النقد

حـرّكـي الــنار..

قراءة في قصة ثعبان الليل للأديب خليفة الفاخري

 

 

خليفة الفاخري كاتب ليبي.. (1942 – 2001م) برز في كتابة المقالة الأدبية والقصة القصيرة.. أصدر ثلاثة كتب.. موسم الحكايات.. بيع الريح للمراكب.. غربة النهر.. ونشر عدة قصص ونصوص لم تصدر في كتاب بعد وإن نشرت في بعض المجلات والجرائد وصدرت  في  كتب كتبت عنه بعد رحيله.

أذكر أن الشاعر الراحل علي الفزاني قد أشاد لي ذات جلسة بكتاب خليفة الفاخري المعنون بموسم الحكايات.. وعلى الفور قمت بشرائه من مكتبة 5 التمور وقال لي جمال صاحب المكتبة أن الأديب خليفة الفاخري دائما يمر عليه ويجلس في مكتبته فتركت الكتاب في المكتبة وطلبت منه أن يوقعه من الأستاذ خليفة.. بعد يومين عدت الى المكتبة ووجدته موقعا مع كلمة مع مودتي واعتزازي قرأت الكتاب في نفس اليوم ثم وجده عندي مخرج سوري شاب التقيته في مقهى المسرح الشعبي فطلبه مني وبعد يومين تقابلنا وأشاد بهذه القصص الجميلة فقلت له خذه معك الى سوريا وسوف اشتري نسخة أخرى.. والحقيقة أنني لم أقابل الفاخري أو أجلس معه لكن قابلته مرة واحدة صحبة ابنه الصغير وصديقه محمد عقيلة العمامي في منتصف شارع عمرو بن العاص عند دكان مستلزمات صيد يقابل القنصلية الايطالية.. تصافحنا وكنا جميعا في عجالة فلا أدري هل عرّفه الاستاذ محمد عقيلة عليَّ أم لا.. لكن الاستاذ الفاخري قرأ بعض خطاطاتي وقال لمحمد عقيلة العمامي هذا الكاتب لديه موهبة.. وطبعا اسعدني هذا القول.. وللأسف لا أحب الاختلاط بالكتاب الكبار فلم اسع الى لقاءه وان التقيته كثيرا عبر الكلمات وتقاطعنا اكثر في كثير من الرؤى واستطيع القول ان خليفة الفاخري لا يضع اي جملة في النص هكذا بعبث.. فنصه مدروس جدا ومركبا تركيبا متينا محكما ولا استطيع ان اقارنه بأي كاتب ممن قرأت لهم سوى بالقاص المغربي الراحل محمد زفزاف.. فحتى محمد زفزاف لديه مثل قدرة الفاخري في بناء النص وتشذيبه وصقله وخلق التوازن بين كافة الدلالات المبثوثة في النص من العنوان حتى قاطعة النهاية.. والحقيقة ان الإخوة الاصدقاء من كتاب مدينة بنغازي ودرنة وطرابلس قد التفتوا الى كتابات الفاخري وكتبوا عنها اوراقا نقدية وبيلوغرافية  هامة لا يستغنى عليها اي باحث جاد في أدب الفاخري الا أن كل هذه المقاربات جاءت متسرعة ومتعاطفة املاها رحيله المفاجىء وأكثرها ركزت على حياته وعلاقاته بالكتاب العرب والليبيين الذين جايلوه وعلاقته بمدينة بنغازي أي أن الجهد النقدي الحقيقي لم يتصد بعد لأعمال الفاخري مع احترامي الشديد لبعض المقاربات خاصة مقاربتي الصديقين سالم العوكلي ومحمد عبدالله الترهوني اللتين تطرقتا إلى بعض الجوانب الفنية في كتابته مع اعتذاري لمن كتب نقدا ولم يسعفني النصيب لأقرأه.

ومنذ أن قرأت موسم الحكايات صرت متتبعا لبقية كتاباته قرأت له ثعبان الليل والنوارس وعناء الكلمات في مجلة الثقافة العربية واخبار بنغازي واظن مجلة الفصول الاربعة ايضا.. وكلما أقرأ له قصة اترك الكلمات والبلاغة والموسيقى وابحث عن روح النص ومساربه وصخبه الداخلي.. أنظر إليه كلوحة فنية وأتتبع نوره أين يصب.. ومن القصص التي شدتني وقرأتها أكثر من مرّة قصة ثعبان الليل.. والبارحة فقط كنت اتسكع في شوارع قصر حمد والعقيب وفياتارينو وكان المطر يهطل والجو بارد ومقهى عين الغزالة خالي من الاصدقاء ومكتبة الفضيل بوعمر لا جرائد جديدة ولا شاي ساخن ولا بريوش واخذتني الخطوات الي مقهى النت عند ناصية المجمع الحكومي او الاداري وجدت كل الاجهزة في المقهى مشغولة طلبت قهوة مكياطة في كوب ورقي من مقهى الزجاج الملاصق واتجهت صوب شارع مصراتة رأيت الكاتب محمد عقيلة العمامي في محله الذي يبيع الطاولات والكراسي عرجت عليه فسألني هل من أحد شن على كتبي هجوما بعد هجوم الأستاذ جابر العبيدي فقلت له لم أر شيئا حتى الآن لكن ربما الأستاذ الباحث سالم الكبتي يحضّـر لك طبخة كبيرة  خاصة أن كنت قد وقعت في أخطاء فاخرية او نيهومية أو شلطامية  ودخل المحل زبائن فأجلنا الحديث ريثما تتم الصفقة وحررت الفاتورة وخرج الزبائن مبسوطين بطاولاتهم وكراسيهم التي اشتروها بأثمان رخيصة وعدنا للحديث وقال لي اريد مقالك الذي عنوانه مقطّع حار عن رواية د صالح السنوسي فقلت له شطرة  حرفتها من احدى قصصه ” ليس ثمة مقطّع بدون كمون حوت  ” فقال لي يامولانا  حرايمي مش مقطع..المقطع ايديرولا في زعتر يابس وثوم مهروس.. وضحكنا ضحكة بنكهة البصل ادمعت العيون.. والضحك جلب لي بعض الدفء ودخلنا في الجد.. في اليوم الذي قبله التقيت صدفة الاديب  منصور العجالي وقال لي هناك صديقة درناوية تحضر في رسالة جامعية عن خليفة الفاخري وطلبت منى مساعدتها في جلب بعض الدراسات حول نصوصه فخبطت صدري قلت له درنة شوري سوف اسأل لك الأستاذ سالم الكبتي أو الأستاذ محمد عقيلة العمامي.. وأضاف منصور أنها تكتب في دراسة مفصلة حول قصة ثعبان الليل بالذات.. وهنا التقينا فهذه القصة من القصص التي أحبها جدا والتي اعتبر أن الفاخري قد قال فيها الكثير.. الكبتي لا التقيه الا صدفة ومحمد عقيلة العمامي كل يوم اراه قالبا كرسيا او طاولة يشد براغيها ومفاصلها ويضعها في العرض.. طلبت من محمد عقيلة العمامي اعمالا حول الفاخري لنعطيها للأخت الدارسة فقال لي أنا بصدد اعداد عمل جديد عن خليفة الفاخري وما رأيك لو تكتب شيئا عنه وتحضره لأضمنه الكتاب.. قلت له لكن أخاف من الوقوع في الأخطاء فأتعرض للهجوم من الكبتي والكبتي صديق حميم وقف معي في أكثر من مأزق لا أرغب في أن ارتكب أي خطأ خاصة في عمل حول خليفة الفاخري وصادق النيهوم.. لكن خليفة الفاخري أحبه وسأكتب عنه.. أكتب عن قصصه وعن قصة ثعبان الليل بالذات وسأتوخى الصدق.. لكن إن لم يتوخاني الصدق فماذا افعل.. لا أعرف الكتابة دون كذب.. سالم الكبتي سأتدبر أمره.. لن يهاجمني.. سيطلب منه صديقه الدكتور محمد احمد وريث تركي وشأني.. سأقول له اشرحلي كيف تكتب كتاب عن بشير السعداوي في اربع وعشرين ساعة  فسينبسط ويقول لي هناك حبوب تاريخية تباع في الصيدلية تبلع منها واحدة فتستطيع ان تكتب حتى مقدمة بن خلدون في عشية.. لكن الكبتي ليس مشكلة.. لن اقترب من البيلوغرافيا الفاخرية سأكتب عن قصته فقط..

 سأكتب سيرة أخرى لخليفة الفاخري.. بعيدا عن البيلوغرافيا والوعظية وعناء الكلمات والنوارس التي تلتقط اسماك بنكينة جليانا.. فخليفة الفاخري انسان ولابد ان يقدم للقارىء وخاصة العربي والعالمي كما هو دون رتوش.. نقدم ما ابدع من ادب.. نقدم حياته داخل الأدب وداخل القصص التي كتبها والمقالات التي عاش فيها اكثر من حياة واكثر من موت.. نقدم ثعبان الليل.. ثعبان العمر.. ثعبان الزمن القصير الغارق في سبخة تمطرها السماء كل عام.. قصة ثعبان الليل بسيطة جدا.. لو حكيت هكذا أي بالكلام الشفوي فلن تكون مشوقة وحتما ستكون مملة.. الحاج وهو شيخ كبير السن يحكى لزوجته العجوز ذات شتاء وهما جالسان في كوخ صفيح امامهما كانون نار فوقه براد شاي وفي الخارج المطر يهطل.. الحاج يسمعه وزوجته العجوز تسمع هطول المطر على هيئة طرقات على الباب من ابنها فرج الذي يعمل في حقول النفط بالصحراء.. في خلال هذه الجلسة يستعرض الحاج على زوجته العجوز مقتطفات من سيرة حياتهما ومن سيرة المدينة اثناء الحرب وتعرض المدينة للقصف وهجرة السكان الى الضواحي المحيطة ببنغازي.. يستعرض معها ايضا كيف تعارفا.. وكيف ضيعها في اثناء موسم الحج ووجدها.. يستذكران بعض الشخصيات الجانبية مثل شخصية صابر جاره زميله في حصد الزرع وابنهما رمضان المتزوج واخيها المتوفي من ادمان الخمر.. القصة لو حكيت فهي متشظية الحكايا وغير مشوّقة بالمعني الالف ليلة وليلة.. لكن لو قرأت من الجريدة او المجلة قراءة فهي ممتعة ورائعة ولا قصور فيها باستثناء شيء واحد وهو من وجهة نظري الكلام الفلسفي والردود المعدة سلفا والتي جاءت على لسان الحاج  كأجوبة لأسئلة زوجته العجوز الفطرية خاصة حول المسائل الدينية.. وكما قلت ان هذه القصة لا تحكى انما تقرأ وتتدبر فاصحبوني ان شئتم في رحلتي هذه عبر ربوعها..

ثعبان الليل.. عنوان القصة.. عنوان يحمل شحنة كبيرة من الألم.. الحنش ما يمص من الحنش الا السم.. الثعبان في النهار مرئي.. ثعبان الليل نسمعه ولا نراه.. يلتهمنا ظلامه القادم الينا في عدة صور سياسية اقتصادية نفسية.. ثعبان مضاف الى الليل في بداية جملة او حياة ماذا تنتظر منه.. عليك ان تهاجمه.. تشعل انوار داخلك وتولج ما يحيطك من فضاءات.. تبدأ القصة بجملة تحريضية من الحاج الى زوجته العجوز  رمز الأم:

( حركي النار.. ، تكاد تنطفئ..).. قال الحاج فيما كان يسحب اللحاف حتى عنقه.

اخذت زوجته العجوز الكانون بين كفيها ، ورجته بضع مرات حتى اعتلت الجمرات جوف الرماد.

وفيما طفق الحاج يحكي لنفسه ، قلبت الحاجة ملعقة الشاي وحركت بذيلها الجمرات في الكانون حتى نزعت الرداء الرمادي عنها ثم نفخت مغمضة العينين مرتين الى ان التهبت النار.

المقطع السابق من الناحية الايحائية ممتاز العجوز تأخذ الحياة والعافية بين كفيها ترجها او تحرثها او تسقيها حت تنبعث الجذوة وترتقي سطح الرماد.. الحاج الذي يمثل التاريخ او الشاهد يحكي لنفسه اثناء مخاض الانبعاث واثناء تقليب الأم للبذور وتنظيفها من الطفيليات.. نفخ الحياة بالروح مرتين لايشتد العود اكثر واكثر.. في المقطع السابق هناك جملة تكرارها خلق بعض الربكة في الايقاع وهي جملة ( حتى نزعت الرداء الرمادي عنها ) والتى وردت شبيهتها في السطر الثاني من المقطع ( حتى اعتلت جوف الرماد ) فورود حتى وبعدها فعل مرتين في صورة واحدة زرع بعض الثقل.. والأفضل عدم تكرار حتى والاستعاضة عنها بأي كلمة أخرى تؤدي الغرض.

في المقطع المذكور وضع القاص صورته الاولى في ذهن القارئ ليبدأ فيما بعد تحريك شخصياته داخل الحيز المكاني الذي خلقه.. ولنواصل القراءة:

تطلع الحاج اليها وقال:

– ” هذا المطر ينزع كل الدفء لدي “

قالت الحاجة:

–         ” يا الهي هذا ليس رعدا.. انه زلزال “

قال الحاج:

–         ” انفخي النار ”

في هذا المقطع القوة تكمن في كلمة انفخي النار وهي دلالة لرفض ما ظنته الحاجة من صخب وتأكيد من الحاج التاريخ انه مطر وليس جعجعة مناخية لم يرد عليها وامرها بنفخ النار.. وجميل جدا قوله هذا المطر ينزع كل الدفء لدي فلدي لا تختص بجسده فقط انما بروحه ايضا.

ايضا كلمة انفخي النار في هذا الموضع تعطي معنى تذمر وضيق واتهام بعدم مجانبة الصواب وهي رد مختزل لجملة طويلة قد يقع فيها اي قاص غير ناضج فيقول مثلا ليس رعدا ولا زلزال انه المطر وانفخي النار.. وانفخي النار استمرار على التحريض وعلى تغذية الجذوة بالانفاس الروح وبالغذاء حبات الفحم.. ونجد ان العجوز تنهض وتحضر من ركن الكوخ بضع حبات فحم تضعها في الكانون وتنفخ ويواصل الحاج كلامه بينما هي تنفخ فيقول بتنهد:

–         ربما سيأتي ولدنا ( فرج ) في هذه اللحظة ، ولن تعود هناك حاجة الى كانون النار.. أو حتى انت !!”

وهذا السطر سطر كبير يحمل دلالات مهمة تفتح لنا النص على مصراعيه فولده فرج هو الأمل والاسم مختار بعناية فان وصل الامل فقد وصل الخلاص من كل العوارض المناخية ( النار.. الدفء.. ) والمعيشية (  العجوز نفسها وما تقدمه من خدمات ). فالفرج ياتي كاملا.. وجملة ولن تعود هناك حاجة الى كانون نار احللها بأنه ليس هناك حاجة الى نهاية اعتيادية لهذا الصقيع فالفرج بالنسبة للحاج ليس مجرد ابن انما هو حل نهائي لكل مشاكله.. وليس هناك حاجة الى كانون نار اي ليس هناك حاجة الى نهاية فالكانون يحدث فيه الاحتراق وهو شهر عجوز يأتي في نهاية السنة والحاج يحتاجه كما يحتاج زوجته العجوز لكن ان عاد ابنه فرج رمز الامل والصبا فسيشعر بالدفء الانساني  الحي النابض المنفوخ نفخة البدء الالهية فقط.

وتحتج زوجته العجوز فيلجمها بنهرة رجولية قافلا النقاش وتتظاهر زوجته العجوز انها لم تسمع وتواصل حديثها تعلمه ان موعد اجازته من عمله في معسكر النفط بالصحراء اليوم ولا تدري سبب تأخره وتستدرك مطمئنة نفسها ربما عرج على بعض الاصدقاء فيقول الحاج:

–  ” اذن سيأتي الينا سكران ”

– ” لا يهم “.. قالت الحاجة بابتهال ” لو يتوب الله عليه من شرب الخمر ”

تطلع في وجهها وقال:

– ” من يسمعك يعتقد أن الله فاتح خمارة!!”

– ” استغفر الله ، لماذا تقول هذا ؟”

” انه وحده الذي يتوب ، لا علاقة لله بذلك “.

ساومته العجوز:

–         ” اقصد ربما ساعده الله على ذلك “

سحب الحاج اللحاف تجاه عنقه ، وآثر الصمت.

وهذا المقطع به تدخل من الكاتب في النص ومساس بفطرة الشخصية وثقافتها حيث زرع رؤيته في مسألة فقهية فتحدث على لسان الحاج  وبتطويع شخصية الزوجة العجوز في مسألة القدرة والارادة والقضاء والقدر

.. ” لو يتوب الله عليه من شرب الخمر “

من يسمعك يعتقد أن الله فاتح خمارة!!”

– ” استغفر الله ، لماذا تقول هذا ؟”

” انه وحده الذي يتوب ، لا علاقة لله بذلك “.

وأفضل لو مرر المشهد بحديث ساذج دون التطرق الي هذه المواضيع واجمل ما في المشهد من الناحية الفنية جملة ” ساومته العجوز  ”  فهي عبارة محملة بحذلقة ومكر نسائي موجود لدينا في المجتمع العالمي وتمهيد قوي لاستخدام كلمة الاستداراك  ” أقصد “.

وتتواصل القصة بوضع الحاجة كفيها فوق الكانون والتأمل.. حيثما كان الدفء كان التأمل.. وماراها الحاج بوضع كفيه قرب كفيها طلبا للدفء واجترار الذكريات.. وفجأة تهتف العجوز: اسمع وقع خطوات في الخارج ويقول لها الحاج انت تتوهمين.. انه المطر.. ولا تستسلم الحاجة لمطر الحاج الدائم فتلجأ الي مشاجب الرجاء والفجاءة.. لعله سيأتي فجأة مثل قدومه الينا تلك الليلة في زمن الحرب.

وهنا تحدث نقلة زمنية في القصة يتسلم زمامها الحاج:

–         كان ذلك أيام الجلاء “

افتتح الحاج الحكاية التي سمعتها منه زوجته عشرات المرات ولأن الحكاية الحاجة طرف فيها فلم تملها وتكمل له جملته التي بدأ بها:

لم يكن لدينا من الاولاد ، في ذلك الحين ، سوى ( فرج ) كلت عمره سنة واحدة ، أتذكر ؟

وهنا توجد لمحة فنية في كلمة أتذكر ؟ فهذه الكلمة رمت بها للحاج مطيّة السياق ليمتطيها ويواصل الحكاية.. الجميل ايضا انه لم يكتب كان عمره سنة واحدة فقط.. فالتفقيط هنا سيضعف من كلمة اتذكر ؟ ويبطىء من وتيرة السرد المتنامية.

–         ” اعرف. ولكن كانت عائلة اخيك قريبة منك “

وزمن الحرب اغلب عائلات بنغازي جلت الى الضواحى القريبة البعيدة نسبيا عن العمران والساحل وهنا يذكر الحاج انه جلى مع عائلته وعائلة اخيه الى منطقة القوارشة وانه يترك اسرته بمعية اسرة اخيه ويرحل مع الرجال وقت الحرث الى سلوق ويذكر كيف ان الامطار جاءت مبكرة ذاك العام واغرقت السيول كل الاودية وسمع ان منطقة القوارشة ونواحيها قد اغرقها الطوفان فانطلق في الليل البهيم من سلوق مستدلا بقضبان سكة القطار التي اغرقتها المياه ايضا والتي يعلم انها تنتهي حيث اسرته في بلدة القوارشة.. وهنا نجد ان الحاج قد تحول الي ثعبان ليل اعمى يستدل بقدميه عن موطن اسرته وسط البرد والظلام الى ان يصلهم ويقتحم على زوجته الحاجة التي كانت شابة انذاك الكوخ فيجدها مرتعبة من المفاجأة.. ولا يخلوا الجو من دعابة ومكر عندما تقول له الحاجة: لكم ارتعبت حين اقتحمت علينا الكوخ.. ويضحك الحاج ويقول  كنت لا تزالين حيّة.. حيّة رقطاء.. !! وهنا نجد استخدام جيد لكلمة حية التي يعني بها الحياة والنضج والشباب ثم يقلبها بدعابته حية رقطاء.. اي ماكرة لا يخيفك اي اقتحام من رجل خاصة في هذا البرد والظلام.

وتفهم العجوز مقصده فلا تلتفت لدعابته وتفضل تغيير الحديث فتسأله عن المسافة من سلوق حتى القوارشة ويجدها القاص فرصة في ادخال شخصية ابنهما رمضان فيجيبها مثل المسافة من هنا الى بيت ابنك رمضان عشر مرات  وهي اجابة اجاد فيها فلم يذكر كيلو مترات او اميال تجهلها الحاجة مثلما حدث في حكاية الاجابات الفقهية السالفة الذكر.

لم تحسب العجوز المسافة في ذهنها او تتخيلها وفضلت وضع سبابتها في اذتها واستراق السمع اي فضلت القرب على البعد بترك حساب المسافة والانشغال بأذنها.. وفي نفس الوقت فضلت البعد عن القرب بتجاهل ابنها رمضان القريب من بيتها والاحساس ولو وهميا بخطوات ابنها فرج.. كانت تعتقد انها ان احدا ما يفتح الباب.. ويجيبها الحاج بنفس لازمته الاولي:

–         انه المطر.. حركي النار.

بعثرت العجوز الجمرات بذيل الملعقة كأنما تبحث عن شيء ما ، ثم رفعت رأسها قائلة:

–         ” عندما جئت تلك الليلة.. كان جارنا ( صابر ) قد مات منذ يومين ، ومن كان يصدق ان ذلك اتلجمل سيموت ”

في المقطع السابق نلاحظ الجملة الوصفية التي استطاع ان يستخدمها بحرفنة حيث ربط جيدا بين كانما تبحث عن شيء وعن عثورها على هذا الشيء عبر جملة ثم رفعت رأسها قائلة.. فبعثرة الجمرات في ارجاء الكانون كأنه ارسال عيون الذاكرة الي فيافيها ورفع الرأس هو العثور على ما تريد.. ولقد عثرت على صابر والذي يسجل لنا الكاتب اعجاب الحاجة برجولته وفتوته وطهارته ايضا في جملة من كان يصدق ان ذاك الجمل سيموت.. والجمل مشهور بالصبر على متطلبات الجسد  والجار اسمه صابر  وصديق للحاج ورفيقه في حصد الزرع واستحضار الشخصية من قبل الحاجة لها معنى كبير في النص تركه الكاتب للتأويل. ولعل الجملة الوصفية للحاج ثم طافت ابتسامة على شفتيه تمنح بعض التفسير لقصص عشق قديمة لكنها بريئة مقبولة من الزوجين.. ويستعرض الحاج حكاية داخل القصة عندما كان مع صابر يحصدان الزرع ولسعت عقرب سامة صابر في يده وبعد اسعافه بفصد مكان اللسعة وامتصاص الدم يحدث صابر الله فيما يشبه الهذيان من اثر بقايا السم في دمه: لماذا – يا رب – خلقت العقرب  ؟ هل تحرث عليها ؟ وهنا هذا الحوار مقبول من مسموم في طريقه الى الغيبوبة ومقبول  في النص عكس الحوار القدري السابق مع العجوز ذات الثقافة المحدودة جدا.. وربما نستطيع ان نسقط لسع العقرب في اليد كتأويل عقابي لكل من تمتد يده للحرمات والذنوب.. وشخصية صابر هنا مؤثرة في النص كثيرا و ضرورية جدا لتغذية ذاكرة عجوزين يتشاكسان في صمت وعناد لا ينتهي.

ويتواصل الكر والفر والمكر القادم من ذاكرة العجوز فتسأله ولكن كيف تتذكر كل هذا يا حاج ؟

هنا استغراب منها وجس نبض حول سكوته ونسيانه لبعض المسائل الخاصة.. ويطمئنها الحاج او يتغافل فيجيبها

–         لانني لا املك مخ دجاجة مثلك !!

لكن لا ترضخ وتصر، فنجد في النص:

اطلق الحاج زفرة.. وقال:

–    ” تخرج الذكريات من شق قلبي مثل ثعبان.. تخرج زاحفة ، ملساء ، لامعة ، ملونة.. اننى لا ادري احيانا ان كانت هي التي تفح.. أو قلبي ذاته “

وهنا اجابة ضمنية للحياة او الحاجة نفسها عن سؤالها حول ذاكرة الحاج السخية فخروج الذكريات من القلب وليس من العقل به بعض الرحمة والتسامح.. والقلب المشقوق مجروح بالضرورة.. وخروج الذكريات كما ثعبان تعني انها تخرج بألم.. زاحفة تعني هنا ببطء.. ملساء لامعة ملونة تعني ان الذكريات تخرج او تولد مجددا مشذبة مصقولة واضحة مضيئة يراها التاريخ الان كما حدثت بالأمس بالضبط.. لم تخرج الذكريات كوردة او كقبس.. خرجت كثعبان يفح متوحدا بالقلب.. وهنا يضعنا الكاتب وسط تعبير شعري جميل جدا يرد في جملة.. ” اننى لا ادري احيانا ان كانت هي التي تفح.. أو قلبي ذاته ” ففحيح القلب يربك القارئ ويستحضر لنا ثعبان موجب الإحساس نابض بالرحمة يزحف في النهار ملون املس غير محرشف.. يمتد ويتعرج بسرعة وببطء.. ثعبان مثل هذه الحياة يصنع الذكريات ويخلعها كسوة للتواريخ العارية.

اخفت الحاجة تأثرها قائلة:

–         ” سأعد لك مرة اخرى ، بعض الشاي “

–         ” هذا حسن “

وهنا نلاحظ عبارة اخفت الحاجة تأثرها لنفهم جدا ما يقصده الفاخري من مونولوجات داخلية تحدث بين الحاج والحاجة داخل النص بفعل دخول الطرف الثالث صابر الى نسغ الحكاية..

قالت الحاجة فيما كانت تحرك النار:

–         ” اذكر انك هربت مع المرحوم صابر الى البراري تلك السنة للنجاة من التجنيد لحرب الحبشة

لاحظ جملة تحرك النار  أي الذكريات.. أي تستفز ذاكرة الحاج كي لا يوقف ثعبانه عن تسلق  واجترار شخصية تعشق حضورها..

وسأله صابر لماذا لا يحملون العقارب لتحارب الاحباش.. وربما يقصد صابر هنا النساء.. ويجيبه الحاج انهم يأكلون العقارب في الحبشة فيصيح يا ساتر.

ويختم الحاج تداعياته حول زوجته الحاجة وصابر بقول ليس بريئا:

” لكم افتقدناك تلك الايام ” يقصد ايام هروبه مع صابر من التجنيد في البراري.

ويؤيد هذا الأمر سعال الحاج بافتعال مخفضا بصره.. ولكن الثعبان في قلبه ينتفض من جديد ويجتر قصة ضياعها في موسم الحج.. موسم التوبة من الذنوب والتسامح والدموع يصف الحاج حالته عندما ضاعت منه الحاجة فيقول:

كنت اجري كما المجنون في كل الاتجاهات بحثا عنك.. كانت الشمس تأكل راسي.. وكنت اعدو.. واصيح باسمك مناديا دون طائل.. في اخر النهار ظننت انكِ متِ من ضربة شمس.. وانهم دفنوك دون ان أصلي عليك ( هنا كلمة اصلي عليك قوية جدا وذات مغزى عميق ) وشعرت بغيمة تذرع صدري وتخنق انفاسي( هنا جمال رائع في استبدال الثعبان بالغيمة ودليل على تغلب الخير ).. لكن الاخرين نصحوني ان اذهب الى مقر بعثة الحجيج الليبية للاستفسار عنك وحين وجدتك هناك متكومة في الظل مثل صرة غلبني الضحك والبكاء معا “

تسرب شعاع البرق عبر شقوق النافذة وزمجر الرعد على نحو موحش فيما توالى انهمار المطر.. واستغرق العجوزان في صمت مهيب.

–  ” حركي النار “

وهنا ينتهى الصراع بين العجوزين بنفحة تسامح وضياع وعثور في الاراضي المقدسة وتوبة واختلاط الضحك بالبكاء دليل على العشرة الحسنة والعيش والملح كما يقولون.. وتسرب شعاع البرق عبر شقوق النافذة اضاف لهذا المشهد بعدا انسانيا رائعا غناه الرعد بآهة مملوءة بالقطرات العذبة الجالبة للصمت المهيب.. صمت الفلاسفة والحكماء والزمن المتوقف في بؤر السعادة.. اقوى ما في الفقرة السابقة جملة “حركي النار” من يعيد قراءة المقطع في نفس واحد فسيشعر ان جملة حركي النار في ذاك الموقع قصيدة كبيرة لا متناهية.

والآن حدث الانسجام الروحي ووصل القاص بالقصة الي ذروتها واقصد هنا ليس ذروة الحركة او الدراما الاكشن.. لكن ذروة الرضا بين الحاجة والحاج وانتهائهما من قبر شخصية صابر الذي جلب لهما بعض التوتر الخفي..فنراها تناوله كأس الشاي ثم تسحب رداءها فوق رأسها وتقول:

–    رأيت حلما عجيبا ليلة البارحة.. كان فرج قد حملني معه الى بيت الله.. كنا نحج سويا ولقد اكترى لي اربعة زنوج يحملوني على محفة ويطوفون بي في يسر بالغ كانوا عمالقة مثل المرحوم اخي.. وبقية الحلم ابنها فرج ينشر مظلة ناصعة البياض ظلها يكاد يسع الف حاج  وكانت الحاجة مبتهجة وفجأة تسقط مسبحتها  وتنفرط حباتها..

ويفسر العجوز الحلم تفسيرا لا يعجب الحاجة مثل ان الزنوج هم حراس باب جهنم.. لكن في النهاية يقنعها بأن الحلم هذا هو حنين لإبنها فرج وتعود النبرة الانسانية العطوفة بينهما فتتمنى لو يتزوج وتسأل الحاج لماذا لا تحكي له يا حاج ؟ ويجيبها الحاج ان فرج منذ ان عرف طريق مصر وقضاء اجازاته هناك ما عاد يفكر في الزواج.. وتتواصل الحكاية بين تذكر واشتياق لابنها رمضان الذي يزورها مع اولاده كل جمعة لكن تذكر فرج يطغى عليها من جديد فتقول احس انه لن يطول مجئ فرج ويستغل القاص فعل الانتظار هذا في اجترار نتفا من قصة اخيها المرحوم عندما كانا يغيران معا على معسكرات تموين الجيش الايطالي ويسرقان الدقيق والزيت والسجائر وذات مرة راى الناس اخ الحاجة يحمل برميلا على حماره فبشروا زوجته بان زوجها غنم برميل زيت فوزعت كل الدهن الموجود في زيرها على الاطفال وايضا القديد وعندما وصل بالبرميل كان برميل نبيذ ومات هذا الزوج من ادمان الخمر والحاجة تخشى ان يكون مصير ابنها فرج مثله اي املها يموت مخمورا.. حكاية تجلب حكاية وثعبان يتمطي ويزحف يلدغ الذكريات هنا وهناك  ولا يسممها.. عندما جاءت جملة اخشى ان يكون فرج مثله

تثاءب العجوز بعمق وقال: لا  احد يدري

نبشت الحاجة النار بطرف الملعقة لكنها كانت قد غدت كومة من الرماد.. طرقت الملعقة على حافة الكانون.. وضعتها جانبا.. منصتة الى شيء ما ثم قالت: اتسمع.. لقد توقف المطر

تثاءب العجوز مرة اخرى حتى دمعت عيناه وقال:

لقد تقادم الليل ، سأنهض الآن وأنام.. أخشى ان تفوتني صلاة الفجر

قالت الحاجة:

ربما سيأتي عما قليل

لكن الحاج وقف بتثاقل شديد وافرد ظهره بكفيه معا وإذ بدأ يسحب قدميه تجاه السرير قال كمن يحدث نفسه:

–         لن يأتي إلا مع وجه الشمس !.

وتنتهي القصة هنا بهذه الجملة المؤثرة وجه الشمس.. وجه الحقيقة.. هذه القصة التي تبدأ بثعبان مظلم وتنتهي بوجه شمس وتجول بنا في داخلها عبر بانوراما من تاريخ ليبيا موظفة عدة ادوات عادية نستخدمها يوميا ونراها.. كانون فحم ملعقة مطر برق رعد كأس شاي وبضعة أحلام بسيطة جديرة بالدراسة والقراءة فالقاص سار فيها منذ بدايتها وحتى نهايتها بتوازن لاعب سيرك وذكاء شطرنجي عتيد.. وحتى هذه اللمحات الفنية والصور النثرية التي اوردها هنا كأيقونة وأذان بقرب نهاية الجلسة او انطفاء الجذوة فبها من الحس والذوق الفني الراقي الكثير تأمل هذا المقطع: نبشت الحاجة النار بطرف الملعقة لكنها كانت قد غدت كومة من الرماد.. طرقت الملعقة على حافة الكانون.. وضعتها جانبا.. منصتة الى شيء ما ثم قالت: اتسمع.. لقد توقف المطر.

والمطر هنا يتحول الي حكاية أو قصة انتهت القطرات الهابطة من جنة الإبداع من سردها.. ثعبان الليل جذوة رواية لم يطفئها الزمن وعاشت وستعيش في الصدور فبها من التفاصيل التي تحيلك الى كتابة رواية الكثير جدا وهذه القصة ثرية بالشخصيات الحاضرة والغائبة والمستعدة جدا للتفعيل في أي وقت كشخصية فرج ورمضان وزوج اخت الحاجة المتوفي والجيش الطلياني واجواء الحبشة وحروبها.. ومن خلال قراءتي لبعض الأدب الليبي أستطيع القول أن الكاتب خليفة الفاخري والكاتب كامل المقهور  لو امتد بهما العمر لسطرا اروع الروايات الليبية والعالمية فعالمهما موجود واللغة يمتلكان ناصيتها والخيال يحبهما جدا لكن اللعنة على ثعبان الليل افترسهما على حين غرّة.

مقالات ذات علاقة

أزمنةُ الاغـتراب في المجمُوعة القصصيَّة “شـواطئُ الغُــربة” للقاص د.خالد السَّحاتي

المشرف العام

رواية حبروش لعبدالرحمن شلقم تروي غرائب الذاكرة الليبية**

سالم أبوظهير

الهروب من جزيرة أوستيكا.. تنتصر للحب في زمن القهر

جمعة بوكليب

اترك تعليق