خاض المثقفون صراعا طويلا مع نظام القذافي الفاشي منذ بداية السبعينيات، ودفعوا الثمن عبر عمل ذلك النظام الدءوب على تصفير التاريخ وقطع حبل التراكم الثقافي والسياسي لتخلو له ساحة بناء فاشيته، فعمل على تغييب الأصوات الثقافية المستقلة عبر التصفية والسجن والنفي، لكن صوت المثقف لم يخفت، بل لم يخفت منذ مجيء الفاشية الإيطالية الأولى، وكان للنضال السياسي الذي قاده مثقفون ليبيون في المنفى وفي الداخل دور مهم في حصول ليبيا على استقلالها.
العام 1988، وبعد أن كشفت الغارة الأمريكية الوطني من المزايد، أُفرج عن المثقفين في ردة فعل غاضبة سُميت (أصبح الصبح)، واستأنف أغلب المثقفين والمبدعين الذين غُيبوا عن الفضاء الثقافي لسنوات طويلة في دهاليز السجن أسئلتهم ورؤاهم التي سجنوا بسببها، وأعاد هؤلاء المثقفون الزخم إلى الحياة الثقافية الليبية وإنعاش أسئلتها الجوهرية من جديد، ولم يستطع ما يسمى بمثقفي السلطة مجاراتهم في حيويتهم وفي وجاهة وعمق ما يطرحونه، وبدأ صراع آخر بين خطابات هؤلاء المثقفين المستقلين وبين خطابات مثقفي السلطة المعتنقين/ أو مدعي اعتناق أطروحات المرحلة والفكر الجماهيري، ومن مجلة إلى مجلة، وجريدة إلى جريدة، ومهرجان إلى مهرجان، ومن مقر إلى مقر، كانت ملاحقة هؤلاء المثقفين ومن انحاز لمواقفهم من الجيل اللاحق، وكلما أُوقفت مجلة أو جريدة ظهرت أخرى، وكلما قُفل مقر انفتح فضاء جديد ولو في بيت أحدهم، وكلما ألغي أو منع ترخيص جمعية أهلية ثقافية ظهرت أخرى، لكن ما ميز العقود الأخيرة أن الصراع انفتح على مصراعيه وأخذ شكله الطبيعي في أية دكتاتورية أنهكتها مطاردة الحبر المشاكس التي تشبه مطاردة السراب المراوغ، هدأ قليلا عنف السلطة وانفتحت بعض هوامش التعبير بحذر. وقد يرجع ذلك لعدة أسباب، منها: المتغيرات الدولية، خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما ترتب عليها من إعادة نظر في الأنظمة القمعية التي تربى في ظلها الإرهاب، وانزياح حدود العزلة أمام المنظمات الدولية المراقبة لحقوق الإنسان، ما جعل من واقعة سجن المثقف اهتماما دوليا. الخوف الذي نشره إسقاط أقوى دكتاتور في المنطقة، صدام حسين، ومحاولة الظهور أمام شروط العالم الجديد بهيأة الدولة المقبلة على اٌلإصلاح والراعية للحقوق، إضافة لإحساس النظام العتيق بأنه أرسى قواعده القوية وما عاد خائفا من الكلام أو المتكلمين، إضافة إلى العمل على إظهار ليبيا بمظهر الدولة الملتزمة بالمواثيق الدولية من أجل أن تعود إلى حظيرة العالم بعد سنين قاسية من الحصار، والأهم هو فرض المثقفين لأنفسهم بكونهم لم يتوقفوا عن النقد وعن الكتابة بمثابرة رغم كل ما تعرضوا له من ألم وتضييق.
لقد دفع جيل المثقفين الأول بعد الانقلاب؛ الذي وجد نفسه مع الطلاب في الخط الأمامي حين الصدام مع الفاشية، دفع الثمن ومشى على الشوك ، لنجد نحن الجيل التالي طريقنا الأقل صعوبة في حقول الشوك بعد أن داسته الأقدام التي أمامنا، وليكون التحاقنا بهذا الجيل الخارج من السجن فرصة لكي تستأنف أسئلة المثقف الليبي حيويتها وتراكمها، بعد الفجوة التي حصلت في تراكم الفعل الثقافي والإبداعي في عقد الثمانينات الذي غُيّب فيه، تقريباً، جيل كامل من المثقفين الوطنيين.
ومع بداية طقوس التوريث الجمهوري بدأ قاموس هؤلاء المثقفين يدخل إلى الأداء الرسمي بعد أن كان ممنوعا وكان السبب في سجنهم أو نفيهم، مصطلحات مثل: الدستور، حقوق الإنسان، المجتمع المدني، حرية التعبير، المواطنة، وغيرها مما كان محرما ثم تبناه خطاب رسمي متفرع عن السلطة تحت لافتة الإصلاح، قد تكون له أسبابه المتعلقة برؤية جديدة للدولة الصالحة لتوزيع ميراث الأب، أو بسبب ثورة المعلومات التي اكتسحت جيوب العالم المعزولة كاستحقاق عولمي جعل من هذه السلطات تعمل على تغيير آليات تعاملها مع الرأي المختلف ومع حرية التعبير التي خرجت عن نطاق تحكمها، ومهما كانت الأسباب فثمة صراع ظهر في طبقات السلطة العليا نفسها بين جيل يطرح نفسه كمجدد وبين الحرس القديم المتشبث بسلطته ومكاسبه، وسواء كان هذا الصراع جديا أو مفبركا، فإن المثقفين الذين أشعلوا أسئلتهم في مواجهة الفاشية منذ بدايتها استمروا في خطابهم وفي مطالبهم بالحرية والدولة المدنية والحقوق، عبر الأدب والفكر والمقالة والندوات والمسرح والموسيقى والتشكيل أو غيرها من الأدوات المعرفية والجمالية، ولم يكن يعنيهم كثيرا أن تقترب السلطة من قاموسهم أو رؤاهم أو أسئلتهم أو تبتعد، لأن مشروعهم مؤصل له عبر أجيال متتالية من المثقفين والمبدعين المشغولين بالشأن العام وباستحقاقات الدولة المدنية الحديثة.
ورغم التفاؤل الذي قابل به المثقفون ربيع المنطقة، العام 2011، والسقوط المتتابع لبعض نظمها، إلا أنهم وجدوا أنفسهم مقصيين عن الفعل في المرحلة الجديدة، خصوصا عندما أصبح السلاح لسانها الوحيد، وبدأ التضييق عليهم من جديد من قبل ورثة النظام الساقط الذين يسعون إلى ترميم الفاشية أو بنائها من جديد، والورثة يملكون السلاح والمال، وهي الأدوات التي أرسى بها القذافي حكمه وبنى فاشيته، بل أن المثقفين يشعرون الآن أنهم رجعوا إلى مربع بداية السبعينيات الأول في مواجهتهم لسلطات بدأت تستعيد قاموس التخوين والتهم الجاهزة لتصفية هذه الأصوات النقدية المزعجة، وأساليب التهديد والقبض والسجن خارج إطار القانون، وقفل الفضاءات الثقافية بميليشيات مسلحة مثلما كان يفعل جهاز اللجان الثورية، وحيث تأجيج الوجدان الديني والاجتماعي ضد المثقفين عبر اللعبة القديمة التي تحاول أن تضع المثقف في مواجهة مباشرة مع السلطات الدينية والاجتماعية من أجل أن تقصيه السلطة السياسية بسهولة، ويقوم بهذه المهمة جيش إلكتروني عمله الصيد في الماء العكر و(تعميم سطرين في كتاب أدبي) على مشروع ثقافي وإبداعي عمره أكثر من قرن أسهم عبر التاريخ في مشاريع التحرر والاستقلال، وفي بلورة مضمون معنوي للكيان الليبي وتحديد معالم هويته عبر الفكر والفن وكل الأنشطة الجمالية.
الهجمة على المثقفين والنخب الوطنية شكّل عبر التاريخ الخطوة الأولى لبناء النظم الشمولية، وما قامت به نازية هتلر وفاشية موسيليني، أو الستالينية والماوية، وما قامت به الصهيونية من تصفية لرموز الفكر والإبداع المقاوم، دليل على ذلك.
نعم المثقفون في المربع الأول من جديد، لكنهم يدركون جيدا أن العالم تغير، وأن عقارب الساعة لا تعود إلى الخلف، وأن ثورة المعلومات والميادين التي أسقطت الطغاة مازالت قائمة.
______________
نشر بموقع بوابة الوسط