قبل قرن كامل من الزمان أطلق المصلح الاجتماعي الكبير “قاسم أمين” صيحة مدوية جابت أرجاء وادي النيل من أقصاه إلى أدناه. وكان لصيحته الرائدة أصداء واسعة وقوية في المنطقة العربية ما بين مؤيدٍ مُنْفَتَح الذهن لدعوى “قاسم أمين” التقدمية ومعارضٍ ضرير البصر والبصيرة تحكمه تقاليد بالية عمياء. وكانت ظروف مصر الاجتماعية في ذلك الوقت من أواخر القرن التاسع عشر ترزح تحت وطأة أعرافٍ متزمتةٍ في أوساط دون أخرى حتى كاد ناسها أن يختنقوا في أجواء الرجعية التي أغلقت كل النوافذ والأبواب في وجه العصر الحديث.
ولم تكن صيحة “قاسم أمين” ناتجة عن مهاترة خاصة مع آخرين، إنما جلجل حلقه بشأن عامّ يهم ملايين الناس من الطبقة الوسطى ذات المهن المتعددة. وكان محور اعتنائه هو تربية النشء على نحوٍ سليم، وهذا أمرٌ لا يمكن أن يتوفر ما دامت المرأة المصرية – في أوساطٍ دون أخرى – ترسف في أغلال العبودية والجهل ولا تشارك ككائن اجتماعي حيّ في هموم المجتمع ولا يكون من حقها الأخذ بقسطٍ وافرٍ من التعلم والمعرفة والتأهيل لتساهم في الإنتاج الاجتماعي ومعارك النهضة الحضارية وتقوى حينئذٍ بفضل استنارتها وزادها من المعارف العصرية على تربية النشء وصياغة أجيال المستقبل. ويشدو شاعر النيل “حافظ إبراهيم” في إحدى قصائده:
الأم مدرسة إذا أعددتها … أعددت شعباً طيب الأعراق.
وقد تبلورت صيحة “قاسم أمين” الإصلاحية في كتابه الهامّ “تحرير المرأة” الذي صدر قبل مئة سنة مضت، وموضوعه انتشال النصف المضطهد. وكانت تحيط بـ “قاسم أمين” كوكبة من الطلائع الإصلاحية أخذت على عاتقها مهمة تطوير مصر والمنطقة العربية بكسر قيود الرجعية.
وبالرغم من الجهود الحازمة التي بذلها الخديوي إسماعيل في تلك الآونة للدفع بمصر نحو العصر وتحديث قوانينها ومؤسساتها العامة استطراداً لجهود جده “محمد علي باشا الكبير” وأبيه “إبراهيم باشا” إلاّ أن كثيراً من جوانب المجتمع المصري ظلت منغلقة ومستكينة لأخلاق المقابر ومفاهيمها المندثرة.
وكانت الحاجة شديدة إلى مهماز المصلح والثائر لا سيما فيما يتصل بشؤون المرأة التي أبقيت وسط رياح التحديث كما كانت في سالف العصر بل كما كانت في أيام الجاهلية رقيقاً وأمةً ومن ثَمَّ جارية تباع وتشترى في الأسواق ثُمَّ تبقى حبيسة طقوس الحريم الرهيبة. وفي أوائل القرن العشرين الماضي وقت أن كان الأستاذ “سلامة موسى” رئيسا لتحرير مجلة “الهلال” المصرية التي أسسها الأستاذ جورجي زيدان” وآلت إلى الأستاذين “أميل زيدان” وشكري زيدان” كتب الأستاذ “سلامة موسى” مقدمة موجزة لحواره مع الشيخ “علي عبدالرزاق” – من كبار علماء الأزهر – أَوْردَ فيها الأستاذ “سلامة موسى” ما يلي: ((إذا شاء المؤرخ للنهضة الأدبية في مصر أن يبحث عن الأحداث العظيمة في هذه النهضة فإنه لن يخطئها فهي واضحة بارزة كالأعلام في الطريق، فأولها بلا شك هو كتاب “قاسم أمين” في تحرير المرأة، وثانيها هو كتاب الشيخ علي عبدالرزاق عن “الإسلام وأصول الحكم”، وثالثها هو كتاب “الشعر الجاهلي” للدكتور طه حسين. فكل من هذه الكتب قد أثار ضجة بين الجمهور، خصوصاً بين علماء الدين الذين اتهموا هؤلاء المؤلفين بالمروق من الدين وشنعوا عليهم في الصحف واستعدوا عليهم الحَكَمَة، فكلنا يعرف ما لقي “قاسم أمين” من عنت الخصوم والتشنيع عليه في الصحف، وإن كنا الآن نتعزى بهذا الجمهور الكبير الذي انضوى إليه بل فينا الآن من يفاخر الأتراك بأننا سبقناهم إلى االدعوة إلى تحرير المرأة. والفضل في هذا السبق لقاسم أمين.)).
ويتساءل “قاسم أمين” بسخرية في كتابه “تحرير المرأة” الذي انفجر كقنبلة في بيئة يسودها التخلف في أوساط دون أخرى – ((عجباً! .. لِمَ لَمْ يؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوهم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهن؟! هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة واعتبرت الرجل أضعف من المرأة عن ضبط نفسه والحكم على هواه، واعتبرت المرأة أقوى منه في ذلك حتى أبيح للرجال أن يكشفوا وجوهم لأعين النساء مهما كان لهم من الحسن والجمال، ومنع النساء من كشف وجوهن لأعين الرجال منعاً مطلقاً خوفاً من أن يفلت زمام هوى النفس من سلطة عقل الرجل فيسقط في الفتنة بأيه إمراة تعرضت له مهما بلغت من القبح وبشاعة الخلق!؟.)).
وفي موضع آخر من كتاب “تحرير المرأة” يواصل “قاسم أمين” تنديده وشجبه للحجاب فيكتب: ((صار الحجاب إلى حيث يستحيل عليها أن تتمتع بالحقوق التي خولتها لها الشريعة الغراء والقوانين الوضعية فجعلها في حكم القاصرة لا تستطيع أن تباشر عملاً ما بنفسها مع أن الشرع يعترف لها في تدبير شؤونها المعاشية بكفاءة مساوية للرجل.)). ثم يخلص ” قاسم أمين” إلى التأكيد بـ ((إن الخطر الأعظم للحجاب هو أنه يحول بين المرأة واستكمال تربيتها.)).
ويذكر ” قاسم أمين” في كتابه الاستحالة الواقعية التي تنشأ أمام المرأة العاملة حينما تحاول أو تجبر على التوفيق بين الحجاب وزي الحريم وبين مقتضيات العمل والإنتاج والخدمات الإدارية وغيرها خارج البيت والمسحة الهزلية لذلك كله، فالمهم أن تبقى المرأة – كما يريد الجهال – قطعة من المقتنيات كالفخار الرخيص أو الخزف الغالي لا حول لها ولا قدرة.
في ذلك الوقت البعيد استوعب ” قاسم أمين” محنة المدن والبنادر المصرية أثناء معاناتها للضغوط الغشيمة من تقاليد الفصل بين الجنسين ومعاداة الاختلاط بجميع حالاته وفرض الحجاب، وهي ظروف لم يكن معظم الريف المصري يجابهها فحيث تمتد الحقول قبل ثمانية آلاف سنة مدونة بالنقش والهيروغليف حتى يومنا الحاضر تمتد أيضاً دعائم الاختلاط والسفور والعمل المشترك للرجل والمرأة من الفلاحين والفلاحات فتنبثق روح الشغل والتعاون والاحترام المتبادل بين الطرفين.
وكانت الفئات المستنيرة في المدن تطمح إلى إزالة المفارقات الرجعية والوثب إلى العصر الحديث بعدما وجدت طلائعها الفكرية والثورية وليس ذلك بمستغرب، فقد ولد ” قاسم أمين” في الإسكندرية سنة 1863م من أب تركي وأم مصرية ثم انتقل إلى القاهرة مع أسرته الثرية التي تملك مزرعة كبيرة في أرياف “دمنهور” شمال وادي النيل. وفي القاهرة ترعرع “قاسم أمين” في حي الحلمية الراقي ناهلاً من مكتبة أبيه الزاخرة.
وفي سنة 1881م تخرج ” قاسم أمين” من الجامعة حاملاً ليسانس حقوق. وبعد ذلك سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا. وهنالك إلتقى بأستاذه الشيخ “محمد عبده” وتوطدت علاقتهما فلم يلبث “قاسم أمين” أن انضم إلى جمعية “العُروة الوَثْقَى” التي أصدرت في باريس مجلة تحمل إسم الجمعية. وداخل تلك الظروف استفاد الشاب “قاسم أمين” من مؤثرين أولهما إقامته في باريس وإطلاعه على أفق حضاري جديد يتناغم مع أوتار وتكاوين عميقة في نفسه لأنه كان قد طالع في صباه الباكر روائع الأدب الفرنسي في مكتبة أبيه المنزلية، وثانيها تفاعله مع الطلائع الإصلاحية المنادية بالتحديث وتنقية المجتمع المتخلف من البدع والخرافات. ومعروف أن الشيخ “محمد عبده” كان رائداً لهذا الاتجاه حيث استطاع تطوير إحدى أكبر مؤسسات التعليم الديني في مصر وإدخال العلوم الحديثة كالفلسفة والمنطق والجغرافيا إلى آخر قائمة المواد التي شكلت إصلاحاً جذرياً لمناهج مكتبة الأزهر ومقرراته الدراسية.
وفي صيف 1885م عاد ” قاسم أمين” إلى مصر ليعمل رئيساً لنيابة “بني سويف” ثم بعد فترة عمل في سلك القضاء وبعد ذلك عُيِّنَ هو والزعيم الكبير “سعد زغلول” الذي أسس حزب الوفد العتيد وفجر في وقت لاحق ثورة 1919م الشهيرة… عُيِّنا مستشارين في محكمة الاستئناف في القاهرة.
ولم يتقيد ” قاسم أمين” أثناء اشتغاله في سلك القضاء بالصيغ الشكلية أو حرفية القوانين نتيجة لتأهيله الرفيع فأطلق سراح الكثيرين ممن لم تتوفر أدلة دامغة لمعاقبتهم، واحتفظ ” قاسم أمين” طوال اشتغاله في سلط القضاء بروح المصلح المثقف والثائر ذي الأفق الواسع.
لقد كانت كل الظروف سانحة في ذلك الحين لأن تؤدي الرأسمالية الوطنية المزدهرة في مصر آنذاك دورها التاريخي التقدمي بعدما اجتذبت مصالح وهموم الطبقة الوسطى بطيفها الواسع من المهن: التجار والمحامين والمهندسين والأطباء والحرفيين والعمال الفنيين ميسوري الحال والطلاب وغيرهم ممن يوجدون في ذلك الطيف العريض، وكذلك اجتذبت الرأسمالية الوطنية المصرية وعبرت عن مصالح الفلاحين الذين أصبحوا – فيما بعد – جزءاً من قاعدة حزب الوفد المصري وهو حزب الأغلبية في التاريخ السياسي لوادي النيل.
في ذلك العصر السالف المضطرم بالآمال والتطلعات كتب “قاسم أمين” إحدى عباراته الجيدة الجسورة كما يلي ((إن هناك تلازماً بين انحطاط المرأة وانحطاط الأمة !.)).
_________________