل، وديانات وثقافات متناينة تتجاور وتتآخي في الزمن الجميل.
• وحيث الروح المرحة التي تنعكس في فضاء المكان، وبتعبير الرواية (أشعة الابتسامات ركيزة العفوية الآسرة)، وبالرواية استعانة بالنصوص والفكاهات والنوادر وأبيات الشعر ملح الجلسات والوداد الثقافي.
• واللذة المدهشة بالمعرفة (ويلتذ بما يسمع ويتعجب ويتعلم).
• وحيث (هذا العقل البشري العجيب، الذي يستخدم منه أكثر الناس ما لا يزيد عن عشرة بالمائة فقط).
• وحيث عمرت الرواية بأفكار خصبة حول الإدارة الثقافية، وروح الأمسيات الثقافية النابهة، والتخصيب المعرفي، وفكرة الأساس الموضوعي لتصنيف المكتبات، والقراءة في التراث، وشأن يحبه القراء فحمزة (حاسب الكميات وعاشق الأرقام وعارف قوتها) دقيق في حياته، يحمل حقيبة بها أوراق وأقلام، ودائمًا كتابا يقرأه في وسائل المواصلات للمسافات الطويلة، محب لمطالعة الفلسفة والتعاليم حجر الزاوية في الحضارة الإنسانية، وحيث التماثل السردي حين أشرقت شمس يوم جديد (حركة طبيعية)، تواكب حركة نفسية لدى حمزة حين أشرقت شمس المعرفة لدي مقاربته مكتبته في ليلة وارفة من المطالعة ومصاحبه الكتب، وحيث عيون جديدة تري.
• وحيث قيمة “العمل” في مقابلة مع الآخر: “قال سمير موضحًا أن الشهادات الجامعية هناك أمر غير ذي موضوع، المهم ماذا تسطيع أن تعمل؟!، فالعمل هو الفيصل وليست الشهادة مهما تعالت”.
• وحيث إلتماس الساعة النفسية الرحيبة ومنتوجها من ذكري تعزي وتقوي الروح: “بقاء الأمسية منيرة في الذاكرة تعادل أيامًا كثيرة وسنوات كاملة من عمره”. فتاريخ الأيام مداويًا: “تفجرت في نفسه ينابيع ذكريات أيام مضت من عمره الوسيط ولا يظن أنها تنسي .. فانساح عنها للحظات طالت قليلاً وذهبت هناك حيث سمو الأميرة ..”. وإن حضرت أيضًا الساعة النفسية النقيضة جاء لغويًا من خلال إشباع المعني لثقل الوقت في موضع بالرواية: “كان يسترق النظر إلى الساعة التى يزحف عقربها نحو منتصف الليل بهدوء حثيث مقيت موجع”.
• وحيث الحب وذكراه باعث الربيع ومؤله وفؤاده النابض: “آراك كل يوم تزداد شبابًا يا خوسيه ..؟!، الحب سبب الربيع”.
• وحيث المرأة عمود الأسرة وحجر زاوية كيان الأسرة، في إنشاء معرفي وافر في صالون ثلة فراندة مدام كنعان، حول الرجل والمراة وحقيقة القوامة، والزواج والطلاق، والبيت والأسرة، لكنها هي المرأة تسقي شجرة وارفة، وبتعبير الرواية: “المرأة مخلوق من خلاصة الحنان والرقة”.
وبقي أن نقول إن الرواية جزلة مكتوبة بلغة راقية منعمة بعصير الفكر ورقة التعبير ومتانته، مشبعة بالوقفات الوصفية والحوارية المنداة بطعام الروح، وثمار أشجار وارفة.