صارت الحرب على الهواء مباشرة , صار بوسع المرء وهو يجلس أمام الشاشة الصغيرة (في حالة توفر الكهرباء بطبيعة الحال) أن يحصي دون حاجة لصوت المذيع ما استقبلته المستشفيات من جثامين ومصابين , يكاد المرء وهو يقضم أظافره أمام الشاشة أن يشم رائحة الدماء والتراب تنثره العقب العسكرية على أرض المعركة , وأن يلاحق شريط الرصاص يتدافع من بندقية يصوبها شخص ببنطلون مموه وتي شيرت وقبعة يرتديها عادة موسيقيون شباب ,صرخات غامضة وأخرى واضحة تحمل مناداة أسماء وتعليقات غاضبة وساخرة وما تيسر من تكبيرات من الجانبين.
صار بمقدور الأطفال معرفة نوع السلاح بمجرد السمع و أيضاً تحديد الموقع الذي سقطت به القذيفة أو انطلقت منه رصاصة البندقية, اكتظ القاموس الشفهي المتداول في ساحات الحروب في ليبيا وسوريا والعراق واليمن بمفردات جديدة , مفردات مسكونة بالخوف والموت , ولم يعد منظر الجثث الملقاة على الأرصفة أو في الشوارع وأروقة المستشفيات يثير أحداً سوى القطط والكلاب , يتابع ذلك المرء ما لايحصى من نياشين وأوسمة وصقور ونسور تتكدس على صدور وأكتاف عسكريين ينتصبون أمام المايكروفونات يعلنون بلغة واثقة عن التقدم أمتارا هنا وشارعين هناك وإحصائيات عن قتلى في عمر الزهور ومصابين على قائمة العجز.
صارت الحرب خبز الناس اليومي , صارت الحرب فاكهتهم المسمومة , يتنقل ذلك المرء بالريموت من الصابري في بنغازي إلى محيط مسجد النوري في الموصل إلى ضواحي الرقة في سوريا وجبال صرواح في اليمن ورفح والعريش في سيناء, وما تيسر من اشتباكات في طرابلس وسبها والحدود اللبنانية مع سوريا وبعض محافظات مصر , مسلسل يومي يتابعه المواطن صار معه القتل ليس جريمة بقدر ماهو مجرد إحصائية ، كنت كتبت قبل نحو عقد (في صحيفة الجماهيرية) منبها إلى خطورة ما تزدحم به محلات بيع لعب الأطفال من ألعاب عسكرية خالصة , وإلى خطورة ما يمثله من وصفتهم بالجنرالات الصغار في عيد المولد , ومن انتشار ألعاب القتل اﻹلكترونية , ودعونا علماء الاجتماع وفي مقدمتهم الأستاذ الجليل مصطفى التير إلى قراءة المشهد الذي يشي بمرجل عنف يتخلق في صفوفنا ونحن نيام , إلى أن صار أولئك الجنرالات الصغار الآن أمراء حرب يقودون جماعات شبابية لم يستكمل معظمهم دراسته، يمتلكون الأسلحة والأموال, والأخطر من ذلك اﻻعتقاد بأن هذا الواقع (….)صار حقاً يلزمهم بالتمسك به والدفاع عنه ضد الجميع , تسللوا إلى الأسواق وباعوا واشتروا , عرفوا كيف يتم تبييض الأموال ونقلها وتحويلها.
يروي أحد الأصدقاء من العجيلات أن عجوزا كان يقتعد ركابة أحد المساجد في مطلع شهر أكتوبر من العام 2011 رأى مجموعة من الشباب يحملون الأسلحة ويتدافعون للركوب في سيارات عسكرية فسألهم إلى أين يذهبون؟ فقال أحدهم وهو يهز بندقيته في الهواء: ماشيين بنشدوا القذافي .. فتمتم العجوز في سخرية: وكان شديتوا القذافي منو مازال بيشدكم ؟؟!