لقد لبسنا كليبيين جلابية الاستقلال الواسعة التي كانت الرياح تلعب داخلها، وصرنا نحلف بـ”سيدي إدريس طلاّق المحابيس”، ثم لبسنا عباءة الفاتح المصنوعة من وبر الجمال في قيظ هذه الصحراء المترامية، وأصبح الهتاف لصاحبها الذي حرّم لبس ربطة العنق: “يا بوعباة دونك ثلاث ملاين”. وبعد فبراير، لبسنا شنة عبد الجليل، وصار الهتاف: “نجي بوشنة حمرة .. ما نديروا شي الا بامره”.
وبعد أفول الربيع العربي جاء خريف التعري لكل شيء ومن كل شيء، وبدأت طقوس الستريبتيز على أشدها في المجتمع الليبي، وهي طقوس مهمة جدا لأنها ستكشف عورات هذا المجتمع التاريخية، وتتعرى فيها كل الأوهام التي شابت بناء هذا الكيان الذي ظل هشا في كل مراحله. هذا الكشف وتعري الأوهام خطوة على طريق طويل وشاق صوب ليبيا التي بها نحلم.
في إحدى حكايات التراث الروسي يحكى عن فضولي مستعجل أراد تحرير فراشة من يرقتها قبل النضج فماتت بين يديه، ما يختصر تلك العجلة الثورية التي أرادت تحويل الاتحاد السوفياتي من دولة زراعية إقطاعية إلى دولة صناعية في سنوات قليلة، وتحرير اليرقة قبل نضجها قد ينطبق بشكل أو آخر على تاريخ تأسيس الكيان الليبي، وهو ما اختصرته جملة السيد حمد باشا الباسل، أحد أعيان قبيلة الفوايد : “يا جماعة الخير .. الاستقلال راهو جلابية كبيرة !”. حين كان في القاهرة، أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، ضمن اجتماع بعض أعيان ومشايخ ونشطاء ليبيين في المنفى يناقشون مسألة استقلال ليبيا.
لكن هذه الجلابية ارتدتها ليبيا في النهاية، وكان أمامها خياران لتكون على مقاسها؛ فإما أن تقوم بتضييقها، أو تعمل على زيادة حجم ليبيا كي يستقيم الأمر، وترافق الخياران معاُ، حيث تمثل تضييق هذه الجلابية في وجود قواعد أجنبية عكرت صفو الاستقلال، بينما تمثل الخيار الثاني في العمل الدءوب على تسمين الدولة بشكل متسارع وتغذيتها بدسم تجاوز قدرتها على الهضم، خصوصاً مع انفجار الثروة النفطية في أرضها، ما تسبب في عسر هضم تسبب بدوره في تكليف 11 وزارة في 17 سنة، ما يعتبر رقما قياسيا في مؤشر عدم الاستقرار.
انتقلت ليبيا من رغبة إرادة وطنية في تعجيل نموها الطفري بشكل أدى إلى نتائج عكسية، إلى مرحلة الحماس الثوري الذي يهتف دون أن يخطط، ويحلم دون أن يفسر أحلامه، ودخلت مرحلة العباءة الصوفية بدل الجلابية، حيث العباءة لباس مرن بإمكانه أن يناسب كل حجم ويستجيب لبرامج الريجيم القاسي الذي وضعه النظام لتنحيف الدولة لدرجة الهزال، ويناسب هوس الثوري المقلد الذي أراد بهذه الدولة الهزيلة أن يقارع أكبر قوى العالم ويزاحمها في مناطق النفوذ عبر جنون متلفع بعباءة من وبر الجمال في كل المواسم.
كان أكثر ما يلفت نظر المتابعين لمراحل الدكتاتورية في ليبيا ملابس الدكتاتور الغريبة، التي تتغير بتغير مزاجه السياسي وبتقلب أيدولوجياته التي يعتنقها، وكان آخر صيحاته قميص مزركش بصور لزعماء أفريقيا الذين بايعوه كمنقذ للقارة عبر ما يضخه من أفكار وأموال لهذا الفضاء الجديد الذي اختاره بعد أن خان أمانة القومية العربية تلك التي كلفها بها أبوه الروحي جمال عبد الناصر.
أصبحت تلك الجلابية الفضفاضة التي تحدث عنها الباسل في ذمة التاريخ، ودخلت ليبيا إلى حفلة عرض أزياء لا هوية لها يظهر بها كل مرة “قايدها” المُهرج الذي كان يسمي نفسه المفكر الملهم.
مع بداية حراك فبراير أحيَا الليبيون من جديد زمن الجلابية بمؤثرات بصرية وسمعية مستدعاة من تلك الحقبة، وكنا كمن يعود في آلة الزمن إلى الماضي أو ما سمي الزمن الجميل، وكانت هذه فكرة الكهول الذين يحتفظون بصور في الذاكرة من رومانتيكية العهد الملكي، أما الشبان فكانوا مرتبكين تجاه هذا الديكور، وفي الميادين رأينا قبعة جيفارا بجانب الطاقية الأفغانية في إحدى الخلطات المبكرة والغريبة لحراك مازال يبحث عن بوصلة.
عدنا عبر الديكور إلى زمن المملكة، لكن زمن القذافي كان أكثر تغلغلا في العقل والنفوس، وأثمرت تلك الجهود التعبوية التي صرف عليها مبالغ خرافية لتجعل أفكاره في قلب المرحلة الجديدة وفي عقول من ورثوا ليبيا، أو كما قال في آخر خطاباته بمدينة سرت، ما مفاده: أن نظريته لن تموت لأنها متغلغلة في دماء وعقول الليبيين.
والنتيجة لم نرَ شيئا على أرض الواقع من أهداف الحراك الليبي وشعاراته، وكل ما حدث إعادة إنتاج المرحلة بكل أفكارها التي غسلت بها التعبئة الثورية النشطة أدمغة الغالبية، بل إن ليبيا التي تحرج النظام من نطق اسمها فترة طويلة اختفت مرة أخرى، بعد سكرة فبراير، في خضم المصالح الجهوية والفئوية والشخصية، وانقسمت جغرافيتها بين حلفاء للأجندات الدولية والإقليمية المتصارعة، وانقسم وجدانها الديني بين مذاهب وافدة تفوح منها رائحة البترول العربي الذي أصبح وقودا لتشغيل محركات التخلف.
في إحدى القنوات التي تفتحت بعد فبراير أخطأ المخرج وبث ما من المفترض أن يكون في الكواليس قبل بداية البث، وظهر السيد، مصطفى عبدالجليل، وهو يستعد للظهور على الشاشة: مرة يرتدي شنة حمراء ومرة شنة سوداء. وكان هذا الارتباك مؤشراً مبكراً على مخاوف مكبوتة مما يتهدد ليبيا من انقسام بدأت علاماته منذ بداية حراك فبراير حين انقسم المجتمع ونخبه بين مؤيد للحراك ومؤيد للنظام.
مع المحللين والسياسيين أو أشباههم الجدد، بدأت ربطات العنق الملونة تعود إلى المشهد بقوة، دون أن تستطيع إخفاء العباءة أو العمامة التي تظهر في طرق أحاديثهم وفي مضامينها، فيما يوزعونه من تهم جاهزة، في المزايدة بالوطنية، في شتم وتهديد القوى الكبرى، في تأليه زعامات جديدة تسعى للسلطة المطلقة. ومن جديد انتصرت الخيمة على القصر، وانتصر الفرمان على البرلمان، وانتصرت القبيلة على الحزب، وانتصرت صناديق الذخيرة على صناديق الانتخابات، ولم يشفع ارتداء رئيس المجلس الوطني الانتقالي لشنة سوداء في ظهور بوادر الانقسام وما ترتب عنها من ظهور لحركات انفصالية تتذرع برهاب المركزية وتتخفى في ثياب الفيدرالية، وفتاوى تؤكد أن غزو الغرب الليبي للشرق جهاد في سبيل الله، تمخض عن حرب سميت “فجر ليبيا” أجهضت المسار السياسي الذي كان بمثابة جلابية أخرى واسعة.
في قلب هذه الأدلجة للملابس ظهر بخجل في طرابلس ما سمي “يوم الزي الليبي” الذي ارتدى فيها رجال ونساء الجرد الليبي والفراشية، والذي كان يضمر في داخله احتجاجا سيميوطيقيا على ما تتعرض له الهوية الليبية من تشوه وتشويش.
___________________
نشر بموقع بوابة الوسط