الفنان التشكيلي عادل جربوع.
قراءات

تجريد الذاكرة

الفنان التشكيلي عادل جربوع.
الفنان التشكيلي عادل جربوع.

أنشغل الفن التشكيلي الليبي في جزء كبير من منجزاته بمفردات الذاكرة التراثية ، بحيث نجد الموروث الشعبي يترك بصمات واضحة على العديد من التجارب التي صرنا نستدل على هويتها عبر مفرداتها التراثية , التي تعكس تنوعات البيئة وثقافتها ، وفي نفس الوقت تتيح مخزونا بصريا وكما هائلا من التجارب الجمالية . وهذه السمة التراثية الشعبية طبعت العديد من الأعمال والتجارب ، ونشير هنا على سبيل الذكر ، لا الحصر إلى نماذج فنية من رسومات : علي بركة ، الطاهر لامين المغربي، علي العباني ، سالم التميمي ، علي الزويك ، محمد عبية ، وغيرهم من الفنانين .. إلا أن خصوصية التعبير و التنوع الذي تتجسد في لوحاتهم تختلف بين فنان وآخر ، فلكل منهم سماته ، وخصائصه ، ومميزاته التي تحتفظ له ببصمة فنية خاصة ، كتعبير عن الفرادة والاختلاف من حيث التقنية أو الرؤى الفنية وأساليب توظيف تلك المفردات التراثية التي استدرجوها إلى لوحاتهم . كل حسب طريقته في معادلاته الفنية, ورؤاه ، ودرجة ميله إلى التجريد و التجريب , ومدى حساسيته في استخدام أساليب فنية أكثر تحديثا ومعاصرة . فالفنان الليبي , لكي يبدع في لوحة الحاضر , يستدعي لوحة الماضي بألوان جديدة ، وتطويعات فنية تبعث الروح في الأشياء والمستعملات ، لتبدو حية تنبض بوهج الأسئلة. ، وآفاق أخرى . وهذا ما يتضح جليا من خلال تكوين مجرى فني يمر به عدد من الفنانين الليبيين , الذين تعكس لوحاتهم المحيط عبر حوار لوني تشترك فيه مفردات الماضي والحاضر ، لتبدو خزائن الذاكرة نشيطة وقد ارتدت ألوانا وظلالا جديدة.

ولعل ما أضافه الفنان ( عادل جربوع ) على لوحته ، وعلى الفن التشكيلي الليبي , , لهو ترجمة حضارية معاصرة لهوية الفن ، حين يكون مرتكزا على قيمه ومفاهيمه التي تشكل ثقافة بيئته ،وبأسلوب يضع المشهد الفني التصويري في منطقة تجاور بين فعل التجريد من زاوية ,وفعل التكوين و التشكيل من زاوية أخرى . في تجربة عادل جربوع ، لا يمكن الفصل بين ما هو قديم وجديد ، فبقدر ما تنطلق لوحته من تراثها الشعبي ، نجدها في الوقت ذاته ثرية بمخزون ثقافي عالمي ، نتيجة تأثرها بمدارس الفن التشكيلي العالمية . ولعل الانجذاب الأكثر وضوحا يبرز من خلال طغيان آلية الرسم السريالي . وكأنه عبر استعمال هذا الأسلوب يطمح إلى أن تكون حركته داخل فضاء اللوحة أكثر تحررا . ليقودنا إلي تجربة بصرية موسيقية ، عبر مفردات شعبية من المعتقد أنها تطرد الروح الشريرة , و تحمينا من الحسد كالهلال و الحويتة و الخميسة , وفي معزوفة أخرى يثري التراث البصري بفضاء قاتم اللون ليعطي للقمر و التفاحة و الخيمة و الجمل بيوتا مظللة بالمثلثات ، محمّلة بالأهلة و النجوم . كذلك نجد العمارة التي تصور في أعماله , تقترب في تكويناتها من النسيج و الحلي , وخاصة في تلك الزخرفة التي تزدان خلفية سمائها بالقمر و الخميسة و النجمة. للفنان عادل جربوع ملكة سرد لها منطقها الخاص في التعبير عن مكونات الفنان الدفينة , التي تشحن وجدانه ، وتحرك يده لكي يبدع معبرا عن رغباته و أحلامه , انه منطق سريالي أبدع في تصويره هذا الفنان ، وهو منطق فن اللاشعور الذي نستلهم العديد من مفاهيمه من نظريات فرويد في التحليل النفسي . عادل جربوع ، ومن خلال قراءتي البصرية المتواضعة لحدود لوحتة ، أحس بأن مهمته تكمن في التعبير عن الواقع الداخلي لذاته ، وخبراته الوجدانية, اعني هنا تجاربه المختلفة , و تنوع ملهماته البصرية , تراثية وغير تراثية , فصوره تعكس نفسية الفنان بكل ما يعتمل فيها من مشاعر الفرح أو الإحباط .. ففي فضاء اللوحة ثمة نساء و آلات موسيقى ونوافذ وثياب ومقاعد ومستعملات منزلية , وبعض لوحاته تحمل انقسامات و انشقاقات لطبقات الأرضية و الشكل , بزرقة تصور السماء و الماء , و بعضها تحمل تشابكات لتكوين لوني ، مفرداته مفعمة بالازدحام , وأحيانا نجده يلامس الصحراء واصفا جفافها بمفردات و مخلفات جندي برز حضوره وجدانيا . هذا التنوع في الفن التشكيلي يوضح عشق الفنان للثقافة البصرية , ويعكس مدى إلمامه بالمعارض التشكيلية و المسرح و السينما.

إن أعمال عادل جربوع في حيزها السريالي تمتعنا في بعض المقتطفات بخيال سلفادور ليبي , ولعلّي عبر هذا التوصيف الموجز أكون قد اقتربت من إبراز بعض سمات هذا الفنان. وملامسة أطراف من مسيرته الفنية التائقة التي حاول من خلالها الابتكار و الإضافة لمشهدنا التشكيلي.

مقالات ذات علاقة

دم أزرق …للبحر عروق زرقاء لا تملكها السماء

مهند سليمان

إنّي أُصغي لندائك

مهند سليمان

قراءة في كتاب يوميات مغربية 1989م

المشرف العام

اترك تعليق