مقدمة:-
ما يجعل القصص مغتربة هو غربة صاحبها عن وطنه، وغربته هذه هي غربة قسرية، لا مجال للخيار فيها أو هي خيار من لا خيار له، حيث يختار له القدر أن يعيش في مكان لا يربطه به سوى اللجوء والفرار من مكان ربطته به كل أنواع الروابط، تبدأ من مسقط الرأس، ولا تنتهي إلا بعزمه على وضع حد لصراع مع جدران سجن قاتلة للطموح، وائدة لأحلام شاب قضى ما يربو على عشرة سنوات قابعاً داخل زنزانة نظام حّول الوطن إلى سجن كبير يدور في فلك الوحدة والعزلة، وتلك كانت وراء خروج العديد من الشباب الليبيين من وطنهم الذي حملوه في قلوبهم وطافوا به أماكن بعيدة، استطاعوا أم لم يستطيعوا التعايش معها، فإنهم عاشوا فيها محملين بأوجاعهم وهمومهم، ناشدين حرية دون أجنحة.
ومن هنا تنشأ عدة علاقات بين الكاتب المهجري وبين وطنه الأم، أو هو يحاول أن يحافظ على تلك العلاقات عبر مجموعة من القيم الدينية والاجتماعية المتمثلة في مجموعة من المقولات السردية التي يعتمدها في نصه، والتي تتخذ من التناصات القرآنية وتناصات المأثور الشعبي المعبر عنه بالحكم والأمثال الشعبية والعبارات المتداولة وبعض الأشعار ذات الصلة بالمجتمع المهاجر منه، والباقية أوتاده مغروزة في وجدان كاتبنا المليئة قصصه بتلك التناصات، والتي يجعل منها آلية للدفاع عن مخزونه الثقافي المتراكم من جهة، وعن عدم رضوخه لثقافة آخر مجهولة عواقبها إن استسلم لها كلية.
إن تصدع الرابط المكاني للكاتب المغترب يجعله يتمسك ولو بخيط من ذكرى عابرة لتحيي داخله سنوات من الفرح والحزن، إنه يعيش في مكان أحبه عندما كان بعيداً عنه، ثم فشل في التماهي معه عندما هاجر إليه، وهو هنا في قصصه كأنه يقول لنا المثل المعروف (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه).
ولهذا امتلأت قصص بوكليب بالتناصات من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، تلك التناصات التي ربطته بالمكان الذي احتواه ولم يستطع امتلاكه. وقد أخذ التناص عنده أشكالاً عدة، منها: التناص المحيط، التناص القرآني، التناص التراثي، تناص الأغاني، وقد استخدم التناص في عدة موضوعات، مثل:- السخرية وحالات الغضب والإحباط والقلق، والثورة.
أولاً: التناص المحيط
يحيط الكاتب قصصه بعنوان متناص مع مقولة من المتداول الشعبي، ففي العادة فإن كلمة (البر) يستخدمها العرب كثيراً على مناطق بعيدة عن المدينة، وفي المأثور الشعبي الليبي يقال: (كأنه جاي من بر الطليان)، للدلالة على بعده و غرابته، والكاتب عندما يختار لقصصه عنوان (حكايات من البر الإنجليزي)، يجعلنا في حالة من توقع قصص تحكى عن البر الإنجليزي أو الريف الإنجليزي. كما هو معروف.. لكن هذا التعبير جاء لينسج حكايات عاشها الكاتب أو عايشها من خلال بعض الأحداث الواقعية، أو من خلال المتخيل الذاكري في البراري البعيدة وتأتي صفحة الإهداء أيضاً متضمنة تناصاً شعرياً من التراث الشعبي الليبي يعبر فيه عن أمل العودة إلى وطنه وملاقاة والديه المستهدفين بهذا الإهداء، و ذلك عندما يقول: صيور صبرنا يمحيه الياس مو علي طول عمرنا[1]
فالعنونة عند الكاتب تنسبك مع التناص، لتعطي القارئ مدلول متن النص، كما تؤلف صورة استباقية عن مضمونه، فالكاتب هنا يجهز لحكاياته من صفحة الغلاف التي تحتوي على العنوان، فالعنوان هنا هو البداية، (وللبداية أصداء في النهاية تخبر باستراتيجية السارد وتفصح عن مساره من خلال تقنيات السرد التي يشتغل بها)[2]، واقتناص كاتبنا لهذا العنوان والتحوير فيه، يكشف عن مدى ارتباطه بعالم نسج معالمه على خارطة طفولته وشبابه، فولعُ الكاتب بالمدينة التي هاجر منها، ولم يستطع الانسلاخ عنها، هو مكونٌ دفاعي كامنٌ في داخله، وجَسورٌ في نفس الوقت يصرح بكنزه الثمين الذي جمعه ليصنع منه جهاز حماية مناعي يشهره كلما أحس بإمكانية ذوبانه منتظراً في محطات القطارات، وملتفاً بضباب لندني، لا يقهره سوى النبش في أعماق ذاكرة تحوي مدينة كاملة بشوارعها وأزقتها، بأناسها وبحرها وشمسها، طرابلس التي هي (أبعد من طفولة ضاعت في زحام الوقت، واستحالت شجراً اكتهل بالنسيان، أناديها فلا أسمع سوى صدى صوتي، ألاحقها كطريدة في مروج الذكريات فتراوغني، وتفلت مني، وأظل ألهث في شوارع لندن خلف الباصات والقطارات، أدخن حسرتي وأنا أرصد بتوتر خفق الأنوثة تضج من حولي فأصرخ بملء صوتي:
يا بلادي البعيدة، فلا يسمعني سواي، أواصل لهاثي، وأنقب في مشاجب الذكرى عما تبقى عالقاً من فرح لعلي أتوسده حين آوي إلى فراشي وأنام) [3]
وعلى هذا النمط يسترسل كاتبنا المهاجر في سرد قصص على علاقة وطيدة بسيرته الذاتية، فالكاتب خرج من السجن السياسي ليقع فريسة سهلة لمطاردة حلمه الدائم بالحرية، ورفض الواقع بكل أشكاله، والتمرد على صيغ – أكل عليها الدهر وشرب – صيّرها المتملقون من ثوابت الأمة المقدسة، وهذا ما جعل الأديب عمر الككلي زميله في السجن، يطلق على هذا النوع من الكتابات (كتابات ما بعد السجن) في تقديمه لهذه الحكايات.[4]
إن الخصوصية الليبية في تناصات هذا الكاتب هي مؤشر لوضع هذه الخصوصية في مكانة متميزة عنده، كما أنها عملية (تجاذب وجداني) كعارض من الأعراض الرئيسية للفصام [5]، ذلك أن التجاذب الوجداني يستخدم في (تحليل الصراعات النوعية، حيث يتواجد في آن معاً الشطر الإيجابي والشطر السلبي للاتجاه العاطفي، بشكل لا ينفصلان فيه عن بعضهما مكونين بذلك تعارضا غير جدلي يعجز فيه الشخص الذي يقول في نفس الوقت نعم ولا عن تجاوزه )[6]، وقد رأينا في مناجاة الكاتب مدينة هاجر منها، كيف ينقب في مشاجب الذكرى محاولاً أن يتوسد ما بقي عالقاً فيها من بقايا فرح، ونجد هذه المناجاة في العديد من هذه الحكايات أو القصص القصيرة، وفي الوقت نفسه نجد في قصص أخرى بعضاً من اللوم والعتاب الذي يصل إلى درجة النكران حينما يقول: ” ثمة مدن كطرابلس تهواها فترميك في المنافي شريداً “[7] والأمثلة كثيرة لا يمكن حصرها، في حين نجد حنينه إلى الوطن، وبالتحديد طرابلس والمدينة القديمة التي ولد فيها وترعرع، يصل ذروته في قصته (حكاية قديمة )، ففي هذه القصة يصل إلى الذروة في شعوره بالمرارة وفقدان الأمل، واليأس يجوب حنايا قلبه في مدينة فرضت عليه طقوساً بقدر ما أحبها، ملّ منها، حتى دفء البيت الذي يتحدث عنه سرعان ما يتحول إلى جليد، والأحلام تصبح مع الوقت (موضة قديمة) [8] بحسب تعبيره، وسوف نعرج على هذا الموضوع لاحقاً.
هذا وتتنوع التناصات المحيطة ما بين عبارات شعبية مثل:-
(الوي واشبح لقدام)، (تحب تفهم تدوخ)، (الحاج منصور في لندن يا سمي صبي المي)، (حصلتك يا مطلين)، (كل بلاد وعزاها)، (تعيش وتاكل غيرها)، وما بين عبارات أغان معروفة مثل:- (افرح يا قلبي)، (يا هم العمر)، (هي الحالة ايه)، وهو يستخدم هذه التناصات في عناوينه استهلالاً للموضوع، وتوطئة لمضامين نصوصه، وتعبيرا عن اتخاذ موقف سابق من الموضوع أو الفكرة التي يعبر عنها، فإذا أخذنا نموذجاً واحداً من تلك القصص مثلا ووضعناه على مشرحة التحليل النقد نفسي نجد أن الكاتب اشتغل على تناصاته بمهارة، واستخدمها بتقنية عالية، ففي قصة (الوي واشبح لقدام) نجد هذه العبارة في الاستهلال والخاتمة حيث يعنون الكاتب قصته هذه بتلك العبارة ويختمها أيضاً بها، وهو لا يكتفي بذلك، بل تتكرر العبارة ما بين الفقرات في القصة، وبالتالي يكون التكرار لافتا، ومنبها للقارئ المفترض على أنه ما يزال تحت هيمنة قناعة الكاتب بأن تلك العبارة التي يستعيرها من واقع اجتماعي مشوش اضطربت مفاهيمه، فصار المواطن فيه يفرح ويطير من الفرح عندما يقارن بين حياته التي يعيشها وبين ما يسمعه من كوارث في نشرات الأخبار، وذلك عندما يستيقظ صباحاً ” فيفرح لأنه مازال حياً، وأن بيته لم يتعرض للسرقة وهو نائم، ثم حين يغادر فراشه، و تضغط يده على زر تشغيل الكهرباء فتضاء الحجرة فيفرح، ثم حين يدخل الحمام، ويفتح صنبور المياه فيندلق الماء من الصنبور، فيفرح أكثر، وحين يهم لمغادرة بيته، ويفتح الباب يجد سيارته في انتظاره، واقفة في مكانها المعهود، ولم تتعرض للسرقة يفرح، ويفرح أكثر حين ينطلق هدير المحرك، ثم يقود سيارته، وحين يصل إلى مقر عمله سالماً يفرح، ويطير من الفرح حين تصله الشائعات أن المرتب الشهري سيصل إلى حسابه المصرفي في الموعد، ثم حين يعود إلى بيته تبلغه زوجته أن جارتها أبلغتها أن الزيت والطماطم وصل الجمعية فيفرح جداً، وحين تهمس إليه أنها وجدت علبة سجائر مخبأة في حقيبة يد ابنته، يفرح لأنها لم تجد حشيشاً، وحين يسمع من جاره أنه ضبط ابنه يدخن الحشيش يفرح لأن ابنه لا يتناول حقن الهيروين ” [9].
إن هذا اللاموقف للمواطن العربي المنصهر في بوتقة مجتمعه، بإيجابياته وسلبياته، المنعدم الفرح الحقيقي، والقائم على تراكم يومي، يشكل فكره ووجدانه على منظومة الطاعة المتجردة من التفكير.
وبذلك يكون الكاتب قد استخدم في مدوناته القصيرة – إن صح التعبير – تقنية الاستباق عبر عناوين تتضمن موقفه المسبق المعلن عنه في متن النصوص وعتباتها وخواتمها، ويكون التكرار نوعاً من القصدية والإصرار الواعي إزاء ظواهر مجتمعية يمارسها أشخاص بإصرار على قمع الذات الواعية وتقزيم الفردية أمام تيار التقليد الجماعي الجارف.
ثانياً: التناص القرآني:-
يمثل التناص القرآني لدى الكاتب المسلم خاصة قيمة متفردة، وبما أن كاتبنا من مواليد مدينة طرابلس في القرن الماضي، فإن المدينة القديمة بالعاصمة الليبية كانت تنتشر فيها الكتاتيب آنذاك، ويبدو أن كاتبنا تعلم في تلك الكتاتيب وحفظ ما حفظ من سور القرآن الكريم كأبناء جيله، فكان لذلك أصداء واضحة في كتاباته، على الرغم من تصريحه بعلمانيته غير المتطرفة، لأن القرآن بالنسبة إليه كتاب يشع بالتحضر والدعوة إلى القيم النبيلة السامية، فكاتبنا يمقت الإرهاب بأنواعه، وبالتالي فإن استخدامه للتناص القرآني في حكاياته يأخذ شكل الاستفادة من المعنى القرآني في تعبير مبتكر بعناية ينم عن براعة في استخدام مثل هذه التقنية ففي قصته (العد البطيء من واحد إلى عشرة) التي يفصل فيها يقول:- (لا يهمك أن تختلف مع الآخرين بقدر ما يهمك أن تقطع حبل التردد في نفسك، وأن تبدأ التعبير عن ذاتك) [10]، فالتردد عند الكاتب كحبل الوريد إذا قطع فإنها النهاية، ولهذا قرر أن ينهي التردد، ويقتل الخوف، ويتمرد على الرتابة ليفسح لقلمه التعبير عما يلج في خاطره، ولعل التناص القرآني في حكاياته هذه مرجعه إلى توفير الإحساس بالانتماء إلى هوية لها مكان وزمان وبامتلاكه (كياناً تؤطره مرجعيات تجعله يشعر بالانغراس، وبأن له جذوراً وبأن لديه مدى رحبا يوفر له التحرك والامتداد وتحقيق الذات، بمعنى صناعة وجود ممتلئ)[11]، وإن كان هذا الوجود على الورق.
أما اشتعال الرأس بالشيب فترد في العديد من المواضع، من مثل، قوله:- (حين تستيقظ صباحاً وتحاول تذكر حلم الليلة الماضية تكتشف أن خيالك يقتصر على مفردات العالم الصغير والمتشابه من حولك. عندها قد يبدأ الخوف يطرق باب قلبك عندها قد تتجاوز محنة اشتعال رأسك بالمشيب، وجدياً تبدأ محاولة العثور على نافذة مفتوحة على نهار أكثر انفساحاً)[12]، و ذلك عندما يتحدث عن السنة الخامسة في السجن. وفي موضع آخر يقول واصفاً نفسه عندما دخل إلى الحلاق ليحلق شعره، فقال له الصبي (تفضل عمو) [13]، فالشيب هذه المرة يخترق الزمن، ويعبر مساحات الوقت سريعاً، تلك العبارة التي كانت كجرس إنذار له على أن الشباب قد ولى، و أن علامات المشيب قد بدأت فعلا في الظهور، و هو غافل عنها، أو ربما متجاهل لها، فهو ما يزال بعيداً عن وطنه طرابلس، و الوقت يمر سريعا و لم يجد من يستوقفه، أو ينبهه، سوى عبارة صغيرة من حلاق في مقتبل العمر، ربما ألقت به نفس ظروف الكاتب في مدينة ضبابية العينين، ليقف كل يوم وراء كرسيه و يحلق شعور المغتربين مثله ليوقظهم على أعمار مرت بدون حساب كلما قال لأحدهم كلمة (عمو)، و في إشارة من هذه الصفة التي صار يتحلى بها كاتبنا و هي أنه أصبح يُنادى ب (عمو) هذه أتت صورة طرابلس الأسطورة، طرابلس الحلم التائه التي يصورها بأنها (طفولة أصلها ثابت وفرعها في السماء) [14] وهي، كما يقول:- (أقرب إليّ من حبل الوريد) [15]، فهاجس البعد عن الوطن يولد لديه شعور الحسرة، والمطاردة من كل الاتجاهات يصل بالكاتب في لحظة من اللحظات إلى شعور صوفي يتسامى على المكان والزمان، حيث يتماهى مع ذاته ويخلق منها وطناً، لأن وطن الغريب أنه بلا وطن، يذوب في جليد الأيام، ليسرح في أرض لا تحدها حدود الأوطان.
وعلى الرغم من غواية لندن له ليتخذها وطناً، يكتب لها القصائد في آخر الليل، ويرسل لها عقود الفل والياسمين في الصباح.[16] لكنه يدوخ في ازدحام شوارعها الكبيرة و يقتبس عبارة “لا تدركك الأبصار”[17] هنا من القرآن ليدلل على حجم التيه في مدينة بلا ذاكرة، أبصارها بدون بصير لا تعير انتباهاً و لو بسيطاً بجسد يطوف هاربا من غربته إلى غربة من نوع آخر. تلك المدينة التي “تستقبل الغرباء و المنفيين من كل فج عميق بلا مبالاة” [18]، مدينة أدركت استقطاب الأحلام العربية، و فتحت آفاقها الرحبة أمام انهزام أنظمة طاردة لمواطنيها، و دشنت مسافة مفتوحة على “مروج البوح، و سهول المسرة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها”[19] في محاولة و إن كانت وقتية لبناء تواصل متصدع أساسه، لكنه لا بديل عنه في ظل يأس جماعي يكتنف غرباء جاؤوا من بلدان شتى، علهم يحصلون على موضع قدم أو نصف حتى، فدرجة الانسلاخ بينهم و بين حكوماتهم اقتضت الوصول إلى منعرج صوفي عبر عنه الكاتب بقوله:
” لا تفكر بوطن، لأن الغريب بلا وطن،
و لأن كل أرض الله للغريب وطن.
…
…
وطنك ما حلمت في قلبك من أمنيات و عصافير طليقة و أغان.
أنت وطن،”[20]
فهنا يصل الكاتب ذروته الصوفية حيث تلاحم مع أحلامه اللانهائية، و اتّحد مع وطنه، فصار هو الوطن و الوطن هو.
أما طرابلس مدينة الكاتب و التي لا يستطيع أحد أن يتخاصم معها أو يتجاهلها، لأن الخصومة معها تجعل المرء في صراع نفسي داخلي و إن تظاهر بأنه يخاصمها إلا أنه يعلم علم اليقين بأنه يذوب في إيقاعها كحبة مطر[21]. فهي المدينة التي يتجرأ الكاتب ليسائلها إذا بادلته ذات مرة الحب، و ربما يتطاول ليسأل سؤالاً أكثر جرأة في قوله: “و هل لو هززنا إلينا بجذعها تساقط علينا حبها رطباً جنياً”[22]
ثالثأ: التراث و الأغاني و تمثلهما في الحكاية:
يدلنا استخدام الكاتب لبعض الكلمات المأخوذة من التراث أو من الأحاديث الشفهية المتداولة، و المتعارف على دلالتها بين الناس بالتداول، و كذلك كلمات بعض الأغاني المعروفة على أن الكاتب لا يترك فرصة إلا و يجعلها مادة كتابية تعني شيئاً للقارئ، خاصة و أنه يكتب عن تجربة ليبية مقدمة إلى قارئ ليبي، و كأنه يبث أحزانه لأناس يشاركونه نفس القضايا، و تبرز فاعليتها في التأثير على القارئ من خلال استلالها من ذاكرته و إعادة صياغتها لتكون مقوّماً من مقومات الدفاع عن حرية مصادرة، و هوية مستلبة، إن مقولة المثل لتنبئ عن ذاكرة جماعية، و ترميز يؤدي إلى فهم مرتكز على اتفاق غير معلن عنه، مرتبط بأحداث و وقائع و ذكريات لا تُنسى مهما باعد الزمن بينها و بين الإنسان، بل أحياناً تتكرر بصور و أوجه أخرى، فتصبح موضع استدعاء و إسقاط مندمج مع المتغير الزماني و المكاني، و في إطار تعامل الكاتب مع تلك التناصات المقتبسة مما تراكم في ذاكرته، تتراكم التناصات لتخلق جواً من الألفة بين النص و القارئ.
من ذلك ما يجئ في قصة (عزف منفرد تنقصه الحكمة) عندما يقرّ الكاتب بأن الاستغراب و الدهشة لا لزوم لهما في لندن ذلك المكان الذي يعوّدك رغماً عنك بتقبل الأمور كما هي عليها حتى و إن لم تعهدها في مدينتك و ذلك عندما يستعير المقولة الشهيرة التي يكثر استخدامها في المجتمع الليبي عندما لا يريد أحدهم التعليق على موقف ما و هي: ” اللي تلقاه راكب على خشبة قوله مبروك الحصان “[23] أي لا تتدخل فيما لا يعنيك. كما أباح الكاتب لنفسه أيضاً استعارة المثل المتداول في نفس القصة و القائل: ” ليلة قبرك ما تبات برة “[24] للدلالة على عدم الاكتراث لأي خطر يهددك، أما في قصة (حصلتك يا مطلين) فإن الكاتب يحاول أن يهرب من واقع سيء إلى مصير أسوأ و يعبر عن هذه الحالة بقوله: “كمن يهرب من الغولة كي يسقط فريسة سهلة بين يدي سلاّل القلوب”[25]. وهي منقولة بتصرف من القول الشهير (هارب من الغولة طاح في سلاّل القلوب) و الأمثلة كثيرة في القصص فلا تكاد قصة من المجموعة إلا و نجد فيها مقولتين أو ثلاثة على أقل تقدير. نذكر منها على سبيل المثال ما يأتي:
“يا هم العم ” من أغنية للسيدة فيروز، “افرح يا قلبي” مطلع أغنية لليلى مراد أما ما صيغ من الأمثلة الشعبية ليدخل في تركيبة النص الحكائي في هذه القصص، فكثير جداً نذكر منه على سبيل المثال: ” لا احميدة في الكتّاب و لا عويشة في العريفة “[26] ليدلل على وحدته التي يلوكها و تلوكه كل يوم، فليس لديه أطفال يهتم بهم و لا روابط اجتماعية من أي نوع، فقط الروتين اليومي الذي صار تقليداً صارماً يؤطر حياته، الأمر الذي صيّره أشبه ب “الشعير يدور يدور و يرد لقلب الرحى” [27]. (أنشودة المطر) فتُستدعى لتتحول عند كاتبنا إلى تعبير عن حالة راهنة و أجزم أنها وقت الحرب على العراق كما جاء في تاريخ القصة، حيث يقول: “مطر… مطر… مطر و في العراق احتلال شنيع و موت فظيع… مطر… مطر… مطر و عطش يشقق قلبك… مطر… مطر… مطر و في حلقك لهيب من رغبات محمومة، و أمنيات امتصها الحرمان”[28]
يستفيد كاتبنا من عدة مقولات مَثَلية و مغناة ليقحم بها في موضوع غربته. فالغربة علمته الاتصال بجنسيات عربية أخرى غير ليبية، و احتكاكه بهؤلاء ولد عنده معرفة بحكمهم و أمثالهم، و إن كانت لا تختلف كثيراً عن الحكم و الأمثال في ليبيا، فمن الأمثلة الجزائرية قوله: ” يا قلبي قداش تتحمل يا عطيك بومبة !!.”[29]
على سبيل الختام:
وهكذا يمثل رد الفعل الدفاعي مقابلاً ضد ما يطلق عليه بالهدر الذي ” يضرب مشروع وجود المرء كي يصبح كياناً ذا قيمة، و قائماً بذاته، و ذا دلالة و معنى، و اعتبار و امتلاء و انطلاق، مما يمكن أن يلخص في بناء هوية نجاح هذا الوجود “[30]، و هو الأمر الذي تمارسه الأنظمة المستبدة الدكتاتورية ضد هوية المواطن الخاصة في أبرز ممارساتها معه و هي (السجن)، و منعه من استيفاء شروطه الإنسانية، أو القيام بالضغط عليه بوسائل أخرى ينتج عنها إبعاده و نفيه في أوطان أخرى، و لعل الكتابة بأنواعها، أو ممارسة أي عمل فني آخر يعد وسيلة فعّالة في مواجهة هذا الهدر، مما يشكل حصانة خلقية قيميّة ضرورية للحفاظ على التوازن الذاتي، و الاحترام الكياني على المستوى الفردي[31].
إن لغة الكاتب المشحونة بالمتناصات المتعاقبة، تتدثر بأسلوب السخرية أحيانا، حيث يعتبرها (حالة من حالات الوقت، بمعنى (كيف إيجيك الوقت تعالى له) [32]، أي أنه يحتملها على مضض هروباً من حالة السجن الذي كان يقبع داخل جدرانه، لذلك فهو يشعر بأنه يدفع ثمن تمرده على كل أشكال السلطة، ويغيب في دهاليز غربته وشفقته على نفسه.
إن تقاطع الشعور بالغربة مع الموروث الثقافي للكاتب أنتج خطاباً أدبياً قصصياً مدعوماً بتناصات منسبكة مع النص الأصلي، لكنها في الوقت ذاته أضافت للنسيج الحكائي نكهة متنوعة من الموروث الديني إلى الموروث الاجتماعي إلى التفكه و التندر و السخرية، تعبيراً عن طاقة إيجابية حيناً، و طاقة سلبية في أكثر الأحيان.
حيث إن الذوبان داخل مجتمع مختلف عنه بالكامل و بكل المقاييس يجعل شيئاً ما ينتفض بداخله ليحيك خطابا يعد بكل أبعاده تعويضا عن فقدان توازنه العاطفي الذي أخرجه من نسق مقاماته التي تعود العزف عليها.
و بالتالي فقد استشفت هذه الدراسة أن الكاتب وقع ميثاقاً مع ذاكرته من بداية حكاياته،أي من صفحة الغلاف حيث عنوانها يدل على ابتعاده عن وطنه كما رأينا ثم في صفحة الإهداء، و كثيرة هي القرائن داخل نصوصه تشير إلى وقوع تلك الحكايات مع الكاتب أو مع غيره من معارفه، أو أصدقائه الذين التقى بهم في الغربة، و إن كان للمخيلة دور في صياغة مدوناته القصيرة.
_______________________
الهوامش:
[1] – حكايات من البر الإنجليزي: جمعة بو كليب، دار الفرجاني، ط1، 2009. ص الإهداء.
[2] – السرد والتأويل (قراءات في النص السردي العربي الحديث ): خالد الغربي، صفاقس، الشركة العامة للطباعة والورق.ط1، 2010، ص100
[3] – المصدر السابق ص 61
[4] – انظر المصدر السابق. ص 8
[5] – انظر معجم مصطلحات التحليل النفسي. جان لابلانش و.ج.ب بونتاليس ترجمة د. مصطفى حجازي، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط3، 1997، ص 156.
[6] – انظر المرجع السابق. ص157
[7] – حكايات من البر الانجليزي. ص168.
[8] – انظر المصدر السابق ص 117.
[9] – حكايات من البر الإنجليزي. ص35-36
[10] – المصدر السابق. ص24
[11] – الإنسان المهدور ( دراسة تحليلية نفسية ): د. مصطفى حجازي، الدار البيضاء، بيروت، المركز الثقافي العربي،ط1، 2005. ص32.
[12] – حكايات. ص 24
[13] – المصدر السابق. ص 63.
[14]- السابق ص 168.
[15] – نفسه 169.
[16] – انظر المصدر السابق. ص 168.
[17] حكايات ص 220
[18] 47 المصدر السابق ص
[19] السابق ص 130
[20] نفسه ص 131
[21] المصدر السابق ص 169
[22] المصدر السابق و الصفحة نفسها
[23] حكايات ص 40.
[24] المصدر السابق ص 41.
[25] السابق ص 91.
[26] السابق ص 51
[27] المصدر السابق ص 52
[28] السابق ص 119 – 120
[29] حكايات ص 158
[30] الإنسان المهدور ص 15
[31] انظر المرجع السابق ص 318
[32] – حكايات. ص 168.
مصادر و مراجع:
جمعة بو كليب: حكايات من البر الإنجليزي، دار الفرجاني،ط 1، 2009.
جان لابلانش –ج. ب. بونتاليس: معجم مصطلحات التحليل النفسي – ترجمة: د. مصطفى حجازي،بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، ط 3، 1997.
خالد الغريبي: السرد و التأويل (قراءات في النص السردي العربي الحديث )، صفاقس، الشركة العامة للطباعة و الورق، ط 1، 2010.
د. مصطفى حجازي: الإنسان المهدور (دراسة تحليلية نفسية )،الدار البيضاء – بيروت، المركز الثقافي العربي، ط 1، 2005.