قصيدة رحمة نموذجاً
توفيق عياد الشقروني
المقدمة
هذه المقالة الثانية في خطة عملنا نحو نقد نصوص نثرية منتقاة من المشهد الأدبي الليبي، في محاولة أولية لقراءتها كمتلقٍ يحق له التفاعل مع هذه النصوص، في محاولة لملء فجوات افترضتها، والإتيان برؤية مختلفة عما باح به النص، إضافة إلى محاولة البحث عن أبعاد جديدة توارت في خلفية الألفاظ الظاهرة، أو هي جملة من المكنونات المسكوت عنها لفظاً، وظهرت بجلاء في معاني النص وسياقه ونظمه، ونحن نسعى لاستخراجه.
ولا زلنا نرى ميزة المنهج البنيوي عبر تفكيكه للنص، والبحث في جملة العلاقات بين علاماته، هي سبيلنا لسبر غور هذه القراءة الأولية. مع الالتزام خلال ذلك بافتراض تنحي كاتب النص بعيداً؛ حيث يكون القول بـ”موت المؤلف” هو مدخلنا لإجراء هذه الجراحة التفكيكية للنص، بعيداً عن قصديات الكاتب ونواياه وأغراضه من الكتابة.
وجب التنبيه إلى نقطة اجدها مهمة، خلال كتابة هذه القراءة. أنا لا أحاول التعرف على الكاتب/ة ولا أبحث عن نصوصه الأخرى، للحرص على سلامة القراءة من تأثيرات خارجة عن النص، وأترك ألفاظ النص وتراكيبه والسياق الذي تتراصف فيه مجتمعة تقودني لما أصبو اليه من رؤى جديدة.
ولعل قائلاً يتساءل عن اختيار نصوص قد تكون مجهولة ولا يُعرف أصحابها، إذا تم ذكرهم في حضور المهتمين !. والإجابة عن ذلك بالقول ولما لا؟؛ فالنص الادبي مهم بمقدار التفاعل معه، ومدى غناه اللفظي والمعنوي الذي يحفز لاستخراج مكنوناته الخفية. التي يمر بها القارئ، ولكل منهم تجربته الخاصة. حيث تكمن جمالية التلقي. وأيضا لما لا يضاء على هذه النصوص، وإبراز جوانبها المميزة والخفية. أما معرفة الكاتب أو شهرته فتخضع لظروف وعوامل أخرى؛ لها علاقة بالزمان والمكان الذي وجد فيهما الكاتب والنص أيضا. وهذا ليس مجال الاهتمام الأن. وللأسباب ذاتها نتعمد عدم ذكر صاحب النص. ليشاركنا القارئ رحلة الغوص دون استحضار أوهام الكهف التي نبه إليها الفيلسوف العظيم فرنسيس بيكون.
النص
أُتلذذ بإغراقهم في مذاق مودتي،
اُسرف في التجاوز عن زلاتهم وهفواتهم
بقلب عقيمة تبكي، كثكلى
تبحث عن طفل لم يولد،
كأطفالٍ يتامى تحت وصايتي،
أغمرهم بسخاء محبتي،
لستُ متكلفة..
أتوسم فيهم حفظ الجميل
وبعض من أُنسهم
والقليل من عرفانهم،
فقط….
أدور مع عجلة الزمن، بضع دورات،
بقُطر خصر راقصة الباليه،
لأنزلق في زلة صغيرة
تكشف لي نوايا لئيمة
أتأسف لحالها ولحالي
بخفي حُنين، وبكسل القطط،
أغرق تحت غطاء سريري،
أرثي ذكرياتنا، والقليل من وقتهم، والكثير من ضحكاتي الصادقة.
أتساءل لماذا؟
لماذا يا تُرى،
يزداد تعداد زنادقة إحساني بتعداد سنيني؟
أشعر بفيض وافر من الأمان
حينما أبالغ في حزني وتمنّعُي ودلالي
وأنا كلي يقين بأنه سيحتويني كأب!
أشعر بنهرٍ ينساب سكينةً،
وأنا أُفرِط في دلاله وغفران خطاياه
بدون كللٍ ولا ملل، كأم!
بدقة ومهنية نتبادل أدوارنا الخفية
بشكل تلقائي دون أن نتفق أو نخفق!
وكأننا وضعنا خططاً وتواقيت،
نسارع بل نبالغ أحيانًا
في إشباع رغباتنا كأطفالٍ يتامى،
وجدوا ما يروي ظمأ حرمانهم
قراءة النص
تموج العلاقات الإنسانية بخيوط عديدة متشابكة ومتقاطعة، في تعاملاتها اليومية. وكذلك في عمق استمراريتها، ويعّبر النص الذي بين أيدينا على أحد أوجه هذه التشابكات العلائقية، لينتقل بنا من الخاص المغرق في ذاتية السارد إلى العام، الغارق في تمثيلات المجتمع وحركته الدائمة من التجاذبات الخيرة آحيانا والشريرة آحيانا أخرى.
تقفز علينا ألفاظ ومعاني النص بقوة مياه هادرة لتجرفنا معها في معركة الحياة، لتشتعل معركة الذات مع المجتمع، وصراعها في إثبات نفسها، أمام الأخرين في حربها الوجودية. ويظهر لنا النص تلك الذات الأنثوية الغاضبة جدًا، سوداوية المزاج، تمر عاطفياً عبر ثلاث مراحل تقود دورات الزمن القصيرة، وعندها تنقلب الأحوال سريعاً:
الأولى: ادعت/ اتسمت بالعطاء اللامحدود على المستوى العاطفي لمن حولها.
الثانية: عندما تغيرت المواقف، وتبدلت الأدوار؛ ليحل الحقد أو اللؤم والغرق في الأحزان والذكريات.
الثالثة: الوصول إلى الغايات المنشودة، وتحقق الاحلام.
هذا النص يدور حول ثلاثة شخوص:
- الذات المعبرة عن كينونتها الأُنثوية.
- الأخر الرجل.
3- الأخرون الأعداء.
كبداية تخبرنا هذه الأنثى عن ذاتها القوية الفاعلة عبر كلمات في غاية القوة:
[أُتلذذ/ اُسرف/ أغمرهم/ أتوسم فيهم/ أدور/أنزلق/أتأسف/أغرق/أرثي/أتساءل/ أشعر/ أبالغ/ أُفرِط.]
فهي غاضبة منهم (الأخرون الأعداء) المحيطين بها، دون البوح بشخوصهم، وعلاقتهم بها ربما هم الإخوان /الأخوات/الأصدقاء/الحموات/ أم شركاء الفراش. الخ
هذه الكلمات تضعنا أمام تساؤل كبير فهل هي تعبير عن صدق مشاعرها وإنسانيتها؟، أم إننا أمام محاولة لجلب التعاطف والظهور بمظهر المظلوم؟.
على الرغم من المودة الغامرة وسخاء المحبة، لكنها مغلفة بحقد دفين؛ أو لعله أسلوب اتقاء الشر المتوقع من هؤلاء الأخرين، حيث يصبح الإغراق في المودة وسيلة عدوانية، وتلذذاً عاطفياً، وتصير المسامحة إسرافاً وتجاوزاً، فهم بالنسبة لها ناكرو الجميل والمعروف، يتربصون بها الزلات، لا يستحقون ما تبذله لهم من مشاعر. [أتوسم فيهم حفظ الجميل/ وبعض من أُنسهم/ والقليل من عرفانهم،] فهي تزرع معروفاً في أرض بوار، فالعقم محيط بقلبها، والبكاء لا ينقطع منها، بسببهم. [بقلب عقيمة تبكي، كثكلى تبحث عن طفل لم يولد،]
وتستمر محاولات رسم الصورة لتلك الأنثى القوية المظلومة من المجتمع والمحيطين بها، فتكالب عليها الجميع لمجرد زلة صغيرة وقعت فيها، فهذا المجتمع لم يغفر لها زلتها؛ نعم تعترف أنها زلتها، ولكنها أيضا زلة صغيرة أيها المجتمع الناكر لأفضالها. فكل نوايا المجتمع لئيمة حاقدة في حقها.
وهكذا جعلت من دائرتها المحيطة بها عنوانا ونموذجا لمجموعة من علاقات المجتمع الذي تعيشه، لتقول عن كل من يحيط بها، ناكراً لأفضالها، فتطرح تساؤلاً لتزيد من إقناعنا بإظهار مقدار الظلم الذي تعانيه. [أتساءل لماذا؟/ لماذا يا تُرى،] لتعمم هذا الحكم على المجتمع كله.
ثم يأتي لفظ “زنادقة” لتستدعي ذلك الإرث التراثي في شيطنة الخصوم والزج بهم في غياهب الكفر لاستدعاء لعنات الجميع ضدهم، [يزداد تعداد زنادقة إحساني بتعداد سنيني؟] في محاولة مستمرة لإقناعنا بصحة موقفها.
وبذلك تلوح لنا بوادر شخصية مركبة نفسانيا، إن لم تكن معقدة ومشوشة. فشلت في استيعاب محيطها من الأخرين الأعداء.
ثم ينقلنا النص للحديث (الأخر الرجل) في علاقة معه مبنية على الخداع أيضا فهي تبالغ في أحزانها لتنال الاحتواء، مقابل مسامحته على زلاته، [وأنا أُفرِط في دلاله وغفران خطاياه] ويصل الرياء ذروته حين تصف هذه العلاقة بأنها حالات من تبادل الأدوار بشكل روتيني مقيت كأي مهنة تشتغلها بدون أدنى شغف.
نلحظ هذه العلاقة المضطربة بينها وبين الأخرين، وأيضا مع الشريك، فعند الفشل في التعامل معهم في إيجاد علاقة سوية، يكون الخروج من واقعها والخيبات المتكررة عبر سرير النوم: [بخفي حُنين، وبكسل القطط،/ أغرق تحت غطاء سريري،] سبيل الهروب من الواقع الحياتي، في محاولة البحث عن السكينة المنشودة ومحاولات الاغراق في النسيان، تصنعها في داخل حصنها المتمثل في البيت، وفي آخص زاوية منه المخدع/السرير بكل براءة القطط، لاستدعاء الذكريات والضحكات.
اذن هي علاقة مبنية على الافراط والمبالغة في الاحزان واستدرار العواطف وتبادل الأدوار في كراهية غير معلنة، ليعبر النص عن حالة من الرتابة تغلف العلاقة، وهي علاقة محكومة بالفشل في واقعها الحياتي الفعلي [بشكل تلقائي دون أن نتفق أو نخفق!/ وكأننا وضعنا خططاً وتواقيت،] بل هي في علاقة روتين مقيت تتبادله مع هذا الأخر المجهول [بدقة ومهنية نتبادل أدوارنا الخفية] لتختلط مشاعرها الأنية وذكرياتها الحالمة، حين تصوره كأب رحيم لها وهي أم رؤوف له، [بدون كللٍ ولا ملل، كأم! / وأنا كلي يقين بأنه سيحتويني كأب!] في محاولة للبحث في المجهول عن ذلك الحنان الاسري المفقود.
وتزداد صورة تلك الشخصية المركبة والمعقدة لنجدها فجأة تعبر عن شعورها بالأمان الذي يأتي من الدلال والتمنع والمبالغة في استجلاب الحزن. في صورة قطة مسكينة ترقد تحت فراش دافئ لتشعر بالأمان.
ولكن براءة القطط لا تستمر طويلا، فالشعور بالأمان اتخذ سبيلا مختلفا، عبر ممارسة هذا الحب المزعوم لأدوار الحرمان. فالنص هنا: [نسارع بل نبالغ أحيانًا/ في إشباع رغباتنا كأطفالٍ يتامى/ وجدوا ما يروي ظمأ حرمانهم] يحدثنا عن حرمان جسدي طال كل الشخوص السابقة، الساعين لاغتراف شهواتهم، بكل لهفة اليتيم المحروم، في صورة واضحة المعالم تظهر حجم هذا الشغف الجسدي ومقداره، والسعي الحثيث لإشباع الرغبات المكبوتة وإرواء الظمأ. لتقول لنا صراحة: هذه هي طريق العوض عن كل الحرمان وكل تلك الصراعات وهذا هو الأمان المنشود.
ليعود بنا هذ النص الى البدايات والبحث من جديد في ثناياه عن رؤية وقراءة مغايرة، لنعيد السؤال لأنفسنا ونتسأل عن أي نوع من الحرمان كنا نتكلم؟.
13/7/2023