النقد

قراءة في مجموعة (لا تحرج الموت الجميل) للقاص الدكتور: زياد علي

د.زهير غازي زاهد-العراق

إذا كانت الرواية “الحفيد الوليد” للملحمة وهي والمسرحية شكلان أدبيان عظيمان(1) فإن الأقصوصة بأشكالها تتصل بالقصيدة الغنائية بأكثر من خصيصة فنية غير الظواهر اللغوية الأسلوبية، واستحداث نمط القصص القصيرة جداً وتداخلها مع ما يسمى بقصيدة النثر دليل على ذلك، وستبقى الأنواع الأدبية أو أجناس الأدب قائمة في أكبر الظن وإن كثرت المحاولات في تخفيف الفروق بينها أو طمسها(2). وكذلك يبقى لكل نوع أسلوبه أو خصائصه الأسلوبية في الأداء بل ويبقى لكل أديب أسلوبه وإبداعه داخل تلك الأساليب، وتبقى أيضاً المذاهب الأدبية ومذاهب الأدباء في الإبداع تتحرك في فضاءاتها غير ثابتة، لذلك نجدها تتطور عبر العصور وبأقلام المبدعين. فأين تقع مجموعة “لا تحرج الموت الجميل؟”.‏

المجموعة من ثلاث عشرة أقصوصة وحكاية صدرت عن اتحاد الكتاب والأدباء العرب عام 2000، كتبت على مدى عشر سنين من (87-97)، لقد تطابقت تلقائياً في زمنها مع المجموعة القصصية للكاتب الإيطالي (ديوفني بوكاتشيو)، المسماة (الأيام العشرة) فهي مكتوبة في مدى عشر سنين أيضاً، وهي أساس انطلاقة هذا الفن القصصي وقد تأثر بها الشاعر الإنجليزي (تشوسر) عند كتابته قصصه الشعرية (حكايات كانتربري)(3).‏

إن قراءة مجموعة (لا تحرج الموت الجميل) تذكر بمقولة “بوفون”: “الأسلوب هو الإنسان نفسه. فهذه المقولة على إطلاقها وشمولها تنبئ بسعة ثقافة كاتب هذه المجموعة، فهو كثير التنقل والأسفار واسع التجربة كثير الصلات بمختلف الأدباء والفنانين يحمل هموم وطنه وآماله أينما حل وفي أية محطة أقام. وبالرغم من غربته لم يغادر الوطن بكل مافيه من أعراف وتقاليد ومثل. وقد كان تعبيره وإبداعه نابعاً من محليته التي اتصفت بها أعماله وهي صفة مهمة من صفات المبدعين.‏

ومن آثار رحلاته وأسفاره صلاته بألوان من الناس من مختلف الأمم والشعوب، فمنهم الإسباني والألماني والإفريقي ومنهم العربي العراقي والمصري والسوري واللبناني والأردني واليمني.. وللكاتب قدرة فائقة على رسم صورة قلمية لكثير من الشخصيات التي التقاها في أقاصيصه وما صاغه من حكايات شعبية إذ استطاع صياغة عدد من الحكايات الشعبية بأسلوب الرواية المنجمة مع قصر الفصول المفرط، فقد لا يزيد الفصل الواحد أحياناً عن الأسطر لكنه حافظ على نموها الروائي بفنية عالية، فقد كان يعادل قصرها بكثافة التعبير عن مادتها الحكائية(4)، وفي هذه المجموعة نماذج منها، كما كانت له قدرة على تصوير بيئات عاش فيها أو مر بها تصويراً دقيقاً. هذه الصور البارعة من عالم الشعر الذي يداخل آفاق القصص القصيرة في كثير من الأحيان ويداخل أجناساً أدبية أخرى تؤدَّى بنثر فني مركز كما هو في النوع الذي سمى (قصيدة نثر) وهو في حقيقته نثر فني مركز.‏

وبقراءتنا المجموعة قراءة أسلوبية نستطيع تحديد أهم خصائصها العامة:‏

1 ـ يغلب على حديث الراوي ضمير الغائب (الشخص الثالث) وهي سمة أكثر الأعمال الروائية ليبقى الأديب متابعاً مطلاً على آفاق الحكايات والأحداث ويتحرك مع الشخوص والمواقف.‏

2 ـ إنها جميعاً كتبت بأسلوب شعري إيحائي سواء بتقسيمها إلى مقاطع كما يقسم الشاعر قصيدته أو في أدائها بعبارات كثيرة ما سبحت بآفاق الصور والمجازات في لغتها، فهي تشف عن روح الشعر ورقته بل تخللتها مقاطع من الشعر فكان صوت الشعر من جملة أصواتها.‏

3 ـ إن قصصها وحكاياتها يغلب عليها الإيجاز والقصر سواء في شكلها المنجم أو قلة سطورها وكأنها في سردها تغري القارئ بسرعة قراءتها دون تفكيره بطول زمن، فهي مجموعة تجارب ممتعة تقرأ بوقت قصير يتماهى وروح العصر وسرعته.‏

4 ـ بالرغم من تنوع آفاقها الفكرية والاجتماعية فهي واضحة العبارة شفافة الفكرة تنتقي مفرداتها وعباراتها وقد استعملت أحياناً مفردات وأساليب شعبية دارجة على وفق موقف الحدث، وهو مذهب في كتابة الرواية والقصة بأنواعها وأحياناً الشعر أيضاً(5).‏

تطالعك هذه الخصائص من أول سطر منها حتى نهايتها من ذلك:”عيناه في الأرض والكلمات تخرج من شفتيه مبتورة. حروف العلة والنصب والجر متهشمة.. العيون من حوله بعضها يحاصر ذلك‏ المرفوع على الأكتاف. العيون متقدة تبرق بغضب مثل قطع جمر صغيرة هبت عليها الرياح في موقد طيني فتوهجت برقصة الانطفاء الأخيرة. العيون مشتعلة والتي لا تذرف غاصة بالدمع حبيبات‏ الكهرباء”(6)..‏

فعيناه في الأرض والكلمات تخرج مبتورة وحروف العلة والنصب مهشمة وتوهجت رقصة الانطفاء والعيون المشتعلة.. وهكذا تتسلسل لغة المجاز وتتلاحق صورها.‏

وتتخلل مقاطع من الشعر الحر ومقاطع من الشعر الشعبي بل ترد أقوال بالفارسية(7) وحتى كتابتها بأسطر تشبه كتابة الشعر الحر(8)، هذه الكتابة بأسلوب المجاز وتداخلها مقطعات شعر تنسجم وسياق عباراتها ثم صور نثرها المركز الموحية، كل ذلك يتوافق مع هذا اللون من القصص القصيرة، أما تنجيمها وتقسيمها إلى مقاطع كمقاطع القصيدة فذلك ظاهر في هذه المجموعة، يستغرق المقطع أحياناً ثلاث صفحات وأحياناً أربعة اسطر. يتحكم في هذا التقسيم مجرى الحديث ومواقفه فليس له قاعدة وكذا عدد المقاطع فمنها ماكان تسعة مقاطع ومنها خمسة ومنها من مقطعين فقط (9)، وواحدة في المجموعة هي “عمى جميل” تختلف عن الأخريات فهي صورة قلمية ترسم ملامح رجل يحب النساء فيحاول أن يتزيا بما يقربه من مظهرهن، صوته صوت نسائي ناعم ووجهه أبيض قليل الشعر، يتحدث بصوتهن مع إظهار حركات تشبه حركاتهن ويشاركهن في الثرثرة بجوار حنفية الماء التي يحب الانتظار عندها معهن ليملأ سطل الماء وذلك قبل وصول الماء إلى البيوت، ويتشبه بهن حتى في ملابسه ذات الأقمشة البراقة والشفافة، وفي وسط هذه الحكاية يبرز ضمير الأنا “لم أسمع نبرات صوتية تشبه -صباح خيره- عندما يوزعه على الجيران.. أتذكر في مناطق معينة عند حنفية مدرسة سيدي الحطاب القرآنية، وفي شارع سوق الحرارة أو عند جامع محمود، وقوس المفتي، وكوشة الصفار…”.. وهكذا يستمر في نبش ذاكرته بذكر الأماكن والأشياء القديمة ثم يعود يتذكر صبوته مع جوقة الصبية يصدحون “بأغنية جميلة” عند حضور العم جميل: “نبتعد عنه قليلاً ونصدح بها خاصة عندما نكون مجموعة ننغمها ونغيظه بها فتأتي شتائمه لتتداخل مع الكلمات:‏

جميل جميل .. جميل يبي مرا‏

يبيها يبيها.. مايخدم غير عليها”(10)..‏

صورة تتكرر في المجتمع وحالة تتكرر أيضاً خصوصاً في البيئات الاجتماعية ذات التقاليد ولكن قد تختلف صورة التعبير عنها.‏

فمن خصائص هذه المجموعة رسم الصورة القلمية المعبرة وكأن الكاتب كان يرسمها بكلمات إضافة إلى رسم المشاهد رسماً دقيقاً وبهذا الرسم ينطلق من بيئته المحلية محلقاً في الأفق الأوسع كما مرت الإشارة إلى العمل جميل، ولكن ترتفع حرارة الإحساس حين يتذكر الغربة ويتوهج إحساسه بها كما كان رسمه لصورة (أبو سوزي) وهو في القطار في قصة الغربة في القلب “أطل وجه باذنجاني أحمر من نافذة الثعبان الفضي الحديدي، علق نظره به مثل حبات مطر على سلك كهربائي لا تمنحك فرصة أن ترى معها شيئاً، بعرف صاحبه من شعره الشوكي كـ(صيد الليل) والذي يشبه رأس الهدهد وإن كان على شكل هلال مصفوفاً متيبساً لا تأتيه الريح من بين يديه ولا من خلفه كجنود أتراك يحرسون الجندي المجهول، يتقعر متوسداً المنطقة الخلفية من الرأس عارياً أحمر مثل موقد كهربائي مطفأ منذ برهة‏ وجيزة. قرب أبو سوزي يده كبوق من فمه ثم حرك أصابعه القصيرة خارج النافذة تلك الأصابع المنتفخة كقطع السجق صارخاً: أسرع.. أسرع.. يابو ليبيا يلعن حريشك. كان يود أن يقول له: وأنت يلعن ثلاثين من أقربائك”(11)..‏

لقد استعان في هذا المقطع بالتشبيه وهو من خصائص أسلوبه في رسم الشخوص والمواقف. والتشبيه من الوسائل البلاغية التي تقرب الصورة من الذهن. وصف وجهه بالباذنجاني، وشعره الشوكي كصيد الليل يشبه رأس الهدهد… كجنود أتراك.. الأصابع المنتفخة كقطع السجق… هذا الوصف والتشبيه كان من خصائص هذه المجموعة الأسلوبية.‏

وفي المقطع الثالث من (الغربة في القلب)” (12) يرسم (أبو سوزي) وهو يتحدث فيذكرنا بوصف الجاحظ صاحبه في رسالة (التربيع والتدوير): “كان أبو سوزي يتحدث لحظتها مع الجالس أمامه وكان يستعمل يديه، ويفرد أصابعه، ويحرك مؤخرته وكتفيه، أكثر من شيء يفعله ويستطرد في عدة مواضيع لا رابط بينها ماصاً أسنانه بلسانه، فيما تغمز عينه دون سبب، هازاً صدره المترجرج مثل قطعة (جيلي) لم تتخثر بعد، نافضاً رأسه فيما يأخذ وجهه تشكيلات غريبة مخيفة ومضحكة مثل (سفرجلة) ودون الانتباه إليه جيداً.. كتلة صماء دون أطراف أو هكذا يبدو من بعيد كعجل البحر، أحول لحد يبدو أنه كريم العين عندما يحدثك تعتقد أنه يقصد شخصاً لآخر..”.‏

وهكذا يسترسل في رسم شخصية (أبو سوزي) فهو إذا تكلم لا يملك أحد أن يقاطعه.وكل ما ذكره من وصف وتشبيه يجعل القارئ يرى ويسمع هذا الرجل الذي يردد أغنيته اليتيمة بشعر دارج ساخر:‏

ركبت احمار فوق احمار عنفص‏

زماني والدهر وياي عنفص‏

حبيبي اللي كنت أشتاق ليه عنفص‏

رماني وشمت العدوان بيه”‏

وإذا بالمترنم عراقي تشخصه من لهجته وكلمات أغنيته الساخرة وهو من جملة الشخوص من بلدان ومواطن ولغات مختلفة يتحرك في هذه المجموعة حاملاً همومه وعالمه.‏

ويشيع في المجموعة هذا الإحساس بالغربة يطل عليك من كل أفق من آفاقها وكل حكاية فيها. والغربة غربتان: إحداهما غربة السفر والرحيل غربة الأرض فالإحساس بها على قسوته قد يكون فيه شيء من لحظات الرضا لكنه حين يتوهج يتذكر الأهل والموت ثم مواجهة الصدمات والآلام، ينقلب حزناً متنقلاً معه. وقد جاءت في المجموعة مقاطع منها فهو “تقتاته المحطات منذ غادر طفولته وتصطاده الثواني المملوءة حزناً والتي يرتمي مهدوداً على صدرها القاسي ويمضي مبعثراً أيام العمر من مطار إلى ميناء إلى بار إلى فندق إلى رصيف إلى كرسي لا معنى للجلوس عليه مثلما هو الآن متجه إلى قرية كّيل بشمال هامبورغ..”(13)..‏

ويظل الإحساس بالغربة موجعاً مادام بعيداً عن أهله “يتمطى القهر عبر أيامه يلتهمه يمتص ماء الحياة الخاثر يعيش الوحدة ويموت فجأة ويدفنه الغرباء أهله الغرباء”(14)، ويشتد الشعور بالغربة حد الاحتراق حين يرى مشهد الموت أو يحضر غوله في الذهن فعندها يلذ له سماع أغنية صعيدية كثيراً ما‏ سمعها ممن يرتلها في لحظات الشجن:‏

ما تبكي على اللي راح يا خال‏

ابكي على اللي جاي‏

وتصرخ الغربة في آفاقه في موقف جنازة:‏

هل كنت تدري بأي أرض ستدفن؟‏

يقتنصك الموت غدراً.. ويختارك المنفي كرهاً‏

غريباً حياً غريباً ميتاً‏

يا عجباً ها أنت وحيد في مقبرة الغرباء”(15).‏

إن الإحساس بالغربة مألوف لدى الأدباء إذ يجيء من التنافر بين الأديب وبيئته فيضطر أو يختار الهروب بنفسه خارج الوطن بحثاً عن الاستقرار والحرية لكنه يواجه أسباباً أخرى تثير في نفسه هذا الإحساس فيتذكر أهله وأحباءه في موطنه. فالغربة إحساس حاد بالحياة.‏

والنوع الثاني من الغربة في هذه المجموعة تتوهج في نفس الأديب حين يصدم بتقاليد وأوضاع تحدث شرخاً في إحساسه وهي الغربة الاجتماعية تظهر في نفور الأديب وصراعه في مجتمعه قسوة التقاليد أو ما يجثم على المجتمع من تصرفات شاذة من نظام متحكم يقوم على القمع والإذلال. ففي قصة “الأقنعة البليدة”، وهي أربعة مقاطع، نجد ذلك الشيخ المشتعل رأسه شيباً، المنحني تحت ثقل الأيام التي عبرت عليه، يسجن دون ذنب يعرفه ويخضع للعذاب وقسوة السجان فيحرم من لحظات نوم مريح وهو واثق من براءته. وحين يتغير وجه ذلك المحقق اللعين يحدث نفسه إن هذا الجديد قد يفهم معاناته منذ شهور ولربما يكون “ابن حلال” ويفهم الحقيقة. فإذا بالمحقق الجديد يواجهه بشماتة وسخرية قائلاً: “نحن نعرف كل شيء ولا نحتاج إلاّ أن تعترف فقط.. أنت من جماعة ماركس” وعندها عرف المسكين أنه ضحية هذه التهمة الكاذبة. فبادره بنفي التهمة عنه.‏

فشتمه المحقق قائلاً: أنت من جماعته لا تكذب.. اعترف..‏ ويتحرج الحاج المسكين حتى من الحلف وهو لا يدري كيف يبرئ نفسه من تهمة كاذبة إزاء محقق لا ضمير له ولا خشية من الله.. فاستنجد قائلاً: اسألوه.. أنا لا أعرفه اسألوا جيراني. “ولمعت دمعة قبل أن تسقط ساخنة على شعيرات ذقنه البيضاء فيما برقت نجمة المحقق غير مصدق”(16).‏

العبارة الأخيرة تضمر سخرية صامتة بلغة المجاز الكنائي البديع. بمقارنة لمعان الدمع في عيون المعتقل البريء الذي يخفي الحزن والألم بجميع ألوانه، ولمعان نجمة المحقق المتعالي الفخور بمركزه الذي أعطته السلطة لأن يعطي نفسه الحق باضطهاد المعتقل وإهانة كرامته، فيقابل لمعان نجمته انطفاء ضميره وعتمته.‏

المحقق لغة: اسم فاعل تعني الباحث عن الحقيقة في تهمة من اقتيد للمعتقل لكنها على هذا المتسلط صفة لا يستحقهادون معنى.‏

وفي حكاية (المخبر النائم) يشفق فيها رفيق المهدوي المضطهد (بفتح الهاء) على المخبر الذي أوكل به يتتبعه أينما ذهب وأينما جلس لينقل أخباره، وهي من مقطعين.‏

وفي يوم خرج من بيته والمخبر يتبعه حتى جلس في مقهى رامياً جسده المتعب على أول كرسي. فجلس المخبر بعيداً عنه ثم نام. انتهى المهدوي من قهوته. دفع الحساب. استغرب أن المخبر لم يقم، فاقترب منه فوجده نائماً.. هزه برفق ثم ربت على كتفه قائلاً بصوت عال: “هيا يا رفيقي. أصح من نومك ينتظرنا طريق طويل”..‏

وفي (الخوف من الحيوانات) وهي أربعة مقاطع، حكاية ذلك الدكتور البيطري الذي مر على اعتقاله سنتان وهو مرمي دون أن يسأل عنه أحد ولا سئل هو من أحد، حتى صرخت نفسه بسؤال حائر: ماهو الخطأ في أن يكون الإنسان دكتوراً بيطرياً؟ سؤال مجروح من إنسان أبعد عن عائلته وكليته وتلامذته، فهو مذهول قد نسي الحوار لأنه فرض عليه الصمت والوحدة وهو لا يحاور إلا ذكرياته تتداعى عليه.‏

وبعد عامين من وحدته وصمته دخل عليه المحقق، ففرح لأنه سيسأله فيجيب. بادره المحقق بالمفاجأة إذ أراد منه التوقيع على إفادة لم يقلها ولم يكتبها بل كتبها السجان ويريد توقيعه عليها واعترافه بالصوت والصورة بعد جمع الأدلة المزعومة بأنه من الإخوان المسلمين، لكن المسكين لم يتمالك ضحكته العصبية التي انفجرت في وجه المحقق الغاضب صائحاً: “إنني مسيحي يا سيدي المحقق وبالإمكان الرجوع إلى أوراقي الرسمية”.. فما كان من المحقق إلا أن يصعق بهذا الجواب، فضرب المنضدة بقبضة يده شاتماً…‏

هذه صورة من صور السخرية الاجتماعية التي تؤزم الأديب وتلهب شعوره بالغربة والتمرد لاعناً هذا الوضع السياسي الذي يضيع فيه الإنسان ويحترق الفكر في لهيب جاهليته.‏

ومثل هذه الحكاية حكاية (الرفيق الأعلى) التي فاجأ فيها الحاج المتهم بعد معاناته في المعتقل، فاجأ المحقق أن الرفيق الأعلى التي سمعها المخبر ليس الرفيق السياسي، إنما قلت لصاحبي انتقل الشيخ الساهي إلى الرفيق الأعلى أي توفي، والواجب تعزية الجماعة أي أهله.‏

هذه الحكايات القصيرة بأسطرها القليلة مشحونة بعالم من المعاني والصور والآلام الاجتماعية التي مر بها مجتمعنا العربي وما زال في نظام يعاني الإنسان الواعي وخصوصاً الأديب غربته فيه.‏

وفي المجموعة حكايات شعبية فيها موقف أخلاقي يعبر عن ذاكرة اجتماعية وأعراف قاسية كـ(حكاية الجزار) و(حكاية سارق المعزة)، وفيها أيضاً تعبير عما يشيع في المجتمع من حكايات تشبه الأساطير وغرائبها كحكاية “باب العرش”.‏

إن مجموعة “لا تحرج الموت الجميل” مجموعة صغيرة لكنها ذات آفاق وعوالم.‏

 ________________________________________

الهوامش:‏

1 ـ انظر: نظرية الأدب “ويليك ووارين ص 221.‏

2 ـ انظر:النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير. د. عبد الإله الصائغ ص 272-275.‏

3 ـ انظر: معجم المصطلحات العربية. مجدي وهبة وكامل المهندس، ص 75.‏

4 ـ النقد الأدبي الحديث. د.الصائغ 321.‏

5 ـ انظر: قضايا اللغة المعاصرة. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 185-186. العربية والأمن اللغوي ـ زهير زاهد ص 98-99.‏

6 ـ لا تحرج الموت الجميل ص7.‏

7 ـ السابق، ص 11-20-21.‏

8 ـ السابق، ص 11-20-21.‏

9 ـ السابق، ص 9-53-56-59.‏

10 ـ السابق، ص 91-92.‏

11 ـ السابق، ص 31-32.‏

12 ـ السابق، ص34.‏

13 ـ السابق، ص35-36.‏

14 ـ لا تحرج الموت الجميل ـ ص 8-18-19.‏

15 ـ لا تحرج الموت الجميل ـ ص 8-18-19.‏

16 ـ ص58‏

مجلة الموقف الأدبي –العدد 361-ايار 2001

مقالات ذات علاقة

(مناكفاتُ الرُّبعِ الأخير) بين السيرة والحكاية

يونس شعبان الفنادي

الغَمزُ بالكلمات.. وسؤال الثقافة المحليّة

حسام الدين الثني

من شواطئ الغُــربة لمتاهــات التشـظِّي

المشرف العام

اترك تعليق