المقالة

شعوب مكتئبة

 

تصاب الشعوب بالغباء كما يصاب الأفراد .. وتستحوذ عليها الميول الانتحارية شأنها شأن المريض النفسي المصاب بالاكتئاب..

هذا ما تثبته المشاهدة والواقع ، حتى وإن كانت ترفضه نظريات ومدارس علوم الاجتماع والسياسة  التي تنزل الشعب منازل أسطورية وتتعامل معه كمفهوم تجريدي لا ينطبق عليه ما ينطبق على الكائنات العاقلة الحية ..ولكن هل حقا يمكن وصف الشعب بالكائن العاقل ؟

المشاهدة والواقع أثبتا أيضا أن ثمة شعوب مغرمة بالعودة الدائمة إلى خانة الصفر – كما يعبر الراحل المعلم يوسف القويري في إحدى مقالاته –

هكذا ببساطة تشق طريقا في الصخر أو في البحر وتبذل التضحيات في سبيله ، ثم ببساطة أيضا وبإرادتها الحرة أو المرتهنة تعود وتردمه ..

تبني بنيانا شاهقا يطاول عنان السماء وقبل أن تنتهي منه تحفر تحت أساساته حتى ينقض ويستوي عاليه بسافله…. بلا أسباب موضوعية أو مبررات منطقية ، سوى شهوتها القاتلة العارمة في العودة الغبية إلى عذرية البدايات ..حتى وإن بدا الأمر في ظاهره إنتقاما أو تشفيا أو محاولة للتخلص من ميراث ورموز مرحلة ماضية ..

صحيح أن الشعوب ليست كيانات قائمة بذاتها ، لها جسد واحد وعقل واحد ، فهي تتكون من إعداد متناهية من أفراد أو مواطنين لكل منهم وجوده المادي وعقله المستقل ..لكن في النهاية ينطبق عليها في علاقتها بنخبها ، ما ينطبق على العلاقة بين جسد الإنسان وعقله من قوانين وقواعد وإكراهات ..فإذا اختل العقل إختل توازن الجسد واضطربت سائر أعضائه وأجزائه وطالها الأذى والمرض ، لأن آلية تجنب الضرر وجلب المنفعة وهي العقل معطلة ومحيدة..

هذا المجاز الحسي المرسل يمكن أن ينطبق على الشعب الليبي وعقله أو نخبه وقادته وصناع الرأي فيه ..

ودون الخوض في تفاصيل لحظة إشكالية ، مازالت ارتداداتها تتفاعل وتزداد مأساوية كلحظة السابع عشر من فبراير2011 م ، إذ سيستمر الجدل قائما لسنوات عديدة قادمة حول شرعيتها التاريخية ومقدار ما عكسته من الإرادة الوطنية المستقلة  ، مقابل الإرادة الأجنبية التي شاركت في صنع انتصارها ..ثمة  هناك لحظات وتفاصيل قد تكون هامشية بالمفهوم المدرسي للتاريخ ، ولكنها تتوفر على بلاغة فائضة لتشييد البيان وإقامة البرهان  لإثبات الميول الانتحارية لدى فئات واسعة من أبناء شعبنا من خلال التخريب الممنهج لمقدرات البلاد النفطية والمائية وتدمير المرافق والممتلكات العامة في طرابلس وسرت وبنغازي ووو ومدن أخرى ..

ثمة هناك نفور مطلق وتضاد صارخ ، بين التركيبة النفسية والذهنية لهذه الفئات ، وبين الاستقرار والعمران ومراكمة التجربة وحكمة العصور مدفوعة الثمن ..فكل حقبة تجب ماقبلها وتمسح آثارها من الوجود ..من مرحلة النضال والكفاح السياسي لإفتكاك استقلال ليبيا والدفاع عن وحدة أراضيها وصولا إلى سديم فبراير العدمي ، مرورا بالملكية والجمهورية والجماهيرية ، تتراصف الأزمنة  الوطنية أفقيا كأسنان المشط ، وكأن المحور الصادي ” العمودي” محض وهم في إحداثيات التاريخ الليبي ..

دائرة جهنمية مقفلة لاتنتهي حتى تبدأ من جديد كلعنة سيزيفية خالدة أنزلتها آلهة قاسية غليظة على رؤوس الأجيال الليبية جيلا بعد جيل ..

مع ذلك علينا أن نقر أن الميول الإنتحارية والرغبة القاهرة في العودة إلى خانة الصفر ، لدى الجماعات وحتى الشعوب ، لاتظهر نتيجة استعداد جيني يصيب أعراق وأجناس بعينها أو نتيجة خلل هرموني يسبب اكتئابا مزمنا كما يحدث مع الأفراد .. لكن نتيجة خلل في وظيفة المثقف وفشل المشروع الثقافي.. والانكأ ، إهتراء البنية الثقافية للأمة كما تحدث عنها الدكتور محمد عابد الجابري في مشروعه التحليلي النقدي المهم ” نقد العقل العربي”..

سئل الشاعر والمفكر العربي الكبير” أدونيس” ذات لقاء صحفي عام 2011 م عن رأيه في ما سمي حينها ثورات الربيع العربي ، فقال بوضوح ثاقب لا يؤتاه إلا ذي بصيرة : “مانحتاجه حقا ليس ثورة في الشارع بل ثورة في العقل .. ”

إن الشعوب المكتئبة هي شعوب مخذولة من قبل مثقفيها ونخبها ..عاندها الحظ و الموهبة لتصنع من عقول انبيائها وقادتها وشعرائها الحالمين سلما يرفعها إلى مستقبلها وطموحاتها وتطلعاتها .

________________________

نشر بموقع الأيام.

مقالات ذات علاقة

كاميليا المهدي.. نبتت في بنغازي وأزهرت في سان بطرسبرغ

أحلام المهدي

أدب وحب*

المشرف العام

عن الفن التشكيلي والشعر

ناصر سالم المقرحي

اترك تعليق