المقالة

هجرة الوز البري

يكثر الحديث، خصوصا في فترات الأزمة، عن النخبة، تلك المجموعة أو الخلاصة أو الطبقة التي تقود المجتمع لإخراجه من الأزمة أو الفوضى. ورغم غموض هذا المصطلح لدينا فإن الجميع يستخدمه دون تروٍ، بل كثيرا ما يصب جام الغضب عليها باعتبارها هي من قادت المجتمع إلى هذا المصير، أو، في أفضل الأحوال، خذلته.

البعض يعتبر المثقفين هم النخبة، والبعض يعتبر الساسة وخبراء الاقتصاد هم النخبة، والبعض يعتبر علماء الاجتماع. والبعض يعتبرها التكنوقراط، والبعض بالنسبة له هي الخليط من كل أولئك، بينما الواقعيون جدا، من يسلمون بسياسة الأمر الواقع، يعتبرون النخبة من آلت مقاليد البلاد إلى أيديهم.

سبب غموض هذا المصطلح أو تشوشه هو ما رزحنا تحته من طرح بدائي لأيديولوجيا الجماهير، ولمدة عقود، تعمل ضد فكرة النخبة من أساسها، بل غالبا ما كان استخدام هذا المصطلح محرما ومحملا بتهم عدة، أقلها الرجعية.

فعصر الجماهير من ناحية ضد هذه الفكرة، وحكم الفرد المطلق من ناحية أخرى طارد لها.

سأستعين بتوصيف الشاعر المفكر تي إس إليوت لهذه الظاهرة في كتابه «ملاحظات نحو تعريف الثقافة» ترجمة: د. شكري محمد عياد. وفي فصله المتعلق بالبحث في مفهوم الطبقة وحتمية اختفائها مع ظهور الصفوة. «الصفوة» التي سأعتمدها كاصطلاح بديل للنخبة من الممكن أن يكون أكثر دقة وأكثر واقعية بالنسبة لمجتمعنا، خصوصا في هذه الظروف.

يرى إليوت: «أن الأفراد الممتازين يجب أن تتشكل منهم جماعات مناسبة، تتمتع بسلطات مناسبة، وقد تتمتع أيضا بأنواع شتى من المكافآت وعلامات التشريف. وتتولى هذه الجماعات المشكلة من أفراد ذوي أهلية للحكم والإدارة توجيه الحياة العامة للأمة، ويقال للأفراد الذين تتألف منهم أنهم (قادة)؛ ويكون هناك جماعات تعنى بالفن، وجماعات تعنى بالعلم، وجماعات تعنى بالفلسفة؛ كما تكون هناك جماعات تتألف من رجال الأعمال: وجميع هذه الجماعات نسميه بالصفوة».

لا ننسى أن إليوت الذي كتب قصيدة الأرض اليباب بعد الحرب العالمية الأولى والتي تعتبر عند بعض النقاد تمثيلا لزوال وهم جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى؛ وهي القصيدة التي كان لها تأثير كبير في شعراء ما بعد الحرب العالمية الثانية العرب، ولا ننسى أنه نشر هذا الكتاب عام 1948 بعد الحرب العالمية الثانية وما عقبها من دفاع عن الثقافات القومية والثقافات المحلية داخل القومية الواحدة.

وبالتالي فإن مفهومه للصفوة/ النخبة، متماهٍ مع تلك المرحلة وما قبلها ومع مجتمعات مدمرة بدأت تسعى لبناء دولها من جديد وفق بناها الاجتماعية المتبقية التي تغير فيها المفهوم التقليدي للصفوة مع ظهور أدبيات المجتمع الجماهيري المفتوح “ليس لدينا أية فكرة واضحة عن كيفية العمل في انتخاب الصفوة في مجتمع جماهيري مفتوح، لا اعتبار فيه لمبدأ الكفاءة. ومن الممكن في مثل هذا المجتمع أن يحدث تعاقب الصفوات بسرعة أكثر مما ينبغي، فيعوزه الاستمرار الاجتماعي الذي يرجع في جوهره إلى اتساع الفئات السائدة اتساعا بطيئاً وتدريجياً”.

يشير إليوت إلى محاجة للدكتور منهايم في مكان آخر، مفادها؛ أن المجتمع الجماهيري يميل نحو التخلي عن مبدأ الكفاءة، لكن هذا التوصيف قد يجيب عن السؤال المطروح بشأن فقر أو ضعف النخب في التجربة الليبية، ومن ثم العوز إلى التراكم التاريخي للنخب وفق مبدأ الكفاءة وليس الولاء.

حيث تعكس الواجهة الليبية طوال الحقبة الفائتة هذا التعاقب السريع لما يسميه إليوت الصفوات الذين يتصدرون المشهد دون أن يشكلوا قاعدة حقيقية للتعاقب الإداري أو قاعدة لما يمكن أن نسميه منبع (القادة) القادرين على قيادة المجتمع في الظروف العادية أو الخروج به من النفق في حالة الأزمة، والحال أن المجتمع الذي يفقد صفواته بين إعدام وسجن وتهجير قسري يتعرض لخطر لا يقل فداحة عما يتم داخله من مذابح.

يشير إليوت في هذه المقالة إلى ما يسمى مجازا «هجرة الوز البري». والضرر الذي ألحقته إنجلترا بآيرلندا، وتعرف الحادثة في التاريخ الآيرلندي بـ «هجرة النبلاء» خوفا من غدر الملك جيمس، الذي يعتبره أفدح من مذابح كرومويل.

المجتمع الذي لم تنضج فيه طبقات من شأنها نقل وتوارث الثقافة وتهيئة المناخ الاجتماعي لحراك أفقي ورأسي عادة ما تعوض فيه الصفوات التي «تسوده» هذا النقص، مع الأخذ في الاعتبار أنه ليس من الضروري أن تكون على رأس هرم السلطة.

ويوضح إليوت رؤيته عن طبيعة علاقة الصفوات بالمجتمع بقوله: «عندما أقول (تسوده الصفوات) بدلا من (تحكمه الصفوات) فأنا أعني أن مثل هذا المجتمع يجب أن لا يقنع بأن يحكمه الصالحون، بل يحرص على أن يرفع أكفأ الفنانين والمهندسين فيه إلى القمة ويؤثروا في الذوق، ويقوموا بالأعمال العامة ذات الشأن؛ وكذلك يجب أن يفعل في سائر الفنون والعلوم؛ ولعل من الواجب قبل ذلك كله أن يكون مجتمعا يستطيع أقدر العقول فيه أن يعبروا عن أنفسهم بالتفكير النظري».

إن ما يشغل إليوت في هذا الكتاب هو آلية نقل الثقافة والخبرة، الشأن الحري بالصفوة فعله في غياب الطبقات في المجتمع أو ضعفها. ولا ينسى أن يشير إلى الأسرة كقناة أهم في مسألة نقل الثقافة، مع احترازه حيال الأسرة كمفهوم واسع ومتحول، ممتد في الماضي والمستقبل «حين أتحدث عن الأسرة أعني رابطة تستوعب فترة من الزمن أطول من هذه: أعني ولاء للموتى مهما يكن ذكرهم غامضاً، وبِراً بمن لم يولدوا مهما يكن عصرهم بعيدا».

ويعني بالفترة أطول من هذه فترةَ الأسرة التقليدية المتكونة من الوالدين والأبناء فقط، لكنه يستدرك تاليا طبيعة هذا الولاء بتأكيده على أن «هذا الاهتمام بالماضي يختلف عن غرور النسب وفخاره ؛ وهذه المسؤولية عن المستقبل تختلف عن مسؤولية من يبني البرامج الاجتماعية».

قد لا نختلف كثيرا حيال كون حقبة النظام السابق استطاعت بعقلها الرعوي ورغبتها في الحكم المطلق أن تقوض البناء الطبقي للمجتمع وتجهض تلك الطبقة المتوسطة الناشئة بعد تحسن دخل الليبيين مع تصدير النفط، كما شنت أدبياتها الجماهيرية حملة ضد مبدأ الصفوة أو النخبة، ولكن لأن الصفوات نتاج حراك اجتماعي طبيعي خارج عن تحكم الإدارة السياسية بقيت بجميع أنواعها سائدة في المجتمع وإن كانت ضعيفة الفعل بسبب سوء التشريعات النافذة والفساد والقصور المؤسسي، واستطاعت الأسرة أن تعوض غالبا نقص تنمية المهارات البشرية والقصور الكبير في ميكانيزمات نقل الثقافة.

للأسف استمر هذا النهج حتى بعد سقوط النظام فاعلا بالدفع الذاتي، ومازلنا نسمع الكثير من المهاترات التي تؤثم النخبة وتدعو لإقصائها تحت شعارات فضفاضة عن المساواة وعن الوطنية وعن التضحية كقيم في حد ذاتها دون الاهتمام بمبدأ الكفاءة.

يقول إليوت جازما دون أن يتخلى عن احترازاته المنهجية «عندما تعجز حياة الأسرة عن القيام بدورها فيجب أن نتوقع انحدار ثقافتنا».

_____________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

يوميات العشاق الفقراء 2/1

محمد عقيلة العمامي

المثقفون الجدد والمشهد الثقافي (1)

الحبيب الأمين

السيف والوقت

محمد دربي

اترك تعليق