يغلب فى الآونة الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعى – مما يجعلها معبرا عما يدور فى شوارعنا وبيوتنا – إشاعة آراء ووجهات نظر تُصدر أحكاما مطلقة وشمولية أن شعوبنا متخلفة فى رأيها، وأنها حالة ميؤوس منها فى تقبل مناخ الديمقراطية، وليس لأفرادها القدرة على النهوض أو حتى دعم من ينهض.. و«كلها» و«أجمعها» تنشر الخراب والشؤم وأن لا حول ولا قوة، ولا أثر ولا فعل ولا مفعول! هذا وذاك جلد للذات وقطع طريق يعمى العيون، كما يشل الأقدام التى تتربص مترددة بانتظار إشارة مؤملة محاولة الخطو فى ظروفنا الصعبة، فيأتى من يدعم تكاسلها وقتل النفس الطموحة فيها بأن الكل والجميع فاشلون خائبون.
وهنا أتذكر هذا، ففى أول التسعينيات جرى استقطابُنا كمعلمين كوننا ننتهج طرقا تربوية تعليمية مُغايرة فى تدريس موادنا للمرحلة الابتدائية، وعرض علينا أن نُوسع دائرة ذلك الاجتهاد فى منهج تعليمنا وطرق تدريسنا ليشمل التلاميذ ببيوتهم عبر بث تليفزيونى لدروس تعليمية فى المواد الأساسية من علوم ورياضيات وقراءة وتربية إسلامية، وأعلنوا صراحة أن هذه الخطة تستهدف معالجة التدنى الملحوظ فى علاقة التلاميذ بتحصيلهم الدراسى (مرحلة الأساس)، وخاصة من الصف الأول إلى الرابع الابتدائي، الخطة بأهدافها قدمها أستاذ له تجربته وعلاقة بالطفولة، عرّفنا بنفسه وخاض معنا عدة جلسات فى كيفية إعداد الدرس أمام الكاميرا الذى ليس هو كما فى فصلنا أمام تلاميذنا فقط، كان صاحب المشروع الأستاذ فرج قناو – رحمه الله – وكنتُ معلمة علوم الابتدائى فى تلك التجربة، وأنحزتُ للهدف الرئيس حين دافعتُ لأسرتى عن قرار خروجى بالتليفزيون لأول مرة، أول خروج الدروس التليفزيونية لفت انتباه كثير من شرائح المجتمع، وكانت قلة منها فقط تخوفت من قفل المدارس الابتدائية وجعل التعليم منزليا تليفزيونيا، وهو ما لم يُدرجه أصلا الأستاذ «قناو» فى مشروعه، أما آراء الآخرين ممن كنتُ أقابلهم بمؤسسات أرتادها أو من ألتقيهم يوميا بالشارع فقد دعموا الفكرة وأعلنوا عن بذلهم جهدا للجلوس برفقة أبنائهم ساعة بث الدروس، ومنهم من سجل الدروس بالفيديو (التقليدى وقتها السونى والجى فى سى) وصار يُعيدها عرضا بل إن هناك من تواصل معى بشكل شخصى وهو يستعد للسفر وألح طلبا لتلك الدروس مجتمعة لكى تكون رصيدا لعلاقة أطفالهم بعربيتهم ومنهجهم التعليمي، التشجيع والدعم والحماس لدروس تُصحح أو ترفد أو تُعين التلاميذ على تقبل دروسهم، والانفتاح على واجهة أخرى غير فتح كتاب، وترديد ما تقوله المعلمة شجعنى على تقديم مقترح توظيف التقنية والاستفادة مما تمنحه من جماليات تُرغب التلاميذ فى تلك المرحلة كالرسوم والصور المتحركة، فقد كانت مادتى «العلوم والصحة» مجالا فسيحا لذلك وتخيلت أن بإمكانى أن أحيل كمثال درس «الكائنات الحية وغير الحية» إلى حدوتة تعليمية، تخرج فيها حقيبة مدرسية أو مقعد أو طاولة راقصة وتقول للأطفال أنا لا آكل ولا أشرب ولا أغنى وليس لى أطفال فهل أنا كائن حى؟..فترد عليها قطة أو بطة أو ضفدع برفقة صغارها: ها أنا هنا آكل وأشرب وأغنى (ميو أو واك أو بق) وصوتى يعلو وأطفالى حولي، أنا من الكائنات الحية واسأل عنى ماما وبابا، وهكذا تخيلت إحالة الدروس إلى إعمال للخيال وتحريك للعقل بما يناسب تلك الشريحة التى تميل للمحسوس أكثر من المجرد.
وأتذكر هنا أنى أشرتُ وأنا أقدم درسى التليفزيونى فى بداية التجربة، وقلت للأطفال «انظروا هذا الضفدع الأخضر الصغير الجميل هو كائن حى»، فقابلتنى سيدة وأنا أتسوق واستأذنت أن تشكرنى على طريقتى فى تعليم الأطفال بلغة عربية مبسطة، وأعربت عن دهشتها من تعليقى بأن الضفدع كائن جميل فهل ذلك صحيح؟ فأجبت أنا فى حالتى طفلة مثلهم أراه كائنا جميلا وضحكنا سويا، ما أريد قوله رغم جدة التجربة التعليمية التليفزيونية ليبيًا وعربيًا (وقتها كانت الدروس تُخصص للشهادات) إلا أننا كمعلمين قابلنا ترحابا ودعما وتشجيعا بل ومقترحات تحسن أداءنا من الناس، الجمهور الذى استقبل دروسنا مع أطفاله، ونظروا للمسألة فى إطار توظيف ما يتاح للإصلاح، وتقديم ما أمكن رغم ما حصل لاحقا من إيقاف دعم التجربة التليفزيونية عن عمد وقصد، وكعادة كثير من مشاريع مبكرة انطلقت عندنا، وأتذكر الجملة التى تم الرد بها على مقترح توظيف التقنية ليستفيد أطفالنا، أن إعدادهم كبراعم وأشبال وسواعد الفاتح العظيم وجنود حُماة للأخ القائد أجدى وأنفع!!