طيوب البراح

لـقاء مع الأشـباح

 

الصادق رحومه

1

عندما نزلا وادي تناروت كانت القيلولة وكانت أشعة الشمس قد أستبدت بالوادي لتحول كل شيء الى اطياف سرابية. شجيرات السدر بدأت بائيسة وهي تتمواج بين السراب، الحجارة في المرتفع المقابل للوادي والشجيرات الصغيرة كلها تحولت الى الى مجرد أطياف يتلاعب بها السراب. ترجلا عن سرجيهما:

ـ ما أشد الحرارة هنا في الصحراء!!.. تشعر دائماً إنَّ الشمس فوق رأسك ببضعة أشبار فقط. قال الشيخ وهو يهوي تحت الشجرة محاولاً ايجاد ملجئ له تحت ظِلالها المُبعثرة، وواصل مزيحاً بندقيته جانباً:

ـ مجنون من يحاول أن يصطاد في مثل هذه الأيام. القيلولة تقتل كل شيء وتُجِبر حتى الودان ان يبقى في قمة الجبل محتمياً به من حرارة الوادي، فأي حظ سنجنيه؟

ـ ولكنها الصحراء وقد اعتدنا عليها، رد صاحبه وهو يُنِيخ جمله لإنزال الأمتعة من فوق السرج، نعم الصحراء دائماً هكذا، ألا تذكر منذ سنوات عندما كنا نصطاد في وادي”آوال” وكانت الشمس تستبد بكل شئ في الصحراء، ورغم ذلك كان صيدنا وفيراً؟

ـ البركة.. .البركة ياحاج عبدالله.. الدنيا كانت فيها بركة، الغزلان كانت تملأ الوديان، والودان كان يتوالد ويتكاثر في قمم الجبال والحبارى أسرابها بالمئات، والسيول تعم الصحراء والخير كثير، والناس لم تكن تعرف السيارات ولا البنادق الحديثة التي تبيد الحيوانات.

ـ هكدا الدنيا لا شئ يبقى كما هو.. كل شيئ ٍ يتغير، حتى الصحراء لابد أن تتغير يوماً ما.

أعدا كأس الشاي الأخضر في ظل السدرة وعند نضوج خبز الملال قال الشيخ بدوي متنهداً:

ـ الشاي الأخضر وخبز الملال رفيق الصحراوي ومتعة السفر. لا يكون الصحراوي صحراوياً مالم يحتسي الشاي الأخضر ويقتات خبز الملال. أي حياة أجمل من هذه الحياة؟ هنا في الصحراء تشعر دائماً أنك حر طليق مثل الصقور في الجو تترأ لك الفضاءات البعيدة والأفق المتسع فتشعر بنشوة تجتاح صدرك. تنحدر مع الشِعاب لتُطل على الوادي حيث يقابلك أريج الأعشاب وأزهار الرثم فتشعر بخدر يداعب رأسك فيكاد ينعكس إلهاماً شعرياً ليفجر فيك ينابيع الشعر، وتشعر بالحرقة الشعرية تلسع فؤادك ولكن لا يمكنك التعبيرعنها، فتصدر منك آهة أليمة تعكس ما يجول بخاطرك.

ـ معك حق -رد الحاج عبدالله-، معك حق.. فالصحراوي هو الكائن الوحيد الذي يشعر بمعنى الحرية. أنت هنا تملك كل شئ.. تملك الأفق الواسع والحرية.. تسافر في المتاهات والمساحات الواسعة فلا شئ يعيق نظرك.. ولاتفكيرك. ترتقي الى الحمادة في موسم الأمطار فتشعر بريح الجنة الصحراوية. فأي حياة أفضل من هذه الحياة؟ تسافر في الخلاء منتشياً لتترائى لك مع الأيام قمم جبال” الهواديق” المكابرة، وقد تنحني جنوباً لتصل مسيرتك الى مرتفعات ” بندقيش” عند حافة بحر الرمال لتتبدا أمامك صحراء أخرى رملية واسعة وقاسية كثبانها تقف شاهدة على مئآت المكابرين الذين حاولوا إستباحتها وكانت نهاية المطاف بهم عظام بيضاء تلمع تحت أشعة الشمس الحارقة.

ردَّ الحاج بدري متنهدأ متحسراً…أي حياة أفضل من هذه الحياة؟

احتسى كأس الشاي الأخضر وصوب نظره نحو الخلاء الممتد أمامه. راقب الأشياء يتلاعب بها السراب فتبدوا بائسة وحقيرة تحت اسياط الشمس الحارقة. صدرت عنه تنهيدة عميقة وغرق في صمت عميق. رمقه الحاج عبدالله فعرف ما يعنيه تجهم الشيخ البدري. أنسل الى الطرف الآخر من السدرة وراقب المسافة المفضي اليها الوادي، شعر بحرقة الشمس فسحب طرف الثام فوق عينيه وسحب نفساً عميقاً قبل أن يغيب في متاهة النوم… من حولهما تلاعب السراب.

2

منذ سنوات، منذ أن نزلوا القرية للسكن والاستقرار فيها، تغير كل شيء وتبدلت كل أوجه الحياة. الشيخ بدري لم يعتد حياة كهذه، عاش عمره طليقاً يجوب الصحارى ويقطع الحمادة في رحلات طويلة مع القوافل العابرة الى فزان للتجارة. رافق التجار والصيادين وقوافل المجاهدين المرابطين على خطوط فزان. عبر الحمادة الحمراء وقطع بحر الرمال نحو “عوينة ونين”. جاب أطراف الحمادة الشرقية فنزل وادي” المر” وقطع صوب جبل الحساونة وجبال “السودا”، وقطع الرمال المتاخمة “لهُقار”. نزل الواحات وزار جبل نفوسة مقايضاً التمر بالزيت والتين المجفف. هام لسنوات عديدة خلف قطيع الإبل بين وادي” آوال” و”نهية” و”دنبابه”. شق كل هذه المسافات وهو في ريعان الشباب. هام في الحمادة الغربية، التقى الرُحّل ورجال القوافل وتصيَّد الغزلان في”وآن هسهس” ووادي “وآن بالول”. رحل مع قوافل المجاهدين الميممة شطر جبهة فزان وخاض معهم معارك الشرف. قاتل الايطالين ومن بعدهم الفرنسيين. خلال كل هذه الرحلة لم يُخيّل اليه ان يأتي يوماً يقبع فيه بين جدران الطين الصامتة لا لشئ يعمله سِوى الخروج مساءً والجلوس في ظل العشية ولعب “أم الإبل”. أهكذا تكون نهاية المطاف؟ أهكذا يكون حال الرحال الذي ماطاب له المقام يوماً إلا في فيافي الحمادة؟

راوده الحنين الى الصحراء الشاسعة….الى أرض الله الرحبة، الى الأفق الممتد، الى ليالي الحمادة، الى الهواء العليل. منذ سنوات لم يجد متنفساً سِوى برحلات الصيد القصيرة. كان يُجهِز جمله وراحِلته ويتجهز بالزاد اللازم والذي كان دائماً صُرة التمر وصُرة الدقيق.. نعم فخبز الملال لايضاهيه في الطعم سِوى ترفاس الحمادة.

كان الحاج عبدالله دائماً رفقيه الدائم وصديقه الوفي. منذ سنين لم يعد يحصيها وهو يرى الحاج عبدالله رفيقه ويلازمه كظله. منذ الصِغر ترعرعا معاً في نفس القبيلة المغروسة في وادي “تناروت”. رعيا الجديان معاً، وكان كلاً منهما يتباهى بجديان قطيعه. رحلا الى الجنوب وقطعا بحر الرمال، وهاما في الحمادة خلف قطعان الإبل. لقد كان كل شئ جميل. نعم.. فلا يعرف طعم الحرية الحقيقية إلا من ذاق قبح السجن بين الجدران في بيوت الطين، ولا يعرف متعة السفر إلا من رَكِنَ في الكوخ، ولا يعرف بهاء الصحراء إلا من اُبعِدَ عنها، هنالك يكون للألم طعم آخر..أقسى.. وأشد مرارة.

3

ظهرا من بعيد بين أمواج السراب. ظهرا أول الأمر كشبحين هزيلين يتلاعب بهما السراب، فيغرقا حيناً في أمواجه ويظهران كأطياف الشجيرات حيناً آخر. هنالك من الجهة الجنوبية المفضية الى الفج الفسيح الذي يكونه الوادي قبل أن يتشاعب ويتفرع من جديد. راقبهما الحاج عبدالله من بعيد متفحصاً ليتبين ما إذا كانا شبحين لإنسان أو بعض دواب الصحراء، وعندما بدا يتكشفان تسأل مستغرباً:

ـ من يجرؤ على المشي في مثل هذا الوقت؟!! وأي ضرورة تجبر الإنسان على المضي في القيلولة؟ هنا في تناروت؟!

ـ عما تتحدث؟ سأل الشيخ البدري.

ـ ألا ترى هناك في أسفل الوادي؟ يبدو أن ضيوفاً مقبيلين علينا.

ـ هُراء…أي ضيوف؟..ومن يستطيع السير في مثل هذا الوقت؟ ربما هي أطياف لقطيع من الودان.

رفع الحاج عبدالله رأسه وعود السواك المقطوع من لحاء الرتم مازال بين اسنانه. بصق لُعابه وقال مجيباً الشيخ البدري:

ـ آأأه… إن الودان احكم من ان ينزل الى الوادي في مثل هذا الوقت. الشمس هنا تجبر حتى الودان على الإنسحاب الى رؤوس الشِعاب…التفت الي الجِمال في الجهة المقابلة وعاد متوسداً ذِراعه عَلهُ يفوز بغفوة ولو بسيطة تُنزل عنه أتعاب السفر وحرارة النهار اللافحة.

من بعيد بدأَ يتكشفان جلياً، الآن أصبحا أكثر وضوحاً وقرباً. صعدا الرابية المقابلة وأصبح الحاج عبدالله يستطيع تفحص ملامحهما. أولهما شيخ وقور مهيب بلِباسه الفضفاض وعمامته السوداء، معقوف الأنف وجبينه الذي لفحته شمس الصحراء وخطت عليه السنين علاماتها بدأت تجاعيده اكثر عمقاً. باقي الوجه غطاه اللثام. أما رفيقه فبدأ أكثر نحولاً مع ان مظهره يدل على صِغر سنه وقد سحب اللثام على وجهه فلم يظهر من الوجه سِوى عينين عسليتين انهكهما السفر وحرارة الشمس.

ـ السلام عليكم

ـ وعليكم السلام

ـ معذرة…تاهت جِمالنا فأضطررنا للسير. افسح لهما الشيخ البدري مكانا تحت ظلال السدرة المتبعثرة وجلس في طرف الظل محاولاً أن يفسح لهما اكبر مجال للجلوس والراحة.

تناقشوا طويلاً، وتحادثوا عن كل شئ. عن الصحراء والسفر والودان، وعن اخبار الأمطار في اطراف الحمادة الغربية، وعن الفروسية والرجولة، وعن القبلي واخبار المراعي. استغرب الشيخ البدري معرفة ظيفه بكل الأخبار واطلاعه على كل الأمور فقدر له ذلك وقال في نفسه ان رجلا حكيماً كهذا لابد وان يطلِعَ على كل الأخبار. الحكمة….نعم الحكمة هي ماقدرها في ضيفه الذي بدأ ذو حديث عذب وشيِّق. مأستغربه الشيخ البدري هو كيف لشيخ حكيم كمحدثه ان يسافر في هذه الشمس اللافحة. فلا أحد يجرؤ على السفر في ساعات القيلولة وخاصةً ان ضيفاه لم يحملا معهما قِرب الماء وحتى مجرد زمزمية. هذا ما لاحظه الحاج عبدالله واستغربه ايضا.ً

امتدت جلسة الحديث حتى امتد ظل المساء، وقبل نضوج الشاي قال الضيف المهيب:

ـ البارحة تاهت جِمالنا في اطراف الشعاب السفلى من تناروت. صحونا فلم نجد لها أثر، تفحصنا الوادي وتتبعنا الأثر ولكن هنا في السفح المقابل فقدنا الأثر.

ـ لا شيء يمكنه الاختفاء هنا في الصحراء… رد الشيخ البدري. حتى الجِمال لابد لها وان تظهر. هنا في الصحراء عندما تهُمَ بالبحث عن شيء ما فإنه يختفي وكأن أيدي خفية تواريه عنك. تتفحص الجبال والمرتفعات. تفتش الشِعاب والسهول.

تتفحص الأثار على سفوح الرمال، وعندما تتعب وتيأس تجد ضالتك امامك وكأنها لم تختفي ابداً. نعم فالصحراء الحكيمة هي من تفعل ذلك لتروض ابناءها على الصبر، ولكي تؤدب المعاندين.

ـ معك حق ياشيخنا.

ـ .. .. .. .. .

ـ الصحراء اكبر من يفهمها الإنسان. هذا المخلوق الذي يرى في نفسه القدرة على فهم كل شيء وهو لا يفهم حتى اقل الأمور تفاهةً. الصحراء تؤدبه احياناً….يخرج منتشياً على راحِلته ويُخال اليه انه سيقهر الصحراء ويفك اسرارها. تدبر له الصحراء الحكيمة فخاً بسيطاً يكفي لرده على اعقابه خاسراً. في الليل عندما يهجع الى نومه العميق تفك له قيود جِماله وتهشها بعيداً عنه. يستيقظ مذعوراً ويرتحل خلف الأثر فيبدو له ان الأمر بسيط وان ضالته قاب قوسين منه او أدنى، وعندما تشتد القيلولة ويتلاعب السراب تسلط الشمس نار سياطها على وجه الصحراء ويستبد القبلي بكل شئ هنا تتيبس العروق وتجف شرايين الحلق، وعند انتهاء قِربة الماء واستبداد العطش…. يختفي الأثر. فلا يدري اي الدروب يسلك. يظل يتسكع في الخلاء محاولاً ايجاد ظِلاً يحميه من سياط اللهب. يجد نفسه قد ابتعد اكثر مماينبغي. هنا فقط يدرك ان الاثر لم يكن سِوى حيلة تتبعها لتقوده الى المتاهة القاحلة. يغتشي الغمام عينيه ويسحب العطش النداوة من عروقه. تُقرع الطبول في رأسه وتتعال الضجة. تتماوج الأرض من تحت قدميه فيسقط مغمياً عليه. هنا فقط تتخلص روح النور ويبقى كوم الجسد.

ـ حكيم.. …. هذا الشيخ حكيم!!!. ردد الشيخ البدري هذه العبارة في نفسه ثم قال مستفهماً:

ـ ولكن ألا تفرض علينا الحكمة ان نحتمي بالظل؟ فالصحراء التي بعتت لنا السراب حطت في طريقنا اعشاش السدر لكي نحتمي ونلوذ بها من حرارة الشمس. فكيف يتناسى الانسان هذه الحكمة البسيطة؟

ـ الضرورة.. . ياشيخ بدري الضرورة. قال الضيف متنهداً..فالضرورة وحدها من تدفع بك لشق الصحراء وهي من تُبعِد عنك اشجار السدر فتأخذك بعيداً حيث لا ظل ولا ماء، فالصحراء وامعاناً في المكيدة تدبر لك فخاً بسيطاً فتبدو مقتنعاً بأنك ستجد ضالتك في الحال فلماذا التأخير والجلوس في الظل؟ فالجلوس قد يعطي الفرصة لضالتك ان تبتعد أكثر فأكثر ولكن من يدرك هذه الحيلة قبل فوات الآوان؟

استمر الحديث… ايقن الشيخ البدري ان ضيفه لابد وان يكون من كبار الشيوخ او فقيهاً. فمن غير الشيخ الحكيم او الفقيه العالم يستطيع امتلاك مثل هذه الحكمة. طوال الجلسة ظلَ رفيقه الآخر، الأكثر نحولاً، جالساً بصمت ولا يبتُ بشفة سِوى ببعض الابتسامات او هز عمامته بين الحين والآخر كعلامة لتأيده لرايٍ ما او لفكرة ما. خمَّنَ الشيخ البدري ان يكون ابناً للشيخ محدثه، فهنا في عُرف الصحراء لا يجب على الإبن الحديث في حضور واِلدهُ وخاصة اذا كان شيخاً مهيباً كضيفه. اعجبته كثيرا حكمة الشيخ واعجبه اكثر سلوك الإبن، فقال في نفسه هنا في الصحراء لكل شئ تقاليد والحكيم من يتبع هذه التقاليد ويغرسها في نسله.

4

العطش قدر الصحراوي….

يقول الشيوخ الحكماء ان الصحراوي اذا لم يمت بالعطش فلابد ان يذوق عذابه، فالعطش قدر لابد للصحراوي ان يكابده يوماً، فالحكمة تقتضي ان نقع في الأشياء حتى نتعلمها ونعرفها ولن يعرف حُرقة العطش إلا من اكتوى بها يوماً ما.

العطش قدر المخلوقات الصحراوية…فحتى الجِمال لابد لها ان تذق حُرقة العطش اذا آترت العيش في الصحراء.

يتذكر الشيخ البدري كيف ان القبيلة كادت ان تفنى يوماً عندما تاهت عن الطريق المؤدي الى “عوينة ونين” ووجدت نفسها تهوم في متاهة الرمال. بعض رؤوس الأغنام نفقت عطشاً وحام شبح الموت فوق رؤوس القيبلة. في ذلك اليوم لم ينقد القبيلة سِوى حكمة الشيخ البدري. عرف كيف يهتدي الى عين “نزوة” فأنقد القبيلة من شبح الموت. رغم ان المياه كانت مالحة مع ذلك كان لها طعماً عذب في افواه القبيله….طعم الحياة. فلايستعذب المياه المالغة إلا من ذاق حرارة العطش. حتى الجِمال المكابرة تخر بائسة عندما يشتد العطش ويسحب النداوة من العروق. تتلاعب الأشياء وتتراقص الجبال وتدور القمم الرملية حولك. تشعر بالخدر فتغتشى الهالة الضبابية عيناك وتسبح في برزخ بين الوعي واللا وعي هنا فقط تشعر بجمال الأشياء وتشعر كم كانت الحياة صعبة وقبيحة، ولكن قد يوقِظك من هذا الحلم الجميل بعض الركب فتستيقظ على ايدي الرُحَّل. عندها تتبين انك لن تفوز بالنعيم وانك ستعود الى هذه الدنيا بقبحها…ستعود من جديد.

5

عند الغسق وبعد جلسة الحديث العذبة هم الضيف الوقور بالمغادرة معتذراً للشيخ البدري:

ـ الآن يجب ان نرحل…الحرارة منخفضة ويمكننا متابعة بحثنا. قال الضيف وهو يلف عمامته حول رأسه.

ـ ولكن العتمة ستزحف ولن تدركا إبلكما في هذه العتمة. أرى من الأفضل ان تبقيا معنا حتى الصباح. رد الشيخ البدري متوسلاً علَّ ضيفه يُقلع عن الرحيل فينعم معه بسهرة سمر.

ـ معذرة يا شيخنا.. .الدرب طويل ولابد لنا ان نرحل الآن. قال الضيف وهو يدور برأسه باحثاً عن نعله.

ـ ولكن.. .. .. ….

ـ اعلم ان الجلوس والحديث معك لا تضاهيه متعة، ولكن لابد لنا من السفر فالدرب طويل ولابد لنا ان نرحل.

صمت الشيخ البدري لعجزه عن ايجاد حُجة مواتية تجعل الضيف يُقلع عن الرحيل. همَّ بتشيَّع ضيفاه بعد ان زودهما بالمؤونة اللازمة وقربة ماء. مأدهشه ان ضيفه رد الزاد والماء معتذراً فأستغرب الشيخ هذا التصرف.

ـ اذاً عليك بالمهري…يمكنك الإستعانة به. قال الشيخ بدري عارضاً المساعدة.

ـ.. .. .. .. .. ..

ـ نحن هنا للصيد، وقد لانحتاج للمهري. مهري الحاج عبدالله يكفينا. سنبيت ليلتنا هنا فوادي “آوال” ليس بعيد. على اي حال سنكون هناك في الصباح. مهري واحد يكفينا…لن ترفض هدا العرض هااااااه؟

ـ المعذرة ياشيخنا…المعذرة…فدربنا طويل وقد تحتاج للمهري فالمهري هنا في الصحراء كالسلاح لايمكن الإستغناء عنه.

ـ ولكن لا يمكن ان ترد عرضي هذا..لا لا لا..لا لا..ارجوك.

ـ ولكن.. .. .. .. .. .

ـ يمكنك إرجاعه متى شيئت….عندما تجد ضالتك فُكَ عِقاله واتركه سوف يعود الى هنا فالجمل يعرف الدرب جيداً ولايمكنه ان يخطي الطريق حتي لو تركته في اقصى الحمادة سوف يعود.

ـ لا نحتاجه….صدقني لا نحتاجه. سنجد جِمالنا في الصباح وسيكون كل شئ على مايرام. قال الضيف وهو ينفض الغبار العالق على مؤخرة ثوبه الفضفاض.

تعجب الشيخ بدري لهذه الحُجج مستغرباً ان يرد ضيفه العرض، فكيف لشيخ طاعن في السن ان يقطع الصحراء بدون مؤونة ويرفض حتى المساعدة؟!! اي شيخ هذا؟!! واي عِناد هذا؟!!! لم يجد الشيخ بدوي بدً من تركهما يرحلان فلا الحُجج ولا عروض المساعدة تفيد في إقناع الشيخ حتى بمجرد تأجيل السفر.

ـ يمكنك ان تصنع لنا معروفاً. قال الضيف وهو يتهيأ للرحيل. يمكنك ان تحتفظ لنا بهذا الكيس. انها بعض العدة لايمكننا حملها. سوف نعود لأخدها بمجرد ان نجد جِمالنا.

اخذ الشيخ البدري الكيس من ضيفه ووقف مودعاً:

ـ سنلتقي يوماً ما….اليس كذلك؟ عِدني بذلك. قال الشيخ بدوي مودعاً. لم يرد الضيف ولم يلتفت. يمم شطر الوادي ففزت المهاري الباركة وأخذت تضرب اقدامها بالأرض مستنفرة مُحَاوِلة فك القيد، ولكن مالبث الضيف ان غيَّر وجهته الى الجهة المقابلة متحاشياً المرور من أمام المهاري التي عادت وهدأت من جديد غير انها ظلت واقفة تترقب.

لاحظ الشيخ البدري كيف ابتلعت العتمة ضيفاه وهما ينسحبان عبر الوادي.. .. في الجهة المقابلة برز قرص القمر شاحباً. اشعل الحاج عبدالله النار في طرف السدرة فعادت العتمة تلف كل شئ من حولهما. تنهد الشيخ البدري مستعيداً قصص ضيفه. أعدا موقد الشاي. صعد القمر بضعة اشبار أخرى فغمر الضياء أطراف الصحراء.

6

في الصباح لاحظ الشيخ البدري ان الكيس الذي اعطاه اياه الضيف لم يكن سِوى كيس معبأ بالرمل ولا شيء سِوى الرمل، ولم يكن بهذا الثقل بالأمس. لاحظ انه لا أثر لضيفاه على الأرض…. كيف لم يلاحظ ذلك منذ الأمس؟!!

لم يكن لضيفاه اي أثرعلى الأرض!!…تذكر الشيخ فجأة كيف ان الجِمال فزعت واستنفرت عندما اقترب منها الضيف. استغرت كيف يمكن لشيخ طاعن ان يقطع الصحراء في مثل هذا الموسم بدون مؤونة او ماء؟!! وكيف رفض ضيفه ان يمده بالطعام او الماء؟!..هنا سقطت كلمات الضيف كالصاعقة على رأس الشيخ بدوي….”الدرب طويل ولابد لنا من الرحيل”…ظلت هده الكلمات تتردد في رأس الشيخ طويلاً قبل ان يصيح مندهشاً:

ـ آآآآآآآاللـه.. .هنا في تناروووووت.. .كيف أنسى ذلك؟!!!

ـ ما الذي نسيته؟…و ما الذي كان هنا في تناروت؟ صاح الحاج عبدالله مستفهماً.

ـ هنا في تناروت منذ عامين…ألم يمت الحاج مبروك عطشاً مع ولده بعد ان تاهت جِمالهما؟ وبعد ان بحثا عنها طيلة ثلاثة أيام واستبد بهم العطش هنا في الوادي!!.. في الشِعاب السفلى!!!..كيف أغفِل عن ذلك؟! ومن يكون بهذه الحكمة في الصحراء غير الحاج مبروك؟ ومن يجرؤ عن السير في الصحراء صيفاً غير الحاج مبروك؟

ارتفعت الشمس بضعة أمتار متوعدة بنهار قيظ شديد، فبدأت الكائنات الصحراوية تئن تحت سياط الشمس اللاهبة. انصت الشيخ بدري لصوت السكون ثم استرسل متنهداً:

ـ شمس الصحراء تجبر حتى أعتى الجن على الخلود للسكون. فمن يجرؤ على السير في مثل هذا الحر؟ هنا تذكر كلمات ضيفه “الدرب طويل ولابد لنا من الرحيل”…قال متنهداً وهو يهز رأسه ببطء: مسكين من يكون دربه طويلاً في مثل هذه الصحراء الحارقة….مسكين من يرفض المساعدة في مثل هذه الأيام.. .و مسكين من يَرُدُ المساعدة في مثل هذا الحر. عندها تذكر لقاءه مع الضيوف.. .. تذكر كيف عرض المساعدة على الأطياف.. ..على الأشباح.. ..و قال مستغرباً: حتى الأشباح ترفض المساعدة في مثل هذه الصحراء القاسية!!!.

من حولهما تلاعب السراب واشتدت الحرارة.. ..انه الصيف.. ..صيف تناروت.

_________________________________________

تناروت: وادي كبير يمتد من اطراف الحمادة الحمراء حتى الحدود الليبية الجزائرية.

الودان: الوعل.

مقالات ذات علاقة

رائحة الوعـود

المشرف العام

في شوارع المدينة

المشرف العام

ملاكي

المشرف العام

اترك تعليق