ريشة - تشكيل.
تشكيل

الفن من أجل المتعة 

معلوما أن للفن فوائد جمة , فعلاوة على أنه وسيلة للتوثيق والحفظ كونه يتماس مع الواقع كثيرا , هو طريقة لرفع مستوى الوعي لدى المتلقي وحث على التغيير للأفضل , وكما أنهُ فرصة لإطلاق العنان للخيال حتى يبدع , هو حقل من حقول المعرفة ومضمار للممارسة المنهجية ومساحة للتواصل الإنساني وفرصة لترسيخ قيم التسامح والمحبة والتعاون والحوار ما بين الثقافات المختلفة وحيلة للتقارب وتذويب الخلافات.

نضع كل هذا جانباً ونلتفت إلى مهمة أولية للفن إذا ما خلا منها لا يعد فناً ولا يمكن الركون إليه كنشاط جذاب ومشوق , عن الفن بصفة عامة نتحدث عن الموسيقى وعن الدراما وعن السينما وعن الرقص وعن المسرح وعن الألعاب الرياضية كذلك إذا ما اعتبرنا أنها فنون لما تتطلبه من مهارات وحيل وتنتجه من متعة وانشراح , وعن ألعاب الخفة والخدع السحرية , غير أننا سنتجاوز كل هذه الفنون لنتوقف عند الفن التشكيلي وعن الرسم تحديدا وعن مهمته الأصلية قبل بزوغ المدارس والتيارات , كنشاط جالب للمتعة وباعث على الأرتياح وكملاذ من الكثير من منغصات الحياة ومضاد لقسوة الواقع أحيانا , لما يجد فيه الممارس من متعة ولذة وانشراح صدر ونشوة حتى , قبل الممارسة وأثناءها وبعدها , إذ يبدو الفنان على الدوام منشغلا بالبحث عن موضوعه وفكرته , متفكرا في طريقة تنفيذها متأملاً في تفاصيلها وفي ذلك متعة وبهجة سرية لا يشاركه فيها الآخرون ولا يحسون بها , ولا يمكن إلا للمبدع أن يتصورها ويتمثل ملامحها , هذا حتى قبل أن يلتقط الفنان الريشة أو القلم ليجعل من فكرته واقعا ملموساً ويترجم أحاسيسه على الورق أو القماش بالألوان كلها أو بألوان محددة , ومتى ما اختمرت الفكرة واكتمل التصور يصير من السهل على الفنان تنفيذها , وبذلك تكون المرحلة الأولى قد انتهت مع ما رافقها من متعة , وحين يبدأ الفنان في الرسم أتصور أنهُ يدخل في حالة هي أقرب إلى الحالة الصوفية من حيث الإستغراق والأنقطاع الجزئي عن الواقع والتركيز على هدف محدد والشعور بالسكينة الغامرة والأسترخاء , وأتصور ممارسة الفن طقساً تطهرياً , تطهر من الخواء والأبتذال وأتصوره نوعاً من السمو والتجاوز للرتابة وضربا من ضروب الأستمتاع بالحياة.

وداخل حالة التوهج التي سيعيشها الفنان أثناء الممارسة الفنية ستحدث أشياء كثيرة وستحضر في تلك اللحظات المشاعر والمعارف التي يكون الفنان قد اكتسبها وستلعب الخبرة دورا مهما في التحكم في التقنيات والمواد المستخدمة , وستكون أية خطوة يقوم بها الفنان مصدراً للمتعة والإحساس بالأنشراح وبالأرتياح وبالجدوى , ودافعاً للرضى عن النفس والشعور بالإشباع الجمالي كون ما يفعله يقربه من فهم وتحقيق ذاته ويُشعره بجدوى وجوده ومساهمته في تأثيث العالم بالجمال والمشاركة في الإرث الإنساني الذي سيفنى مع الأيام كل ما عداه ولا يبقى فوق الأرض إلا ما أنجزه وأبدعه الإنسان وما ساهم به في مسيرة الإنسانية.

ثم أن هنالك شيء أسمه الجوع إلى الإبداع والخلق الفني يحس به الفنان حين تحول بينه وبين فنه ضرورات الحياة ولا يهنأ له بال حتى يُشبع رغبته في الرسم , وأعتقد أن أكبر دافع للفنان لإنتاج المزيد من الأعمال الفنية والأستمرار في عمله هو المتعة التي يستشعرها ويسعى إلى تكرارها كل مرة يرسم فيها , أي أن الدافع ذاتي في الأساس ينبع من داخل الفنان , ثم تأتي بقية الأعتبارات الأخرى ولا يمكن وصف الفرحة الغامرة التي تعتري الفنان عندما يضع آخر لمسة على عمله الفني ويتراجع خطوتين ليتأمل ما صنعت يداه , ولن نبالغ إن قلنا بأن الأرض لا تتسع لفرحته تلك اللحظات المقتطعة من سياقها العام , السياق العادي والمعتاد والمتكرر.

ويُشكل إعجاب المتلقي عند عرض اللوحة واستحسان المتفرج لها ووقعها الحسن في نفوس المشاهدين , يشكل الدافع الثاني للفنان للأجتهاد في تقديم المزيد من الإبداعات , سوى أن هنالك فئة من الفنانين لا تهمهم أراء المشاهدين ولا يكترثون لردة فعلهم ولا لكلمات المجاملة , إذ يعتبرون أن الفن رسالة وطريقة لطرح الأفكار وعرض المفاهيم , لا سيما عند فناني المدرسة التجريدية والتعبيرية من فناني الحداثة وما بعد الحداثة , وهذا لا يمنعهم من الأستمتاع بالممارسة الفنية واختبار لحظات الفرح والتوهج التي ترافق خطوات الإنجاز , بل أن البعض من المشتغلين في الحقل الفني يعد الفن وسيلة من وسائل تحسين المزاج وحتى مظهر من مظاهر العلو والأرتقاء واستراتيجية تربوية , وعند البعض الفن نوع من أنواع اللعب البريء , فالإنسان بحاجة للعب كحاجته للأكل والشرب ولا علاقة للعمر بهذا الأمر.

وقد تقل المتعة وتتضاءل بعد مرور زمن طويل على إنجاز العمل إلا أنها لا تنقطع وعند عودة الفنان لعمل من اعماله القديمة ستعاوده تلك الفرحة والشعور بالرضى والأرتياح حتى وإن لم تكن بحجم الفرحة الأولى , إلا انها فرحة يعول عليها , ذلك أن الفنان يرى أن عمله جزءاً لا يتجزأ من تكوينه وشخصيته بل أنهُ يحرص على أعماله كحرصه على أبناءه وأكثر , لذا فهو لا يفرط فيها ولا يهبها إلا لمن يقدرها ويدرك قيمتها , وفي نهاية المطاف نخلص إلى أن أي عمل لا ترافقه المتعة سيكون مملاً , لان الإنسان سيمارسه على مضض , ومثلما ان المتعة ضرورية ومطلوبة في كل الأعمال مطلوبة بشكل مُلح في الفن , وأعتقد أنه بوسع المتلقي المتمرس التفريق ما بين العمل الفني الذي رافقته المتعة والشغف وذلك الذي أُنجِزَ على عجل أو على مضض , من نظرة واحدة.

ولعلها قصدت المتعة أو ما قرّب إليها من قول أو عمل ” فريدا كاهلو ” حين قالت ” أنا بخير طالما أنني أستطيع الرسم ” أو كما قالت .

مقالات ذات علاقة

تعرف على مجموعة «وصال» للنحات الليبي عبدالله سعيد

المشرف العام

قراءات تشكيلية.. في مديح الأسود والأبيض

ناصر سالم المقرحي

أعمال الفنان الليبي علي الزويك هرمونية صنعتها الفطرة

عدنان بشير معيتيق

اترك تعليق