إنه هو..لا يمكن أن أكون مخطئة.. مازال كما هو، نفس القوام النحيل يتدثر في معطف كحلي داكن، نفس الذقن المختبئة في ياقة المعطف ومن حولها تتطاير أطراف الشال الرمادي، نفس خصلات الشعر تنزلق من تحت القبعة وقد داهمتها خطوط الشيب.. نفس الخطوات الراكضة كأن ساقيه تهربان بعيداً عن بقية الجسد.. نفس النظرة الدقيقة المصوّبة إلى الأمام، دون أن تُعير انتباهاً لما يحدث في الخلف.. إنه هكذا لا ينظر إلى الخلف أبداً.. إنه هو.
يخرج يده من جيب المعطف، يفركها باليد الأخرى.. يقربها من شفتيه وينفخ فيها من زفير رئتيه الحار.. فتنبعث سحائب من البخار.. تتكثف في الهواء البارد.. تشكل غيمة صغيرة تطير حول زجاج سيارتي العالقة في الزحام.. لا يمكنني اللحاق به، فأمامي صف سيارات طويل، وشارة المرور الحمراء تجبرني على الوقوف.. عيناي تلاحقانه.. وخفقاتي تتسارع حين بدا لي أنه يوشك على مغادرة الرصيف المجاور.. تعتصرني خيبة عظيمة وهو يمضي.. يأخذ شارعاً جانبياً ويتوارى تحت أقواس البناية الكبيرة ثم يختفي.. هكذا يختفي فجأة.. كما في كل مرة.. إنه هو.
لابد أن ألحق به.. أن أقف أمامه وأسجل انتصار المصادفة الكبرى التي جمعتنا ذات صباح شتوي.. أن أقول له.. هانحن أخيراً…
أطفأت المحرك.. جذبت حقيبتي اليدوية الصغيرة من المقعد الخلفي وهممت بالنزول لأركض وراءه…. ولكن.. ماذا لو…..؟ لالالا .. لا يمكن أن أكون مخطئة… إنه هو … أدرت مفتاح المحرك من جديد وتابعت طريقي في الزحام..