عبد الباسط إبراهيم الحمري
هرعت فاطمة مسرعة، إلي بيت الحاجة أم العز حيث أمها هناك؛ تقوم بإجراء قرعة بين عجائز الحي، اللائي اشتركن في جمعية مالية، دخلت فاطمة وهي تصيح، أمي يا أمي عبد المولي صدر له قرار إيفاد للخارج، قفزت سدّينا من الفرحة، وأطلقت زغروتة عالية، وفرح لفرحها كل العجائز وصرنا يهنينها، ويهزجن معها بشتَّاوى «يا مبروك عليه إيفاده، واليوم انقهروا حساده» و «اللي منحتم بالدولار، إنشا الله ما نذوق لهم نار» و «إنشا الله ما يعوز التمديد، اللي تماله شان جديد ».
خرجت سدّينا إلي بيتها ، وهي توصي رفيقاتها: بكره الفطور عندي وبيش تبلغن فضاوي. استقبل عبد المولي الخبر بفرح شديد، فاق فرحته بعودة أبيه من الحج، الذي حج بمبلغ 6600 دينار اضطروا لبيع أغنامهم التي تركها لهم جده وسيارتهم كي يوفروها، بالإضافة إلى حدايد سدّينا.
أعد الحاج مفتاح مأدبة عشاء لأهل الحي، على شرف ابنه عبد المولي الذي صدر له قرار إيفاد، امتلأ المنزل، والخيمة، ومنزل الجيران، وكالعادة سد طريق الشارع، كي يستطيع المعزومين ركن سياراتهم، و فتحت حوارات طويلة بين الحضور، كان أحد أبطالها الحاج منصور: توا يا حاج مفتاح البلاد اللي ماشي لها عبد المولي ايسما لوغته، وبعدين بناخي عيت بوسوكايه له سنين غادي أساع يلقاه قدامه، قالوا متزوز نصرانيه ومتريح عالخبر. وكان البعض الآخر يردد: تعاته يأخذ معاه دبش راه إلا صقع ويخطا النصارى راهم يشربوه سكير.
في الموروث الثقافي عند البادية الخمر، هو اكبر الأخطاء وهو ذنب لا يغتفر، فكل شيء من الممكن تقبله وتفهمه كالزنى، والسرقة، والقتل، لكن شرب الخمر ذنب وعيب كبير ينزل من قيمة الرجل بين أهله وعشيرته ويواطئ بوجهه. وبينما كانت هذه النقاشات تطرح والضحكات تتعالي، كان هناك شخص خيل للحضور انه يعرفهم جميعا كان يمعن النظر إليهم، ولكن في الواقع أنه كان مكلف بعدهم، لإبلاغ أبوالقاسم المايسترو، الذي عصب منشفا علي رأسه، وفجأة صاح احدهم: أربعه أربعه ياخوانا وفكونا من الثلاثات احترمونا كيف مانا محترمينكم.
انقض الحضور علي الرباعات وفتكوا بالرز واللحم، طلب احدهم ملعقة صغيرة لابنه، وطلب أخر تغيير لحمة كتف بلحمة صوابع، وطلب البعض تغيير علب الماريندا بعلب بيبسي، وطلب البعض الأخر بيبسي دايت بحجة إصابتهم بمرض السكري، فهم من أبناء الشعب الحلو، وطلب الحاج مفتاح أدوات غسل «محبس وسخان» للحاج أكريم لأن عظامه تؤلمه، وخاطبه قائلا: «عليْ ليمين ماتصبي أساع يجيك غسول هنا» لحظات وكانت فرقعة الصحون والملاعق تملأ المكان، وأمسكت الأيادي بالعيدان وبدأت عمليات التنظيف والتسليك لأسنان الحاضرين المتهالكة.
وبعد انتهاء الوليمة أخذ الحضور في الانصراف وهم يتمتمون بعبارات مختلفة : «انشالله يمشي ويجئ طيب، المشي خيرله ايش درنا به نحنه المقعد، عبد المولي ما عليش خوف»
بعدها كان الصمت يملأ المكان، معلنا انتهاء معركة كانت قد اندلعت، كان كل شي علي غير طبيعته الوسائد في كل مكان، والمقاعد (الطراريح) من كل الألوان ليست في أماكنها الاعتيادية، وبعضها قد تم طيه للجلوس عليه، وعلب السجائر الفارغة وبقايا الدخان (العقابات) تركها المدخنون علي الأرض، وكذلك عيدان تنظيف الأسنان، وبعض أكواب الماء انسكبت علي الأرض، وحائط المربوعة بطلائه الجديد اتخذه بعض العاجزين متكأ لهم عند نهوضهم، من علي الرباعات فكانت بصماتهم (الخميسات) مرسومة في كل مكان، وجدت حزمة مفاتيح معها قلاّمة أظافر لم تعرف لمن، وحذاء كل فرد من شكل، يبدوا أن أحدهم اخطأ فلبس حذاء غيره.
خاطب الحاج مفتاح الشباب قائلاً: «الله يستركم عشاء سمح خشوا تعشوا ياسّدينا حطوا للضنا راهم مازالوا ماتعشوا» ردت سدّينا: «حاضر يا حاج الخير مالا حد».
بعد عدة أشهر من صدور القرار، تخللتها سفريات إلى العاصمة ومنها واليها لاستكمال الأوراق وعقدة الاسم الرابع وتأشيرة السفر والمدير غير موجود ، واسمك وقع من الكمبيوتر ،جرب عبدالمولي خلالها جميع انواع المواصلات ،الطائرة والسيارة والقطار،أسف علي الخطأ لاتوجد قطارات ببلادنا، اكتملت الأوراق المطلوبة، إلا تذاكر السفر، فقد يئس عبد المولى من الحصول عليها في موعدها، فاضطر الأهل للاستدانة لشرائها، ثم اشتري عبد المولي حقيبة كبيرة، ووضع بها ملابسه، وأدواته الشخصية، (كفرشاة الأسنان، والمعجون والمسواك والجل، والمكواة ، ومرآة صغيرة) بالإضافة للزميتة، والزعتر، والشاي الأخضر، و القديد.
اجتمع أهله لوداعه أمه توصيه: «رد بالك من النار وما تمشي مع حد» أما الحاج مفتاح فكان يقول له: «مايقولو ليش غاب ايقولو ايش جاب، والسارحة تبي عليش تروح» ، سافر عبدالمولي ولسان حاله يقول باهي اللي فضت قصة هالاجراءات، وبعدين أنا أحسن وضع من عطيه اللي قعد سنين بيش سافر وفي الأخير اجبر علي الذهاب إلي الهند رغم إن تخصصه لغة عربية.
وللحديث بقية