المقالة

التاريخ… ذلك المجهول

تاريخ ليبيا ليس منتظماً. إن تبدّل العصور في ليبيا لا يتم إلا بتبدّل الأمم والأقوام التي تظهر على سطح التاريخ بين زمن وآخر، ويكاد يكون تطوّر الأدوات في الزمن القديم مستعاراً من الأمم الوافدة، أي إنه ليس إبداعاً من الأهالي أنفسهم، بالرغم من “الابتكارات” النادرة التي تعود إلى الجرمنت والأمازيغ والليبوفينيقيين، أما تشكُّل الكيانات السياسية وكرونولوجيا الحُكْم التي تتبعه فنجده قد صُنعَ مشاركةً بين الأهالي والوافدين، وبشكل عام فإن التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لليبيا (بحدودها الحاليّة) هو تاريخ مظاهر التفاعل سلباً (ومثاله الغزو والاحتلال) وإيجاباً (ومثاله الهجرة والتوطن)، إنه آخر الأمر ليس من نوع “الإنتاج المحلّي” الصرف.

من قبيل العبث أن يتم التفكير في تاريخ ليبيا باعتباره تاريخ دولة واحدة، إن تاريخ ليبيا هو في الحقيقة تاريخ مجموعة من الدول والأقوام التقت في كيان واحد فتنازعت وتداخلت، تقدّمت وتراجعت، انتصرت وانهزمت، توطّنت ورحلت، بعضها نجد آثاراً منها في معمارها أو بقايا ثقافتها، وبعضها تلاشت فاختفى أثرها إلا من إشارات المؤرخين لها، وهي إشارات لا يمكن رصدها غالباً ضمن إحداثيات المكان والزمان بطريقة سهلة.

الوافدون إلى ليبيا كان منهم الشرقيون، كالفينيقيين، وكان منهم الغربيون كالإغريق والرومان، وكان منهم العابرون كالوندال، ومصادر التاريخ الليبي القديم – إذا عدنا إلى كتابات المؤرخين – ليست وطنيّةً بقدر ما هي يونانية أو رومانية، والقليل النادر منها مصريّ، والأقل ندرةً هو الفينيقيّ… لن أتحدث عن النصوص العربية التي كُتبت في مرحلة لاحقة والتي تجمع بين التأريخ و”تصوّر” التاريخ… عن التاريخ القديم أتحدث.

إننا نجد إفريقيا والعالمَ بدلالة ليبيا، أكثر مما نجد ليبيا بحدّ ذاتها، أي أن الباحث أو المؤرّخ المعاصر إذا انحسرت أمامه المصادر القديمة، فإنه ربما يجد ليبيا عَرَضاً في نصّ قديم عن مصر أو الزنوج أو الفينيقيين، ولكننا نرى أغلب ذلك يتداخل مع ما أراده الرومان أصحاب هذه المصادر، ويزيد الأمر لبساً أن الكثير من النصوص الحديثة التي تعتمد هذه المصادر تعرض على قرّائها وقائع وأحداث الوافدين على ليبيا بينما يعتقد كتّابها أنه يعرضون عليهم تاريخ ليبيا والليبيين.  هذا الأمر ينعكس بالطبع على مفهوم الهويّة الذي أقول أنه مجرّد تجلٍّ للرغبة لا يعبّر عن واقعٍ محدّد ولا يستجيب لأي شروط مسبقة.

لم أقرأ كتاباً واحداً عن تاريخ ليبيا القديم، في الحقيقة لم أعثر على كتاب كهذا. التاريخ الصّرف يكاد يكون أسطورة، وعندما لا يكون التأريخ حينيّاً مواكباً فإن مسارات الأحداث والوقائع تغرق في ظلال كثيرة وتتناثر حولها تفاصيل ونقائش قومية أو دينية أو أسطورية تغلب على الحدث الأصل. لقد ضاع كتاب أريستبوس القوريني (تاريخ ليبيا)… لم – ولن – نعثر عليه أبداً، ولولا إشارات وردت هنا وهناك ما كنا لنعرف عنه شيئاً.

إن تكوين ليبيا عبر التاريخ، إرهاصاته وأسسه ومساراته، لا يخرج غالباً عن وجهات نظر من يكتبون. هناك دائماً ثغرات ونواقص مربكة. ويبدو أننا لا نستطيع الحديث بشكل علميّ دقيق إلا متى كنّا مؤهلين لأن نعلن أمام العالم أن المسح الآثاري (الأركيولوجي) قد انتهى، أعني في مجمله، إذ لا مسح كهذا ينتهي في حقيقة الأمر. عندئذ ربما تشهد كتاباتنا التاريخية جدلاً أساسه توجّهات أو وجهات نظر الباحثين مع توفّر الأدلة والقرائن الأثرية وربما بعض النصوص المجايلة لهذا العصر أو ذاك.

_______________

نشر بموقع الأيام.

مقالات ذات علاقة

حصار المسلمين بين الأمس واليوم

سعيد العريبي

تُونس من جِلدِ ثورٍ ليبي، وجدارها من رمل!

أحمد الفيتوري

شظايا

محمد دربي

اترك تعليق