خليل الحاسي
هناك مقدمة لا بد منها لتحديد المسافات الأخلاقية بين قيم الديموقراطية والتداول السلمي على السلطة، وبين توافق القوى المهيمنة الطارئة على الواقع الجديد الذي ينتجه زلزال التغيير.
ربما تعالج الانتخابات المبكرة وصناديق الاقتراع بعد الثورات والحروب الأهلية والصراعات السياسية شعور المواطن بالانجراف نحو مجاهل الحدث الثوري. ولكن هذه الآلية التي تمثل حجر الزاوية في بيت الديموقراطية، تحتاج لمجتمع تجاوز العلاقات الأولية المبنية على الانتماءات الأوليَّة، المؤسسة على وحدة الدم – القبيلة، ووحدة العقيدة – الدين.
وليس للفكر السياسي الإنساني، فيما أوجده، ما هو أعظم وجوداً من الديمقراطية – أقله في عصرنا الحالي – التي تحرر المجتمعات من السلطة الأبوية الاستبدادية، وتنطلق بها من حدود اللحظة التاريخية القديمة نحو آفاق هموم البشرية الراهنة.
غير أن تحديث نظام الدولة السياسي، والانتقال به من المناخ الديكتاتوري إلى مصاف التعددية عبر آليات الديموقراطية، في مقابل تجاهل تحديث المجتمع الذي يعيش ازدواجية الأغلبية السياسية والأغلبية المجتمعية، لن يجعل من الممارسة الديموقراطية التنافسية إلا نشاطًاً صوريًا، مآلاته محكومة بالتصلب الذي يأذن بالانهيار.
إن أعظم ما يخشاه صاحب هذه السطور أن تنتقل هواجسه الديموقراطية من الممكنات الذهنية إلى الممكنات الواقعية، إن لم يسبق الانتخابات القادمة مشروع تثقيف للناخب، يطلعه على شكل النظام الانتخابي القادم. ولن أكون من حزب المتفاجئين عندما ينقشع ضباب المحاصصة المتنكرة في صورة الديموقراطية، فيكشف عن الإسلاميين أصحاب الحظوظ الأعلى في ديموقراطية الوفاق، وليس في ديموقراطية التنافس.
بدو المخاوف التي تمثلها بعض الآراء من قضية الانتخابات وجيهة، عند النظر للتجربة الليبية القصيرة مع آليات الديموقراطية؛ حين تعرض الرأي العام للتضليل خلال انتخابات العام 2012. ذلك أن القانون الانتخابي تبنّى ديموقراطية توافقية خفيّة تجلّت في نظام البواقي أو الكسور العشرية، فانخرط الناخب الليبي حينذاك في ديموقراطية تنافسية نزيهة مفارقة للديموقراطية التوافقية التي وُضعت داخل روح القانون الانتخابي بتوصيات من الأمم المتحدة، لضمان تمثيل سياسي كامل لكل الأطياف الليبية التي شاركت في انتفاضة السابع عشر من فبراير؛ وبعبارة أخرى، لقد كانت عملية توافقية منذ البداية. واضح إذن أن مفهوم الديموقراطية ولد في حظيرة التوافق، وقد أصبح في حكم الحقائق السياسية المسلَّم بها أن أدبيات الوفاق – على نبلها – تتعارض مع أخلاقيات الديموقراطية، وتلغي فاعلية الأخيرة القائمة على مبدأ “الفائز يأخذ كل شيء”.
وهكذا اختلف تمثيل “تحالف القوى الوطنية” في الشارع عنه داخل قاعة المؤتمر الوطني، بعد التحايل القانوني على الخيار الديموقراطي للأغلبية. لم يكن المجتمع الليبي إذن مُصوِّتا مُضَلَّلا مأسورًا بسحر الشعارات التي لا تصلح إلا للاستهلاك الإعلامي في أول عملية انتخابية له بعد انتفاضة السابع عشر من فبراير. ولا أذكر أنه وقع في شرك التصويت العقابي الذي تعثَّرت به المجتمعات الموتورة من إرث الأنظمة التي حكمتها بسلطة الجهل والحديد والنار، عندما منحت أصواتها لجماعات الإخوان المسلمين التي أغرقت مجتمعات المنطقة بخطاب الضحية.
لا أدري! ولكن تستفزني مدارك ذاكرتي الانتخابية كلما سمعت صوتًا من مجتمع الإسلام السياسي يتكلّم عن الانتخابات ويسبّح باسم الديموقراطية!
كان بناء دولة ديموقراطية وحديثة، أحد أعقد التحديات التي واجهت الإسلاميين في ليبيا بعد انتخابات المؤتمر الوطني العام ووصولهم المريب للسلطة عبرالنظام الانتخابي “التوافقي” فغنيّ عن القول أن قوى الإسلام السياسي فشلت في إبداع قراءة تتسق مع أبجديات الواقع، وقدمت تعريفًا مفردًا لليبي وضعه داخل إطار “العربي الإسلامي” فقط، كما فشل الإسلاميون الليبيون أيضًا في إنشاء أجهزة أمنية تحفظ أمن المواطنين، ولكنهم نجحوا عوضًا عن ذلك في تقديم نموذج للعبث والفوضى، فأسسوا ما أسميه “الأمن ميلشياوية” التي استخدمت تحديدًا في قمع التيار المدني وتواطأت مع التنظيمات الإرهابية، وأُطلقت لها كامل الصلاحيات للتنكيل بكل من يُعتبر تهديدًا للمشروع الإسلامي الذي انتحل صفة التغيير الثوري.
في انتخابات مجلس النوّاب، عاد الناخب الليبي ليعبر من جديد عن وعيه تجاه حقّه الديموقراطي، وشارك بصوته الذي ألقى بالإسلام السياسي خارج الصندوق. فلجأ الإسلاميون إلى العسكرة، ثم تخندقوا مع الجماعات الجهادية ، وانقلبوا على الخيار الديموقراطي لليبيين.
غير أن كل تلك المخاوف والهواجس القائمة علي وقائع سياسية لا يمكن إنكارها، ليست كافية ــ في ظنّي ــ للكفر بالديموقراطية كوسيلة لإدارة الخلاف السياسي، والتنافس والتداول السلميين على السلطة. ذلك أن الديموقراطية عملية تصحيحية، تقوّم المشهد السياسي وتُنضج الرأي والصوت الديموقراطيين على الدوام من خلال الممارسة، ولا شيء غير الممارسة.
_____________
نشر بموقع 218