-3-
توجهنا من بنغازي إلى طرابلس بالطائرة كانت الرحلة أقلعت السابعة صباحاً، كنت متوترة وخائفة، أركب الطائرة لأول مرة، وصلناها قبل الظهيرة كنت أنا وزوجي وابنتي ترافقنا امرأة تدعى الشيخة فاطمة وزوجها الشيخ محمد وربيبها صلاح وأطفالها حذيفة ومصعب وحمزة وابنتها منى وكان معنا بنفس المجموعة إدريس الغزالي وعبدالله ومصطفى.
ذهبنا إلى منزل في طرابلس لا أعرف أين يقع أو من يكون صاحبه إلا إن الشيخ محمد مرافقنا كان على علاقة بصاحبه وهو من ضمن الجماعة، وأذكر إن صاحبة البيت كانت مسافرة فقمت أنا بأعداد وجبة الغذاء وبعد قليل من الاستراحة أحضروا لنا سيارة أجرة.
صعدنا سيارة الأجرة وعبرنا الحدود الليبية التونسية ليلاً وفي الصباح توقفنا أذكر في صفاقس بالقرب من مسجد صلينا الصبح وتناولنا القهوة واستقلينا السيارة.
وصلنا تونس العاصمة في مساء ذلك اليوم وتوجهنا إلى عائلة يعرفها الشيخ محمد أو إنه يعرف ابنها الذي كان رفيقه عندما كانوا في أفغانستان وأجرنا منهم شقة بالدور العلوي ونظراً لأن الشقة لا تتسع لكل المجموعة والشقة كانت قيد الإنجاز فقد أشارت علينا صاحبة البيت بالسكن معها في غرفة كبيرة سكنتها مع رفيقتنا الشيخة والأولاد وسكن زوجي والشيخ محمد وباقي المجموعة بالشقة المؤجرة.
وأذكر هنا إن الأسرة التي أقمنا معها طيلة الفترة في تونس كانت كريمة والسيدة صاحبة البيت ودودة إلى درجة كبيرة ولقينا منها اهتمام كبير فكثيراً ما وفرت لنا بعض الاحتياجات وكان زوجي قد أعطاها مع الإيجار مبلغ من المال.
قضينا أسبوع في تونس العاصمة وفي نهاية الأسبوع توجهنا إلى المطار لنستقل طائرة لا أعرف إلى أين تتجه بنا ولكن الطائرة هبطت في مطار الجزائر العاصمة ونزلنا في صالة الركاب الترانزيت، وبعد حوالي ثلاثة ساعات صعدنا إلى طائرة أخرى، أقل مستوى من سابقتها، كانت الكراسي متحركة وغير ثابتة وبعضها نزع من مكانه، سألت الشيخة فاطمة ترى إلى أين نحن ذاهبون؟؟ أجابتني.. إذا هبطنا في المطار القادم على مهبط معد لا أعرف. أما إذا كان المهبط تراب فسأقول لكي أين نحن… استمعت بهدؤ ولم أعلق..
بعد حوالي أربع ساعات من الطيران حطت بناء الطائرة في مهبط من تراب يبدو ذلك واضحاً من خلال أثار الأتربة التي خلفها احتكاك العجلات بالأرضية.. نظرت إلي الشيخة.. فقالت نحن في مالي…
عرفت فيما بعد إننا هبطنا في مالي وعرفت إن الشيخة على دراية بتحركات المجموعة نزلنا من الطائرة وتوجهنا إلى فندق جيد بتنا فيه باقي ليلتنا وفي الصباح لم نبقى طويلاً في الفندق حيث سرعان ما صعدنا إلى قارب عبر بنا نهر يقود القارب رجلان أسودان بواسطة خشبتين كانا يغرسانها في قاع النهر.
أصابني الفزع والخوف فالنهر كان ملي بالتماسيح التي كانت تسبح بمحاذاة القارب وتتبعنا من الخلف كنت فعلاً خائفة وارتعش وأضع ابنتي في حضني كان إدريس يراقبني بصمت ويسرق النظر نحوي أحسست إن نظراته واهتمامه يمنحني نوع من الآمان.
عبرنا النهر وفي الضفة الأخرى سكنا فندق أخر أقل مستوى من السابق وأقمنا فيه لمدة ثلاثة أيام كان الرجال خلال تلك الأيام يغادرون الفندق في الصباح ويعودون في المساء لا أعرف أين يذهبون؟ ولا ماذا كانوا يعدون ؟.
وفي اليوم الرابع نهضنا في الصباح واستقلينا سيارة هي عبارة عن حافلة صغير كان لونها أزرق وكان يرافقنا في الحافلة بالإضافة للسائق شخصان آخران أسمران، وانطلقت بناء ببطء
شديد على طريق ترابي تقريباً بسرعة ثلاثين كيلو متر في الساعة وبعد مسافة قصير توقفت الحافلة وأصيبت بعطل.
حاول السائق أصلاح العطل ولكن محاولاته ذهبت أدراج الرياح عندها قررت المجموعة دفع الحافلة عبر الطريق.. جلست أنا وابنتي والمرأة وأطفالها في الحافلة ونزل الرجال يدفعون الحافلة وأستمر ذلك لمدة خمسة أيام كاملة لم أغادر خلالها السيارة…
خمسة أيام أجلس على كرسي الحافلة لم أغادره أبداً وكنت أضع أبنتي في حضني ويجلس بقربي أحد أبناء الشيخة والذي كان كثير التبول اللا إيرادي ففي كثير من الأحيان أحس بسائل ساخن وصبرت عليه ولم أحاول أن أنبه والدته لذلك.
كانت تنفث من السيارة رائحة كريهة تجمعت من النفط والأحذية والبول والعرق وحرارة الجو وضيق المكان وكنت كثيراً ما أحاول الاقتراب من النافذة كي أحصل على قدر من الهواء الساخن الذي لفحته حرارة الشمس.
مررنا في الطريق بعديد المستنقعات والبرك ورأيت الناس يشربون منها وهي آسنة وغير صالحة للشرب، وأصيب مصعب بالملاريا عندما شرب من أحدى هذه المستنقعات ولم يشفى منها إلا عندما وصلنا إلى الجزائر.
على الطريق كنا قد مررنا على تجمعات سكانية بدائية وفقيرة عراة إلا من منديل يلف حول الخصر وما أثارني ما رأيته عندما مررنا بإحدى القرى منظر طفلة صغير في الخامسة من عمرها وهي تحتضن طفلاً صغير عاري تماما من الملابس لم يمر على ولادته إلا ساعات قليلة بدليل حبل الصرة الذي لازال عالق على بطن المولود لقد كان منظر يثير الشفقة.
وفي اليوم الخامس وبينما كان الرجال يدفعون السيارة في طريق وعر وضيق تدحرجت إلى جانب الوادي وخرجنا منها بأعجوبة، حملنا أمتعتنا وسرنا بعض الوقت على أقدمنا، حتى وصلنا إلى مبنى مهجور وسط قرية صغيرة شوارعها من تراب وبيوتها مبنية من الطين وبعضها مبني بالقش.
دخلنا البيت لا توجد له أبواب ونوافذ سكنا البيت ثلاثة أيام لم أرى فيها النوم كنت أحضن ابنتي طول الوقت واحمل شمعة تضئ لي ظلمة البيت المهجور كانت الحشرات والسحالي تجري على الجدران أحسست بالخوف وسط الظلمة والبرد الشديد وضعت ابنتي في حقيبة معدة للنوم وسط الثلوج كان زوجي قد أحضرها قبل ولادتها.
مكثنا في البيت المهجور ثلاثة أيام لم نخرج منه فالحرارة في الخارج مرتفعة في النهار ولا نعرف إلى أين نذهب، أصبنا كلنا بإسهال شديد نتيجة تعرضنا لضربة الشمس وعدم توفر وجبات صحية بالإضافة إلى شربنا للمياه الملوثة، لقد تناولنا طيلة الأيام السابقة خبز لونه أصفر تنفث منه روائح بكتيريا العجين وعندما حصلنا على بطيخة تناولنها بشراهة ولكن كانت فرحتي كبيرة عندما وجدنا بعض المانجو غير أني عجزت عن أكلها أمام الرجال من تحت الخمار الذي كان كثيراً ما يضايقني ولعدم توفر سكين أو ملعقة أحسست بأني امرأة صابرة فعلاً.
عثر الرجال الذين خرجوا منذ الصباح في هذا اليوم الحار والشمس تلفح أجسادهم، عثروا على سيارة شاحنة كبيرة وصحراوية وهي متوجهة إلى تامرست في جنوب الجزائر، صعدنا جميعنا إلى الصندوق الخلفي بعد أن وضعوا ستارة بين الرجال والنساء، رافقتنا في رحلة الشاحنة امرأة سمراء ورجلين يحملن سيوف، كانت المرأة السمراء تجلس فوق الصناديق بنصف عارية ولم تأبه لنظرات الرجال إنها ستذهب قطعاً إلى الجحيم هذا ما كانت تردده الشيخة على مسامعي، فقلت في نفسي يومها.. أن تكون نصف عاري في هذا القيض أفضل من أن ترتدي هذا الخمار الأسود الذي يرفع درجة حرارة الجسم.
جلس الرجال في الجانب الآخر يضعون وجوههم إلى الخلف كي لا يروا المرأة النصف عارية التي تجلس في الأعلى لكي تحصل على قدر من الهواء، هي قالت لهم ذلك عندما قالوا لها لا تجلسي هكذا سوف تسقطين من فوق الصناديق.
إن صعودنا إلى الشاحنة كان في غاية الصعوبة فالشاحنة كانت عالية ولم أستطيع أنا ولا المرأة والأطفال الصعود فوضع بعض الحجارة فوق بعضها وأضافوا إليها برميل صعدنا فوقه إلى الشاحنة.
قبل أن تنطلق الشاحنة ذبح الرجال خروف أشتروه من أحد الرعاة ولأول مرة منذ مغادرتنا تونس أكلنا اللحم المشوي وحصلنا على وجبة من المكرونة واللحم.. ولكن مع الارتفاع الشديد في درجة الحرارة لم نستطيع الأكل، وعلقوا باقي اللحم في الشاحنة.
كانت الشاحنة الصحراوية محملة بصناديق وحديد والمكان الذي حجز لنا مكان ضيق جلسنا فيه محشورين أنا وابنتي والشيخة وأولادها وجلس الرجال في الجزء المخصص لهم خلف الستارة.
سارت الشاحنة في طريق صحراوي في جو مرتفع الحرارة أثناء النهار وفي الليل تنخفض درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر.
كانت الشاحنة قليلاً ما تتوقف فقد كانت تسير دائماً إلا عندما تتوقف بعض الوقت لنتناول بعض الطعام حيث يقوم الرجال بطهي الأرز أو المكرونة مستخدمين اللحم الذي أصبح مقدد، واستمر مسيرنا وسط الصحراء عشرة أيام كاملة وعندما استنفذت كمية اللحم أصبحنا نأكل الخبز اليابس ونشرب المياه الساخنة والرديئة الطعم.
قلت لحمزة آه لو نجد تفاحة أو موزه رد ذك الطفل الصغير الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره (يتهايلك توصل غاليك) كان كلما يراني أبكي يقول.. حرام تبكي يا خالتي عيونك سماح.
اقرأ: رواية ديجالون – الحلقة 2
تعليق واحد
[…] اقرأ: رواية ديجالون – الحلقة 3 […]