النقد

حطّاب الليل.. رؤية في رواية سراب الليل للكاتب منصور بوشناف

 

الرواية الأولى للكاتب منصور بوشناف سراب الليل1 تحمل عنوانين، أحدهما رئيسي على صفحة الغلاف الخارجي (سراب الليل) والأخر فرعي على غلاف الرواية الداخلي (العلكة)، فهو يرى في سراب الليل ( وهم الفاعلية )، فالسراب هو في الأصل مجرد وهم ناتج عن خداع للبصر، أيضا فإن رؤية السراب ليلا مسألة مستحيلة بالطبع، وهي هنا تأتي في إطار (الفانتازيا)، والذي أردفه بعنوان (العلكة) التي تعني اللاجدوى والعبث وأزمة الفاعلية، فالكاتب يرى ((في العنوان الفرعي سندا للعنوان الأصلي فما خفي في العنوان الرئيسي وعجز عن التعبير عنه يعطيه العنوان الفرعي مدى أوسع في مجال الإيضاح ومجال الفهم)) 2.

ويعدّ العنوان الفرعي (العلكة) أحد المحاور الرئيسية الثلاثة في الرواية مع (التمثال والحديقة) التي تدور حولها الرواية وتتشكل منها بنيتها الأساسية، إذ عند الولوج إلى عالم الرواية يمكننا رؤية هذه المحاور في تقاطعها وتداخلها مع أبطال الرواية في بناء فني يرصد التطور الاجتماعي والسياسي والفكري لليبيا في فترة الثمانيات، متتبعا المسارات التاريخية لهذا التطور، منذ بداية الحكم العثماني إلى الوقت الحالي هبوطا وصعودا، عن طريق تشريح الواقع وتحليله وخلق الرموز التي شكلت دلالات مركبة أبدعتها رؤية الكاتب.

فهذه الرواية تحكي في بعدها المباشر قصة شاب اسمه [ مختار ] وهو ابن رجل بوليس في العهد الملكي السابق، أحب فتاة اسمها [ فاطمة] وهي ابنة موظف في الأوقاف، وكان لقاؤهما صحبة صديقين وصديقتين لهما في الحديقة، ولكن فاطمة هجرته وظل هو في الحديقة التي التقاها فيها لأول مرة، إذ ذهبت للبحث عن حياة مختلفة كان هدفها الأول وهمها الوحيد فيها المال الذي أوقعها في مستنقع الدعارة، كل تلك الأحداث كانت تدور في حقبة زمنية اسماها الكاتب مرحلة العلكة والتي كانت تركيا أهم مصدّريها لليبيا في ذلك الوقت عبر تجارة الشنطة.

يتداخل البعد الواقعي بالبعد الرمزي في هذه الرواية التي تبدأ بتقنية الارتجاع الفني (FLASH BACK) وذلك بتقديم الأحداث المتأخرة في واقع الرواية وتقديمها في السرد، فالكاتب يقدم المشهد الذي يهمس فيه البطل بأذن حبيبته ـ التي تشكل بعدا واقعيا وبعدا رمزيا في الرواية ـ ليكون البداية والنهاية في الوقت نفسه، مسترجعا ذكريات عشر سنوات وهو متسمّر في الحديقة تحت المطر مكابدا آلام لا حّد لها من أحاسيس التيه والفراغ والتهميش.

في مشهد عام يسقط فيه الكاتب تجربته السجنية من خلال البعد الرمزي للبطلة التي ظل يراها وهي تبتعد بمعطفها الأسود وشالها الأحمر تحت المطر لعشر سنوات طوال كانت هي الوطن الأسير والمنهك بالظلم والقهر والاضطهاد (المعطف الأسود) والمحروم من حقه في العيش بحرية وكرامة الذي عبّر عنه بـ(الشال الأحمر) رمز الفكر التقدمي، ثم ينعطف الكاتب على فترة الثمانينات التي كانت مثقلة بالهموم والأوجاع، ليسبر غور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان يعيشها الليبيون أثناء تلك الفترة التي وصفها بـ(مرحلة العلكة)، فالعلكة في رؤية الكاتب منصور بوشناف تعبر عن التكرار بدون جدوى، وعن أزمة الفاعلية وعبثية الفعل، حيث وظفها توظيفا رمزيا إيحائيا تحولت فيه العلكة إلى فعل عبثي يعكس الصلة بين الأسباب والنتائج، ((تلك المرحلة التي طبعت الحياة من حولها بذلك اللوك المتكرر)) ص الذي يمثل عبثية الحياة في ظل الفشل والتراجع إلى الخلف، وقد اسماها الكاتب مرحلة العلكة بكل تفاصيلها.

المشهد الأول يعطي إشارة موجزة لمحاور الرواية: الحديقة، التمثال، فاطمة، مختار، الأب حيث بدأ الراوي بمهاد موجز عن التمثال واصفا بشكل فني وضعيته ومكانه بالمتحف بشيء من التفصيل ((كان تمثال امرأة يعود إلى القرن التاسع عشر وكان وحيدا ملقى بإهمال شديد خارج قاعات العرض، كانت امرأة التمثال تتكئ على جدار ملقية برأسها إلى الخلف مغمضة عينيها زامة شفتيها في انتظار قبلة لا تجئ، كان التمثال يبدو له دائما كائنا حقيقيا بل ربما الأكثر تحققا في المتحف بل في طرابلس كلها)) ص13.

فالكاتب في اعتقادي يرى في هذا التمثال رمزا للديمقراطية والفكر الحر، إذ شكل هذا الرمز بالنسبة له موضوعة مناسبة يسقط من خلالها رؤاه وأفكاره، وذلك برسم امتداد تاريخي لهذا الرمز من خلال طبيعته الثنائية المتداخلة، بين بعده الواقعي (كتمثال أثري) وبعده الرمزي كنصب يعبر عن (الديمقراطية وحرية التفكير)، أما طبيعة التمثال الأنثوية فقد مثلت ((معادل ثقافي ونفسي لتاريخ طويل من وقائع القمع والقهر والتغييب))، ((فهي معبرة عن كل ما هو مضطهد فينا وحولنا)) 3. يحرك الكاتب من خلال هذا البعد الرمزي، دلالات لا نهائية تمثل مرحلة النهوض الفكري في ليبيا، فهو يدخل في محاولة تأصيل هذا التمثال بسرد تاريخي لظروف صنعه ومعاناة صانعه، في محاولة لالتقاط مفاصل تطور الديمقراطية وتتبع مراحلها التاريخية منذ القرن التاسع عشر أثناء الحكم التركي لليبيا إلى الوقت الحالي، فـ((التمثال ظل يعبر الأزمان منذ ذلك الوقت وحتى الآن مجهولا ومنسيا ومدمرا لمن يدرك وجدوده)) ص 20.

تتشابك دلالات التمثال وتتشعب خيوطه في هذه الرواية لتشكل الموروث الثقافي والفكري في ليبيا ((بإنشداده للجدار الذي يشكل قاعدته والمادة التي نحت منها دون أن يتم فصله عنها ليظل أشبه بوليد لم يقطع حبله السري أسيرا ليبياً في ليبيا تقيده الصحراء ويتطلع للبحر)) ص93 ويمثل كذلك تحجر الفكر وإنشداده للماضي وتمسكه بالموروث الثقافي السلفي وعدم انفتاحه على الحداثة الفكرية والحضارية في العالم، ذلك أن كل التجارب السياسية السابقة منذ الاستعمار التركي والإيطالي ثم الملكية والجمهورية والجماهيرية كلها ساعدت على ربط العلاقة بالأخر عبر الولاء لعلاقة الدم وليس الولاء للوطن مما عكس تشوهات كثيرة أدت إلى الجمود والتأخر، ((لم يعثر على تمثال ليبي واحد يقف منتصبا في الفراغ دون أن يكون وسط كتلة أكبر منه غالبا ما تكون جزءا من جبل أومن من كهف أو من حجر كبير)) ص94، هذه الأفكار تكون أسيرة للجمود والتحجر الفكري العربي السائد منذ قرون مضت الذي عبر عنه الكاتب بالجبل والكهف والحجر الكبير.

العنصر الأخر الذي يشكل بنية مكانية تتمحور حولها الرواية، هو الحديقة بكل أبعادها وحمولتها الدلالية التي أفرد لها الكاتب جزءا كبيرا في بنية الرواية، فهي تجسّد ذلك الفضاء المكاني الذي يصور الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية التي كانت تعيشها ليبيا، حيث تتبع الكاتب التطورات التي طرأت عليها، مما عكس امتلاكه لثقافة تاريخية عميقة مكنته من التقاط أدق تفاصيل هذا التطور الذي رصده على مرحلتين زمنيتين (الحديقة، الحديقة 2) بكل ما تحويه من تحولات في بُنى الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تموضع فيها الكشف عن ستر المسكوت عنه في الواقع وذلك بفضحه ورفع الغطاء عنه، الذي تمثل في ظاهرة الدعارة، والتعهّر في المجتمع الليبي بكل أشكاله وألوانه حتى السياسية والفكرية منها، عن طريق سرد تاريخي لهذه الظاهرة، فالكاتب يرى أنها ظاهرة قديمة قدم المجتمعات البشرية وإن معالجتها ليس بالسكوت عنها وطمرها كما في العرف الاجتماعي، بل بمعرفة أسبابها ودوافعها وطرق علاجها، فهو ينوّه من خلال نصّه المضمر بأن بيوت الدعارة عندما كانت معلنة وأماكنها واضحة ومعروفة كانت أقل انتشارا وأقل انتهاكا لجسد الوطن، فالحديقة ((لم تشهد إلا حملة من قبل البوليس الوطني على العاهرات ليس لمنع الدعارة وإنما في إطار تنظيم البلد ومؤسساتها وكانت إعادة الدعارة إلى مواقعها المخصصة لها أي إلى شارع الفيلسوف العربي الكبير (الكندي) الذي كان يحمل قبل الاستقلال اسم ((فيا جلدوني)) واحدة من خطوات تنظيم الموارد وإدارتها، فلقد تشتت العاهرات نتيجة للحرب وغادرن شارع الفيلسوف الكندي وصرن يتخذن من الحديقة مكانا لنشاطهن المهني ولم يكن ذلك مناسبا بالتأكيد)) ص 30.

تتركز حركة الأحداث ضمن فضاءين ؛ الحديقة التي تمثل الحياة الواقعية والمتحف الذي يمثل القيم الفكرية ((كان يقودها إلى المتحف وكانت تقوده إلى الحديقة حيث بإمكانهما أن يتحدثا…كان ورغم صمته يبدو في الحديقة أكثر اكتمالا وأكثر قربا منها، كانت الحديقة ورغم بؤسها رغم العلب الفارغة وأعقاب السجائر رغم المتطفلين وباعة الحشيش والخمر ورغم مداهمات الشرطة مكانا أرحب وأنسب للقاء عاشقين من المتحف، لذا ظلت تجره إلى الحديقة تنظف الكرسي الأحمر بمنديلها وتدعوه للجلوس، لتحس بوهج روحه وهو يخترق جسدها باحثا عن بئر وجودها السري)) ص 27.

تشكل الحديقة إيقاعا مكانيا تحرك فيه الإيقاع الزمني وتداخلت أبعاده التاريخية، والتي استمدت واقعيتها من طابع الحياة وحركيتها من خلال روادها عبر العصور والحكومات التي مرّت على ليبيا، راصدة الأحداث السياسية في بعدها التاريخي والواقعي ((الحديقة لم تكن كما التمثال بنت القرن التاسع عشر ولكنها مثله عبرت مع طرابلس أزمانا وعصورا)) ص 24.

الأب (الأفندي عمر) يمثل السلطة الأبوية القامعة، فالكاتب فعّل دور الأب السلطوي عبر التأكيد على بوليسية هذا الأب وحياته المتناقضة بين السكر والتعهّر ليلة الجمعة، والصلاة في المسجد يوم الجمعة، فهذا ((التناقض جعله يسكر حتى الفقدان ليلة الجمعة وينهض رغم الصداع ويستحم ويتوضأ ويمضي إلى صلاة الجمعة خاشعا خشوعا حقيقيا وجعله أيضا يطلق النار بشراسة على الطلبة ويبكي بكاء مرا أمام جثث ضحايا حوادث المرور)) ص33. يوظف الكاتب هذه الشخصية ليرسم تحولات العلاقات وتناقضها، المعبرة عن التناقض والانفصام والنفاق الاجتماعي وعن الأزمة بكل أبعادها، حيث تسقط البطلة في أحضان الأب الذي (يمثل التقليدي والموروث)، وتبتعد عن البطل (رمز الحداثة والعصرنة) والحب والحياة الكريمة والشريفة. استطاع الكاتب بحذاقته وأسلوبه وتقنياته الفنية أن يطبع الرواية بطابع سيميائي، إذ تلاعب بدلالات الرواية الأساسية (التمثال، الحديقة، البطل، البطلة، الأب) وزودها بشحنة رمزية، حيث وسّع من حقل دلالاتها دون أن يفقدها الصلة مع مستوى الحياة اليومية المباشرة في الرواية، فتارة تأتي في بعدها الواقعي وتارة أخرى يفّعل دورها الرمزي ويشحنها بطاقة إيحائية في حركة واعية وبناء متشابك وتكثيف رمزي يرسم خطوط الحركة ويعرّي الواقع عن طريق تصاعد خط الوعي المتمحور حول الأوضاع الليبية في أبعادها المختلفة، التي ظلت رهينة الإنشداد إلى الوراء من فترة الثمانينات (مرحلة الحصار) حتى مرحلة الانفتاح والتجارة (الحديقة 2)، متتبعا لمساراتها في بنية دينامية تسلط الضوء على سياسة الاستهلاك وعدم الإنتاج ص66، وترصد الأوضاع الأمنية ص 57، والتغيرات في البنى السياسية والفكرية التي تحولت على يد أساتذة الفلسفة والاقتصاد ورجال الثقافة والفن والبيئة إلى هامش منسي، فانعدم الفن الراقي والأنشطة المسرحية والموسيقية والفنون الشعبية، وتكدّس الزبالة في كل مكان.

الكاتب بلور تجربته الواقعية (فترة سجنه التي استمرت لمدة عشر سنوات) التي تعدّ العنصر الأهم الذي انطلق منه في كتابة روايته حيث رمز لها بتسمّر البطل في الحديقة لمدة عشر سنوات طوال، إذ عبرت هذه الوقفة في الحديقة عن معادل موضوعي لفترة سجن الكاتب لما تحمله من دلالة الإقصاء والإبعاد والجمود.

يتحرك بطل الرواية بين بعدين متناقضين ؛ بُعد الركض ((مطاردا سراب ليل دامس طويل يأخذ شكل بقعة ضوء أزرق شفاف)) ص58، وبُعد التسمّر والجمود ((عبر سراب الليل ظل يرحل خلفها متسمرا تحت شجرة وسط الحديقة لاهثا في انتظاره خلف لحظة توقفها ثم ركضها باتجاهه)) ص63. هذه الحركة بين الركض خلف سراب الليل (وهم الفاعلية) والتسمّر في الحديقة، تكشف عن جوانب خفية من الواقع في محاولة لتفجير هذا الواقع وإضاءته من الداخل الذي يظهر وضعا إشكاليا متداخلا تحددت مستوياته التي تحكمها علاقة التباعد والتنافر، الفوضوية، عبثية الانتظار، وأزمة الفاعلية والإنتاج، لتصب في خلاصة البحث عن الحرية والفاعلية، بالحراك الجماعي لا بالخلاص الفردي الذي يعد عبثا.

هذه الرواية تضعنا أمام أبطال يفتشون عن ذواتهم في (الحرية، الفن، الحب، المال، المتعة) فكل واحد منهم حصر نفسه في دائرة تحرك منها الكاتب للبحث عن حل لإشكاليات الواقع التي تطرحها الرواية، في محاولة رسم صورة لليبيا مجردة وعارية من كل تزييف، تماهت فيها تجربة الكاتب الذاتية (التجربة السجنية)، مع أحداث ووقائع فعلية ترصد فترة زمنية محددة عشر سنوات (مرحلة الثمانينات)، هذه الإسقاطات تكشف عن جوانب خفية من الواقع النفسي الذي عاشه البطل، وللتأكيد على إضاءة الآثار النفسية التي تركتها تجربة السجن على الكاتب، فقد مارس لعبة الظل والضوء الذي عكس التمثال أحد وجوهها، فكل من البطل والتمثال كان سجينا ووحيدا ومبعدا ومنسيا وكلاهما كان يبحث عن الحرية والجدوى ((كان وحيدا وعطشا وبائسا لعشر سنوات مضت)) ص 64. حيث وضع الراوي الوجوه والأحداث المتناقضة أو المتشابهة بعضها قبالة بعض، فكل منها تعكس صورة الأخر وتضئ الجوانب المظلمة فيه إذ تماهت تجربة الكاتب مع التمثال، فطبيعة التمثال الجامدة تعكس وضع البطل المتسمّر تلك الوضعية المشتركة التي تتسم بالجمود، فقد ((كان ظلام سجن السرايا الحمراء وخيوط النور التي تتسلل من كوة صغيرة قرب السقف كان البرد والرطوبة وكان الحر القاتل والرطوبة المقرفة في الصيف، كانت الشهوة العارمة لجسد الأنثى وكان رعب العجز، كانت الرحمة الربانية التي طال انتظارها وكان السخط العارم على القدر كانت كل هذه المتناقضات وعشرات غيرها ما أنتج هذا التمثال المتناقض الأمزجة والأهواء)) ص 86.

نهج الكاتب تقنية إسقاط الأفكار والرؤى على أشخاص في الواقع الحسّي، وذلك برسمه للتحولات في النظام الاقتصادي والاجتماعي وانهيار القيم، هذه التقنية شكلت أداة جيدة لإضاءة جوانب متعددة في هذه الرواية، بإبداع الرموز التي تشكل دلالات حركية غير متناهية بين بعدها الرمزي وبعدها الواقعي ((ذلك أن الرمز اقتصاد لغوي يكثف مجموعة من الدلالات والعلاقات في بنية دينامية تسمح لها بالتعدد والتناقض)) 4.هذه الرواية أتت على هيئة دفقة واحدة ونفس واحد، فليست هناك فصول وأبواب وأقسام، بل هناك حديث يبدأ بصوت الكاتب الذي استمر في سرده بلغة غلبت عليها الجمل الاسمية الدالة على السكون وعدم الحركة التي تقصّدها الكاتب لتكتمل بها دلالات الرواية. البناء الفني لأحداث الرواية يتميز بتقنية جديدة أو شكل بناء فني يقترب من شكل الكتابة المسرحية (المعروف أن الروائي هو كاتب مسرحي بالأساس) التي تختلف عن طبيعة الكتابة التقليدية التي تقدم ((الحدث الرئيسي أو هيكل الرواية عن طريق سرد الوقائع بحسب تتابعها الزمني)) 5 ولكن في هذا السرد الذي وظفه الكاتب في بناء روايته يقوم على هيكلية الانطلاق من وضعية ومواقع معينة لأبطال الرواية، فالأبطال أشخاص ومسارات في الوقت نفسه تجسدت في مشاهد تخللها تدخل الكاتب وظهور شخصيته من حين لأخر ص 143، كما ظهرت طبيعة الكاتب في الكتابة المسرحية من خلال تقطيع الرواية إلى لوحات فنية سردية مستقلة في وحدتها العضوية حينا ومترابطة حينا أخر، هذه المشاهد تفتقر إلى الحوار إذ تخلو منه الرواية بشكل كامل، وقد اتسمت الخطوط الروائية في القصة بالسير في أكثر من اتجاه متواز مما يدل على رغبة الكاتب في توظيف تقنيات الرواية المعاصرة وصولا إلى أنسب الصيغ الفنية والروائية للتعبير عن خلاصة تجربته الفنية والموضوعية، فلا تكمن خصوصية هذه الرواية في تميزها بتناول قضايا سياسية تمس حياتنا، مبنية على أسس تاريخية في قالب أسري اجتماعي، بل بما تكتسبه من خاصية هذا التناول وطريقة طرحه، فهي تقدم هذه العلاقات في بنية متشابكة ودينامية ترتكز على إضاءة مستويات التحول وتتبع سياسة (وضع الأصبع على الجرح) في تجربة فنية يتماهى فيها الذاتي بالموضوعي.

يلاحظ القارئ في رواية سراب الليل اعتمادها على المفارقة، بدءا بالعنوان الرئيسي ومرورا بالموضوعات والصور الوصفية والسردية وانتهاء بالبناء الفني للرواية، فهي تتميز باحتوائها على عدة عناصر متناقضة: الذات والأخر، الحرية والقمع، الجسد والروح، الأمل واليأس، اللقاء والإبعاد، النظرية والممارسة، وما هو واقع وما يجب أن يقع، حيث تولد هذه المفارقة عدة مستويات من علاقات التنافر والانهيار والتوتر والاحتقان والأمل التي تحكم الرواية، فباطن الحياة التي يصورها يتضاد مع ظاهرها في مفارقة تصورية كبرى، لأن بناء الرواية القائم على عدم الربط بين الظواهر برفضه مبدأ العلية والسببية في بناء الأحداث، جعل منها رواية تتصف بالغموض والارتباك، فعلى الرغم من أن ظواهرها المتجاورة والمتباعدة والمتنافرة والمتوازية قد تبدو عصية على الفهم إلا أنها تقدم نمطا بنائيا جديدا مهمته تكمن في إثارة الشك والتساؤلات، فليس غرضها استمالة القارئ ودفعه إلى الاندماج مع بعض الشخصيات أو مع العالم الروائي، بل تدفع إلى التفكير والتأمل بما تقدمه من مفارقة تعبيرية تصدم القارئ وتهز وعيه الجمالي.إن اهتمام الكاتب بالمادة التاريخية مدها بالحياة والحركة، ولكنها ليست رواية تاريخية تقليدية لأن اهتمام الرواية ينصب على اللحظة الراهنة على الرغم من وفرة المادة التاريخية والموازنات والمقابلات المستمرة بين الماضي والحاضر في مفارقة تعبيرية ممزوجة بالسخرية اللاذعة.

سلط الكاتب الضوء على الحدثين الرئيسيين اللوك والتسمر، اللذين شكلا بؤرة التمركز في هذا العمل الروائي فكليهما يفضي إلى الجمود واللاجدوى، حيث ارتبطت بهما خيوط اللعبة الدرامية كلها، إذ يأخذ الحدث هنا بعدا بطوليا، فالبطل هو الحدث نفسه أما الشخصيات فهي مسخرة لخدمته، فقد حشد الكاتب كل إمكاناته الفنية لخدمة الحدث وإبرازه، بتصوير العمق المكاني أو المجال الموضوعي الذي يتحرك فيه الحدث واظهر أبعاده النفسية وحمولاته الدلالية حيث وصل الحدث الدرامي إلى نهايته وأخذ يتصاعد نحو الذروة في مشهد شديد الدرامية تجسّد في بحث البطل بعد تسمره الطويل عن الأمل والجدوى المفقودين ((غادر بطلنا الحديقة ولم يفكر في أمه ولا في أبيه ولا في بيتهم، كانت هي الكائن الذي حاول التمسك به عبر هروبه من سراب الليل بتسمره، هدفه الذي انطلق للبحث عنه، عبر شوارع تغيرت كثيرا عما تركها عليه، عند مغادرتها إلى تسمره الطويل)) ص148. ينهي الكاتب روايته بالمشهد الذي بدأ منه، حيث تكون البداية هي النهاية ليؤدي به غرضين في آن واحد: غرض فني تمثل في البناء الدائري للرواية، وغرض موضوعي هو فقدانه الإحساس بحركة الزمن الذي عبر عنه بالتسمّر، نهاية أظهرت مدى التشوّه والدمار الذي تُرجم إلى هزيمة وخيبة أمل ((اقترب من دون أن تنتبه له قرب شفتيه من أذنها كي يهمس فيها انتفضت ملتفتة إليه ونظرت بعينين ما كانتا عينيها: كانت الأصباغ ورغم كثرتها عاجزة عن إخفاء ذلك الإرهاق وذلك الوجع وكان قصر القامة الذي ظل يشده لها قد بدأ ومنذ الوهلة الأولى منفرا أثر البدانة أدرك أنه ظل هناك عشر سنوات طوال وأن الزمن هزمه فيها)) ص149.

الأبطال في هذه الرواية لا يأخذون أشكالهم الكلاسيكية، فكل بطل يمثل وجها من وجوه الواقع في تصدعه وإقماعه وتفككه واغترابه عن محيطه وهامشيته وخيبة أمله، فالرواية مأسوية ومأساتها لا تنجم من سقوط التمثال وتهشمه وتسمر البطل وعجزه وهزيمته وسقوط البطلة أمام قسوة الواقع في مجتمع معرض فيه كل شيء للبيع والشراء ولا في حالة الفوضى التي تعم كل شيء ولا في موت الأب، فمأساتها تنتج من حركتها، فهناك حالة عبث في كل شيء، حالة من اللاجدوى يعيشها الجميع، تجسد في عجز الإرادة وخيبة الأمل وعدم القدرة على الفعل الإيجابي في زمن موحش كل شيء خاضع فيه لنظام السوق، عالم الرواية يقف على هاوية السقوط ليعيش حالة من اللاجدوى (اللوك المتكرر للعلكة) ويكون الانهيار الذي تعيشه الرواية هذا هو المسار الذي ترسمه الرواية فلم يكن هناك صراع جماعي بل انتفاضات فردية أدت إلى الانجراف نحو انتصار مرحلة العبث ((دخل وحيدا ومتعبا وهزيلا ظلام ليل طويل طويل…كانت العلكة تتكدس في الأسواق إثر الانفتاح الاقتصادي وكذلك الشامبو والموز والمجلات المصورة كانت البلاد تطوي تسمره بانتصار العلكة)) 150.

__________________

الهوامش:

1- سراب الليل، منصور بوشناف، دار ليبيا للنشر، القاهرة، ط 1، 2008.

2- عتبات النص الروائي في حارسة الظلال، كمال الرياحي، مجلة شئون ثقافية، العدد الثاني، 2006.

3- أفق آخر، محمد الفقيه صالح، منشورات مجلة المؤتمر، ليبيا، 2002.

4- حركية الإبداع، خالدة سعيد.

5- المصدر نفسه.

مقالات ذات علاقة

تقودني نجمة’ لمحمد الأصفر: مدن متشظية

منصور أبوشناف

بعضُ المحطات قبل محطات…

يونس شعبان الفنادي

لوحة احتضار السمكة… صورة عن انتحاب روح الفنان

أحمد الغماري

اترك تعليق