من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
قصة

موت مباغت

يقوم موقع بلد الطيوب بالتنسيق مع إدارة المسابقة، بنشر المشاركات الفائزة في جائزة القارئ للكتابة الإبداعية، في دورتها الأولى.

الترتيب الثالث: قصة (موت مباغت)، للقاصة: فهيمة الشريف.

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

ليبيا استيقظ فزعا من نومه كمن لدغته عقرب، ممسكا على منطقة بطنه يتلوى ويتأوه من الوجع، مما انتشل زوجه النائمة قربه من أحلامها الهادئة، تسائله في فزع واضطراب:

– شريف.. شريف ما بك؟ ماذا دهاك؟ إهدأ شريف.. شريف شريف. اشرب الماء.

وسط صراخه وآهاته المتألمة جاء صوته منازعا للهدوء:

– ﻻ أدري، سكاكين الوجع تقطعني.. آه كبدي.. معدتي.. آه أمعائي.. ﻻ أعرف، كل أحشائي ينهشها الألم ويقسمها أشطارا.. آه.. آه.. آه أنجديني أرجوك. حاولت الزوجة تهدئة آلامه بكوب “يانسون” وهي تقول لنفسها: – إن الطبيب لن يأت في ساعة متأخرة من الليل للكشف عليه.

ربكة عارمة بالبيت أحدثتها صرخاته التي لم يوقف تواصلها “اليانسون”، وﻻ غيره من الأعشاب الطبيعية، مما جعل طفليه يقفا بباب الغرفة، ينظران لأبويهما بعينين حائرتين مستفهمين.. ما سبب الصراخ؟.

حاول الأب النهوض من مكانه، لكنه سقط فور وقوفه وهو يصيح بين أوجاعه:

– الطبيب، آه أحشائي.. اتصلي بالإسعاف.. آآآه ب ب ببببببسررررررعة.

في المستشفى.. كان شريف يرقد على السرير، والطبيب يكشف عليه ويطمئنه حينا، ويسأله وزوجه حينا آخر بعض الأسئلة، ثم ختم كشفه بقوله:

– ﻻ تقلق سيد شريف، ستكون بخير بعد هذا المهدئ، وستطمئن أكثر بعد بضع فحوصات وصور وتحاليل، وإن شاء الله خيرا.

بعد لحظات من مغادرة الطبيب شعر شريف بقليل من الراحة، وارتاحت الزوجة على الكرسي متنفسة الصعداء لهدوء زوجها، وازدادت ارتياحا حين رأت الممرضات يأخذن الإجراءات المطلوبة وتلك الرعاية والعناية التي أحيطت به.

مع سويعات الفجر الأولى، انتبهت الزوجة لآهة قوية اضطرب لها فؤادها كاضطراب جسده على السرير، وبلمح البصر ركضت تطلب الطبيب الذي قام بدوره هو الآخر، وطمأنهم بأنها مجرد وخزات وسترحل سريعا بعد حقنها بمصل يقتلها. مرت الساعات الصباحية هادئة كأن شيئا لم يحدث أبدا، شعر شريف خلالها بأنه عاد لحياته الأولى وقد انبسطت أساريره ووجهه منيرا كالبدر في ليلة تمامه، يبتسم ويلاعب طفليه اللذين جاءا لزيارته مع جدهما.

بعد منتصف النهار، مرّ الطبيب بشريف واطمئن على حالته:

– يمكنك الخروج من المستشفى اليوم، فصحتك تبشر بأنك صرت أفضل. – ماذا كان معي أيها الطبيب؟

– اطمئن، مجرد التهابات وسنتأكد أكثر بظهور نتائج التحاليل والصور.

– متى تظهر النتائج؟

– ﻻ تقلق تحتاج لأسبوع، وعليك أن تراجعني بعد هذه المدة.

– أرجو أن يكون خيرا..

ابتسم الطبيب بوجه شريف مخففا من وطأة قلقه:

– صحتك الآن تبشر بالخير، ووجهك منير، يمكنك الخروج اليوم. مرت ثلاثة أيام من الأسبوع بعد خروجه من المستشفى بسلام، لم يشعر شريف خلالها وجعا، ولم يشك ألما، وﻻ يعرف الداء له سبيلا، فكان يذهب للتنزه بعد العودة من الشركة مصطحبا زوجته وطفليه إلى البحر مرة وللتسوق مرة ولنوادي الترفيه مرات عديدة.

خلال هذه الأيام كان للسعادة طعم كطعم البوظة أو الشوكوﻻته السويسرية الفاخرة، لم تتذوق الأسرة مثيله من قبل، رغم الغصص التي كانت تنتاب شريف بخصوص نتيجة التحاليل إﻻ أنه لم يربك أحدا، مداريا لها بإظهار سعادته ونشوته حين يكون مع أسرته. كان عائدا لبيته وهو يفكر بإقامة رحلة مع الأسرة، فغدا يوم عطلة، ضرب المقود بيده وهو يقول:

– آه.. غدا عطلة، يا إلهي إننا في نهاية الأسبوع.

ودون قصد منه شد على الفرامل بقوة مما أربك الحركة بالطريق، وكاد أن يصطدم بالسيارة التي أمامه لكنه انتبه بآخر لحظة، وشعر بصرخة هوجاء تريد الخروج وهو يمنعها. وصل البيت وأنفاسه تسحب منه انسحابا، ومن غير أن يحادث أحدا؛ توجه بسرعة لغرفته، ارتمى على السرير محاوﻻ تناسي الوجع النامي ببطنه، بعد تقلبات وآهات عدة غرق في النوم. لم تشأ مريم إيقاظه على الغذاء، فقد أدركت أن الأوجاع عاودته، والأمصال لم تجد نفعا. طل المساء بظلاله الهادئة على أكتاف الكون، مصافحا النفوس بسكينته، استيقظ شريف صارخا:

– يا رب ارحمني.. آه أحشائي رحمتك.

تسمّرت الزوجة أمام الصرخات المقطعة لكبدها، ولم تدر ما تفعل تجاه نوبات المرض المفجعة.

– أحشائي يا مريم تفرم، الحقيني بالطبيب أرجوك. تزاحمت عينيه بالدموع، وأوجاعه تبدد أوردة الأمل، لأول مرة يكون في موقفه الضعيف، فهو كان مثالا للشجاعة والنبل في عيون أسرته، صحيح أن النفس البشرية تمر بمواقف قوة وضعف، أما في المرض فقط يبين ضعفها الحقيقي وأنها بحاجة لأي يد ترحمها وتعينها، وإن كانت يد عدو فما بالك بيد القريب والحبيب. في لمح البصر كان الطبيب عند شريف يطببه:

– لقد حقنته بمهدئ، فلا تحاولي إيقاظه.

– ما سبب الوجع أيها الطبيب، أرجوك أخبرني؟

– اطمئني، كل أمر المسلم خيرا

– أنت تخفي عني أمر عظيم، استحلفك بالله أن تخبرني.

– في الحقيقة زوجك لديه مرض خطير.

– خطير.. ما هو أرجوك؟

– لقد كان لدي شك في مرضه، واليوم ظهرا وصلت نتائج الفحص المعملي وأُكدت شكوكي.

مسحت دموعها الساقطة:

– أرجوك يا طبيب، ألاّ تخفي عني شيئا، أريد معرفة كل شيء كي استطيع التخفيف عنه، وكيفية التعامل معه، أرجوك. وقع الطبيب في حيرة وتردد فحاول تبسيط الأمر لها:

– ﻻ تقلقي، لو نقل للمستشفى سيلقى العناية الكافية أفضل من البيت رغم أنه ليس بمقدورنا إيقاف مرضه أو شفاؤه؛ لأن الورم -بصراحة- مستفحل بأحشائه وفي مرحلته الأخيرة.

نزل الخبر كالصاعقة على مسمع مريم، فظلت فاغرة ودموعها تتساقط بغزارة..

– ماذا؟ ورم!.. من أين جاءه؟ كيف؟ ﻻﻻ.. ورم!.. أنت تكذب، نتائجكم كاذبة، ليس متورما. تفهّم الطبيب موقفها العصيب، حاول تهدئتها ببضع كلمات:

– أنت سيدة فاضلة، وهذا قضاء الله وقدره، يريد امتحان صبرك، يجب أن تكوني جَلِدة متماسكة لكي تؤازري زوجك في مصابه، كما أخبرتك ﻻبد من نقله للمستشفى فهذا أفضل.. ثم تركها وانصرف.

بقت مريم في مكانها بالصالة ذاهلة بين بكاء ورجاء، تدعو ربها أن يرحمها ويرحم زوجها، لم تستطع تصديق ما قاله الطبيب، وﻻ أن يقبلها عقلها، فاعتبرتها مجرد مزحة من مزح الأطباء ستنجلي مع إشراقة الصباح. ظلت طوال الليل تبكي حينا، وأحيانا تتأرجح أفكارها بين واقع وخيال. – شريف لم يشك بدائه من قبل إﻻ مرة أو مرتين قبل أربع أشهر.

نعم ما زلت أتذكر يومها عاد من عمله مشتكيا مغصا قويا، وأتذكر جيدا أنني صنعت له شراب “اليانسون” بالعسل، بعده تحسن، أيعقل أن تكون خلاياه الورمية سكنت والآن استفاقت من سباتها؟! جاء الرد سريعا من فكر موغل في عدم التصديق:

– ﻻ.. ﻻ يعقل، فوزنه مازال طبيعيا، ونضارته منذ تلك الشكاوى أراها أجمل وأغض من ذي قبل، مستحيل أن يكون ورما؛ فيقيني بربي يجعلني ﻻ أصدق، بلى ليس ورما، فأنا أدرى بما مر بزوجي، إنه مجرّد وجع طفيف وسيزول ببضع أدوية قوية.

أنفقت الهزيع الأخير من الليل في صلاة ودعاء ودموع كالأمطار تهطل على السجاد.

في الصباح كانت مريم تحاول إخفاء حزنها متصنعة الابتسام بوجه شريف، وفي داخلها براكين من الألم والأسى، تفرغها عينيها في صورة دمع سخي حين تكون لوحدها. حالة شريف هذا الصباح مستقرة لحد ما وهي خائفة أن تعاود الأوجاع هجومها بأية لحظة فتقف عاجزة عن مساعدته ويزيد عذابها.

جرس الباب يرن، صوت طفليها:

– جدي.. جدي نريد الحلوى.. الجد يمازحهما ويلاعبهما بينما هي أسرعت بمسح دموعها وسارت تستقبل والدها:

– أهلا.. كيف حالك يا والدي؟.

– نحمد الله.. كيف هو شريف اليوم؟ لم أره يبدو أنه خارج المنزل.

– شريف نائم بالغرفة فقد تعب البارحة.

– هل أحضرتِ له الطبيب؟ لم تتمالك مريم نفسها، وسبحت في دموعها وهي ترتمي بحضنه:

– إنه ليس مرضا عاديا يا أبي، الورم ينهش أحشاؤه ويجب نقله للمستشفى، الورم سيقتله يا والدي. حاول الأب أن يكون متجلدا مواسيا وبين ضلوعه جمر اللوعة يحرق أنفاسه، وبمقلتيه تضج آلاف الدموع تطلب السقوط وهو يمنعها:

– ﻻ حول وﻻ قوة آﻻ بالله العلي العظيم. كيف حدث هذا بنيتي، بالأمس فقط كانت حالته ممتازة؟ إهدئي، فيجب علينا ألا نشعره بشيء كي ﻻ تسوء حالته. هزت رأسها موافقة على قوله:

– حسنا، دعيني أراه الآن.

– أهلا بني كيف حالك؟

– أهلا عمي.. أشعر بأحشائي تتقطع رغم الدواء الذي أعطانيه الطبيب، الوجع ﻻ يكترث بالأدوية، يبدو يا عم أن مفعوله بدأ يزول والأوجاع تنشب أظفارها من جديد.

بأسلوب هادئ لطيف خازنا لمشاعر الحزن:

– بني يجب أن تذهب معي للمستشفى، جهز نفسك هيا.

– ﻻ يا عمي، لن يفعل الأطباء لي أكثر مما فعلوا، سأكون بخير عما قريب.

– ﻻ بني، قم الآن معي ولنذهب كي نطمئن أكثر، ثم ﻻ تقنط من رحمة الله لعلك تجد علاجا أفضل هذه المرة، هيا من أجلي أرجوك. بعد برهة قصيرة كان شريف وزوجته ووالدها بالمستشفى. شريف بالغرفة ومريم ووالدها بالممر مع الطبيب:

– حسنا فعلت بإحضاره وأطمئنك بأنه سيكون في أيد أمينة راعية له ولحالته حتى… ثم سكت ولم يستطع إتمام جملته

– حتى يسلم الروح لباريها.. أليس كذلك؟. قالتها ودموع تنهمر على خديها. دخلوا على شريف الغرفة والذي سرعان ما بادر الطبيب بقوله:

– أيها الطبيب، لم تخبرني ما سبب الأوجاع التي تأتيني؟

– ﻻ تخف، أمرك بسيط، ستبقى بضع أيام هنا ثم تخرج.

– لمَ تبك يا مريم، وأنت يا عم؟ أصدقني القول أيها الطبيب. ارتبك الجميع ولم يستطع أحدا منهم التفوه بكلمة واحدة، وظلوا ينظرون إليه ساهمين.

– أجزم بأن مرضي خطير وأنتم تخفون عني الحقيقة. أنقذهما الطبيب من الموقف المحرج قائلا:

– هما يبكيان لأنك ستبقى برفقتنا ريثما تتحسن؛ فالعائلة ﻻ تقوى على فراقك.

– أجل، ﻻ أطيق فراقك يا زوجي العزيز. قالتها وهي تستشعر حرارة الفراق الدائم.

– لكنك ستأتين كل يوم لزيارتي.

– نعم بني، سأكون برفقتها يوميا للاطمئنان عنك أعدك بذلك.

– هيا الآن، دعوه يستريح كي يأخذ الدواء مفعوله. نم الآن. عاد الجد وابنته للمنزل كسيري النفس يملأهما الشجن والأسى، بينما بقي شريف ضيفا جديدا بقسم الأورام تحت تأثير المخدر غارقا في نوم عميق، كما نامت أوجاعه عن ثورانها. كان بالغرفة التي تؤويه شاب بالعقد الثالث من عمره، ورجل مسن في السبعين يتوجعان بين الفينة والفينة من أورامهما. لم تتمكن مريم من النوم ليلتها وظلت ساهرة تعيد ذكريات حياتها مع رفيق الدرب؛ فتغوص حينا مع مواقف سعيدة وأحيانا أخرى تجثم صور الوداع وشبح الموت على أنفاسها، فتسيل أدمعها مخففة وطأة الرحيل عنها، أما الجد فظل يصلي ويبتهل لربه بأن يلهم ابنته الصبر والعزاء، ويخفف عن صهره الأوجاع وأن يجد هو راحة من همومه. الساعات تمر زاحفة بعضها على بعض، استيقظ شريف مرعوبا على صرخات وأنات الرجل المسن يصارع سكرات الموت، الطبيب يحاول إنقاذ الرجل لكن الموت ينبش مخالبه خاطفا الروح بعد معاناة طويلة مع السرطان. لم يفهم شريف شيئا مما يجري حوله؛ فالمخدر ما يزال تأثيره باديا عليه، عيناه تريان جسدا يغطى بقماش أبيض على سرير يسحب خارج الغرفة، وأذنيه تسمعان “ربنا يرحمه”. بعد فترة وجيزة استطاع شريف أن يستعيد وعيه كاملا، تجول بناظريه في الغرفة، كانت ناصعة البياض في حوائطها وأسرتها، حتى أضواؤها، أثناء تجواله ببصره وقعت عينيه على ذاك الشاب الباكي النزيل معه بذات الغرفة، ظل يرنو إليه متسائلا عن سبب بكائه: – لماذا الجميع اليوم يبكي؟ أين الرجل المسن الذي كان هنا؟ رجع بذاكرته للوراء دون أن يترك فرصة لأي إجابة.. آه… لقد صرخ ثم سجي بعدها، سحب خارجا.. وربنا يرحمه.. ماذا يعني هذا أيها الشاب؟ نظر إليه الشاب وهو يمسح دموعه – كلنا سنسير على نفس الطريق؛ فمن يدخل هذا القسم نهايته القبر. فغر شريف فاه دهشا مما يسمع: – ما الذي تقوله؟ أي قِسم؟ قبر!.. آه أحشائي تلدغ بعضها، يبدو أن الوجع عاودني. – ما دمت حيا وهنا سيعود الوجع حتى يفنيك. – حتى يفنيني!. أي وجع هذا كي تكن له قسوة الفناء؟ – أﻻ تعلم أن مصير كل متوجعي الأورام هو الموت بعد مكابدة الويلات!، هكذا قدرنا حتى يرحمنا الله برحمته. اتسعت عينا شريف عن آخرهما غير اتسعت عينا شريف عن آخرهما غير مصدق:

– الأورام.. الأورام أأنا مصاب بالورم؟! ﻻ.. ﻻ.. مستحيل.

– كلنا لم نصدق بادئ الأمر مثلك لكننا في النهاية سلمنا بالواقع وتقبلنا قدرنا.

– ﻻ..ﻻ.. أنت تهزأ بي، ﻻ أصدقك، فليس بي ورم، بل مرض بسيط، أحشائي آه. ألم ﻻ يحتمل.. آه.. آه. بسرعة البرق كان الطبيب مع شريف محاوﻻ تهدئته وحقنه، وشريف يرفض مطالبا الطبيب بقول الحقيقة، لم يستطع الطبيب التملص من مصارحته وقول الحقيقة له؛ لتبدأ رحلة معاناة أخرى بحياة شريف الذي راح يثور ويصرخ كالثور الهائج غير متقبل ما سمعه:

– ﻻ.. ﻻ.. ﻻ أريد حقن… ﻻ أريد أحد.. أريد العودة للبيت.. ﻻ تكذب.. كلكم تكذبون.. دعوني أموت.. آه أمعائي. بعد مصارعات عنيفة تمكن الطبيب من حقنه بالمسكن لتتهاوى أنفاسه الداهشة المجهدة على السرير، يئن بصوت خفيف يقطع أكباد سامعيه، كان منظره كطائر ذبيح أسقطه الوجع بين اللاحياة واللاموت، ليس له قدرة في معاندة القدر حتى وإن علا صراخه أو أن أنات خفاف، فالقدر هو القدر وليس منه فرار. في الصباح كانت العائلة جالسة حول شريف، ضم طفليه إلى صدره بقوة وخر يبكي حتى جعلهما يبكيان من قوة الضغط

– لعلي ﻻ أراكما بعد اليوم. من يدري فالموت بات قريبا؟ بكت مريم بعد تصنع مضني للتفاؤل والابتسام بوجهه؛ فأرادت أن تتكلم فقاطعها شريف بقوله:

– لقد عرفت حقيقة مرضي، فاجعة ﻻ يمكنني إيقافها، حتى بالدموع. استحالت الغرفة لمأتم وكل واحد يعزي نفسه:

– ﻻ أريد البقاء بهذا المكان أرجوك يا عم عد بي للبيت، أريد الموت بينكم. – هدئ من روعك بني، سيحدث ما تريد.

دخل الممرض عليهم:

– لو سمحتم موعد الزيارة انتهى، أرجوكم أن تتركوه يستريح. ودعته العائلة بمدامع حزينة وقلوب وجلة أن يكون هذا آخر لقاء. انطوى شريف على نفسه مفكرا في عالم ليس بعالمه، عالم مجهول يرى نفسه فيه وحيدا، ظلمة تكتنفه من كل جانب، أينما تلفت ﻻ يجد سوى العتمة، أغمض عينيه؛ لتحيط العتمة به واقعا رابطا عتمته الواقعية بتلك الخيالية، منقطعا عن رفيقه وأسرته، لوحده مستطعما مرارة الفراق، مستوحشا أرواحا سيتركها ومشتاقا للقاء أرواح غابت عنه منذ زمن، باحثا عنها بين ثنايا ذاك السواد ومستشعرا حرارة قربها، حرارة اقشعرت لها مشاعره، وأزفرت خلاياه شكاة ملتهبة، اقشعرت لها مسطحات جلده الصفراء. فتح عينيه كالناظر للشمس من دون واقٍ، ثم أغلقهما، وبجفنيه جاشت ألف دمعة، قاسمها سرا ألا تنزل؛ فخانته رغم حبسه لها قسرا، وسالت على وجنتيه الساخنتين؛ لتزيدهما سخونة، ولسانه يلعق شفتيه الجافتين عله يغير طعم المرار أو أن يقع على طرفه قطيرات من دمعه المالح، جسده يرتعش حينا وحينا جبينه يصبّب عرقا، الحمى داهمت كل شيء فيه، اغتصبت أجزائه، أنفاسه، قلبه، حركاته، لسانه، عقله وحتى أفكاره، سرقت ابتسامته ودموعه، الحمى سيطرت حتى على الفرش واللحاف، أشباحا من عالم مختلف تهاجمه، تراءت له هياكل تسير في الفراغ مرتدية معاطف بيضاء تمد أيديها نحوه، تسحبه، تنادي باسمه:

– شريف.. شريف.. شريف.. شريف تردد صدى اسمه مرارا في أذنيه، أصم سمعه، لكنه الصدى مازال يتردد والهياكل تجذبه. صرخ بهم:

– ماذا تريدون مني؟ إلى أين تذهبون بي؟. ضربت أشباحه بأسئلته عرض الحائط وعادت تناديه مجددا وتجذبه معها؛ فأعاد التساؤل بصراخ أعنف:

– شريف.. شريف.. شريف.. شريف.. هيا تعال نحن مشتاقين لك. الحمى تقذفه في بحور خيالية، بحور ما وراء الموت، بلا شطآن، لك أن تدرك ما تفعله الحمى في أجساد المرضى، وما تفعله بالعقل والفكر أسوأ من هلوسة وخيال، حتى أن شريف خيل له أن الطبيب ومساعدوه أشباحا من العالم الآخر تمثلت له بصورة أشخاص قريبين ماتوا واليوم جاؤوا ليأخذوه معهم. بقي الطبيب مع شريف يخفض حرارته، وشريف ﻻ يعي ما يدور حوله صارخا باسم أمه تارة، وتارة بمريم، وجدّه، وﻻ أريد الموت، وسأقتل الورم، وهكذا من عبارات غير مفهومة، حتى غرق في نوم عميق. لم تهنأ مريم بالعيش بعد دخول زوجها المستشفى، وظلت روحها مضطربة ومترقبة نبأ وفاته في أي لحظة، الخوف بات هو الهاجس الوحيد الذي يقتنصها بكل الأوقات، الحزن عشش بأركانها، انطفأت ابتساماتها الحقيقية وانسلت بين الشفتين ابتسامة ركيكة كريهة مملوءة بالتصنع، توزعها عندما تكون أمام طفليها ومن ﻻ تعرفه، وكذا حياتها انشطرت بين قسم الأورام وبيتها، أهملت زياراتها الخاصة والاهتمام بمظهرها، حتى أحلامها لم تسلم، تمتد لها خراطيم الفاجعة وتشفط منها السعادة وبياضها وتحيلها إلى كوابيس وأوهام تطرد عن نفسها النوم الذي بالكاد تحصل عليه. هكذا كان حال الجد أيضا، يشعر بحرارة الموقف ويحاول أن يظهر دوما بصورة الصبور، فهو المتنفس الوحيد لمريم الذي يخفف عنها ما تجد من لوعة، أما ما يكنه صدره من أحزان فأكبر من أن يحتمله جبل بحاله، لوﻻ رجاحة عقله وإيمانه لتهاوى أمام حزنه الدفين. ساحة شاسعة تسوّرها من جهة؛ بعض الحجارة، مصفوفة بطريقة متناسقة فوق بعضها، ومن الجهة الأخرى سيّجتها شجيرات الصنوبر الكبيرة المتشابكة الأغصان. بركن المدخل إلى اليمين ثمة جمع غفير من الناس اصطف بعضه خلف بعض يقودهم شيخ جليل هيئته تدل بأنه ذو حكمة ووقار، جميعهم كانوا رافعي الأيدي، يدعون لصاحب النعش الذي أمامهم، اقترب الشيخ من النعش وكشف عن وجه الميت:

– أودّعك للمرة الأخيرة بني، رحمك الله.. ثم قبل جبينه ومسح دموعه وأعاد النعش كسابقه، أعطاهم الإشارة بالدفن. سقط الكأس الممتلئ بالماء من يد عاملة النظافة المرتعشة على الأرض فتهشم حين دوت صرخة شريف بالغرفة:

– ﻻ.. ﻻ تحملوني.. ﻻ أريد أن أموت الآن.. ﻻ.. ﻻ أرجوكم.. ظل يردد جمله كالتائه بين الحقيقة والحلم، ولم ينقذه من متاهته إﻻ حديث الطبيب له:

– شريف، ﻻ تخف، نحن معك، لا أحد يجرؤ على حملك وﻻ نقلك، عليك بالهدوء. بكى شريف كثيرا، لم يستطع الطبيب إيقاف دمعه، لعله يجد في بكائه راحة رغم الألم الذي يعاوده من وقت لآخر لم يهتم له؛ فباله مشغول بالكوابيس بنهاية ﻻ يعرف متى تحين. أسبوع بأكمله مرّ على شريف وهو بين جدران قسم الأورام، بساعاته ودقائقه، قاسمته نفسه بين أوجاع وألم وكوابيس تلاحقه مطبوعة بالموت، وخوفه الهائل منه ومن المجهول. أسبوع انقلب فيه مزاجه، تدهورت حالته النفسية بين قلق وخوف وكآبة، هلوسة ووسواس، كما لم تقتصر حالته الصحية على الاضطراب، فاستحالت صورته أشبه بشبح عابر، تضاءل وزنه وتراجع، فما عاد ذاك الشاب بعضلاته المفتولة وﻻ ذاك الكرش متوسط الانتفاخ، بل من يراه يظنه عودا باليا قطع من شجرة يبست منذ سنوات، انعدم ذاك الجمال الطافي بوجهه، وأضحت الحمرة التي به صفرة كاصفرار الآس عند غروبها، غاصت تلك البؤرتان البنيتان بعد أن كانتا تتلألأن ببريقهما الساحر كتلألؤ النجم في كبد السماء، أما اليوم صارتا مرتعا للحزن والدموع. ليس شريف فقط من تدهور حاله، كذلك عائلته أصبحت متوترة، مفجوعة، كلهم في حلوقهم غصص تخنقهم وعبرات تأسرهم، الأعصاب منفلتة، ولوعة تحرق الأكباد، وقلوب اختزلت الألم من كثرة الوجع والإحساس بدنو الرحيل، ومآقي كادت أن ترمد وهي بأيام الشتاء، أنفاس حمّلت فوق طاقتها بأصناف جمة من الحالات النفسية والمشاعر المختلطة. – ماذا تفعل يا عم بهذا المكان؟

– كما ترى أحفر.

– بئر بهذا المكان المقفر والموحش.

– ﻻ بني، بل قبر.. قبر.. قبر. – قبر.. قبر لمن؟!.

– لشريف نجم.. شريف.. شريف.. شريف. هل تقصد أنني قد مت؟!

– نعم.. نعم أنت مت.. مت.. مت الساعة الرابعة فجرا حينما استيقظ مفزوعا صارخا.

– مت!.. ﻻ.. ﻻ.. ﻻ أريد أن أموت.. ﻻ أريد الموت.. أريد العودة للبيت.. آه بطني.. الألم يقطعني لأجزاء.. ابتعد أيها الموت.. آه.. آه. ﻻ شيء كالعادة، تغرز الحقنة نابها بجلده لتسكت عطش الألم في أحشائه. الموت.. ظل هاجس الموت هو المسيطر على ذاته، المكبّل لأنفاسه ولأفكاره، ﻻ شيء يفكر به سواه، ففكرة الموت تبلورت بعقله والخوف منه صار معضلة أخرى زادته أوجاعا وضاعفت من حدة الألم، والخوف من الموت هو الموت بحد ذاته ولكنه موت بطيء جدا يتجرعه دون أن يدري، هكذا هي النفس البشرية تظهر ضعفها في الخوف والموت والمرض، وتعترف بعجزها في هذه الحالات، أما في غيرها فالجبروت سيد الموقف، وليس ثمة سواه وﻻ تعترف بالخطأ؛ فتشتهي ارتكاب المعاصي وتبتعد عن خالقها أمياﻻ شاسعة، وفي حال العجز طرق بابها تكن تلك الأميال قيد أنملة فقط، ليذهب السوء وتعود النفس لطبيعة عيشها وكأن شيئا لم يكن. شبح الموت بكل حين يطل على شريف من كل مكان من الشباك، النور، اللحاف، يراه يتقافز من عيني النزيل معه بالغرفة؛ ليلتهمه في بطن قبر مظلم، في وجه الطبيب يرى الموت، وفي إبره الساخرة من جلده، في كل ركن وكل فراغ أصبح الموت محدقا بشريف ينتظر الإذن لقبض روحه أو أن يستلها كالشعرة من العجين.

– سأكتب تقرير الوفاة وأنتم أدخلوه للمغسلة.. قالها الطبيب المختص بالأورام بأسف شديد.

دخل الطبيب مكتبه مفتشا بالملفات المكومة بالدرج، بعد تفتيش طويل لمعت عينيه فرحا، أخذ الملف المطلوب وعاد لمكتب الطبيب العام، مكث عنده طويلا وهما يتناقشان، ثم خرج بملف آخر بيده الأخرى، جلس بمكتبه، فحص أوراق الملفين كثيرا وعلامات الأسف والغضب تعلو ملامحه، خرج من المكتب وطلب من الممرضات إجراء بعض الصور والفحوص الفورية على شريف، ثم ذهب ليكتب تقرير الوفاة. في صباح اليوم التالي كانت مريم ووالدها وطفليها واقفين بالغرفة ذاهلين متفاجئين من سرير شريف خال، أيعقل أن ما يدور بخلدهم وما هم وجلون منه قد وقع ونقل للمغسلة؟!. صرخت مريم بكل قواها:

– شريف.. شريف ليس هكذا بلا وداع.. شريف لمن تركتنا بهذه السرعة؟ ظلت تسح عبراتها وتبكي، وطفليها لم يفهما شيئا، لكنهما بكيا مثلها، ووالدها لم يستطع فعل شيء سوى تهدئتها مرة والبكاء مرارا. بعد لحظات من الصدمة دخل الممرض والطبيب يسوقون سريرا متحركا عليه شريف، حينما رأته مريم ركضت وكادت أن تلقي بنفسها على السرير لوﻻ أن الطبيب ومعاونيه جزروها، فتوقفت ثم ألقت بنفسها في حضن أبيها منتحبة.

– حرمة الأموات يجب أن تحترم يا ابنتي.

– زوجي، إنه زوجي، أريد وداعه قبل أن يوارى التراب. بادرهما الطبيب بقوله:

– صحيح من حقكم أن تعلموا أمرا مهما وهو أن شريف نجم لم يمت بل كان تحت العملية، لقد كان معه تعقد بالأمعاء وقد تم علاجه، وما حدث كان مجرد خطأ طفيف في تشابه اسمه مع مريض آخر مصاب بالورم، وقد توفي البارحة، وعندما تم مراجعة القسم العام اتضح أن الفحوص انتقلت بالخطأ لزوجك ووضعت بملفه. ألجمت الدهشة فاهما، وظلا ينقلان نظرهما بين الطبيب وشريف، ونفسيهما دون أن ينطقا بحرف أو يعبرا عما يعتريهما من مشاعر، فقد تداخلت كلها ببعض، فبقي الصمت أفضل تعبير. قطع الصمت صوت الطبيب:

– أعتذر نيابة عن زملائي بقسم التحاليل والأشعة عن الخطأ الغير مقصود. قبل أن يخرج، استوقفته مريم باكية متسائلة:

– من يدفع ثمن الوجع الذي توجعناه؟. والخوف الذي عشناه؟. والألم الذي كابدناه؟ والصحة التي انهارت؟. هل بإمكان الاعتذار أن يرد كل الذي ضاع؟ هز الطبيب كتفيه مجيبا ﻻ ثم انصرف.

مقالات ذات علاقة

قصة قصيرة

مريم الأحرش

قناديل

محمد المسلاتي

أنا وشيخــــتي

عائشة إبراهيم

اترك تعليق