سرد

ذاكرة مجنون

جزء من الجزء الأول من رواية ذاكرة مجنون

من أعمال التشكيلية شفاء سالم

أيعقل ألا تصدقني؟   هب أنني اكذب عليك فهل أنت معصوم من الكذب؟  و لماذا أنت تكذب و تصدق الكثيرين و ترفض تصديقي؟  فقط لأنك تعتبرني متخلف عقليا أو لا عقل لي .. ثم ما مصلحتي في الكذب على شخص مثلك بعقله و قوة إحساسه و عمق تفكيره، إني اقدر مدى دهشتك في طريقة حياتي ، أخبرك حين كنت صغيرا كنت اجمع صبيان البلدة حولي و ابدأ في ربط أيديهم مع الأرجل ثم احفر في الأرض حفرة كبيرة و اضعهم فيها ثم بعد ذلك اغطيهم بالتراب و أتي بخرطوم المياه و اسقيهم لينبتوا أشجارا تثمر بشرا جديدا غير أولئك الذين يرونني بأعين جنونية،  أراك تفكر مثلهم لا تريد تغيير نظرتك نحوي أو أنك تود مغادرة أوراقي و تمزيقها … مزقها إن شئت أو ابصق في وجهي فهذا لن يجدي نفعا أو يغير من جنوني شيئا هذا إن اعتبرت نفسي مجنونا.

أقول لك.. إن المجانين يعلمون أكثر مما تعلمون ويرون ما لا ترون …. بلى.. لا تستغرب وتنظر إلى كالأبله الذي لا يفهم ما يقال له.. نحن أكثر تدقيقا وتركيزا في الحياة وتوافه الأمور ليس اعتباطا منا أو لخلونا من الأدمغة بل لأن في هذه الحياة أشياء لا تحتاج منا لوقفة نتأملها وننقب في أسرارها وندرك معاني وجودها كأن تقف احتراما لسرب الطيور الواقف على أسلاك الكهرباء أو الواقفة على غصن شجرة كبيرة مغردة وأنت تبتسم مفكرا كيف لهذه الطيور أن تحلق في أعالي السماء وفي مناخ تتلاعب فيه الرياح.. ألا تخشى الوقوع؟  أو أن يقلبها الريح ويحول دون الوصول لوجهتها؟  ماذا لو كانت لنا أجنحة لكننا في صورة بشر؟  مؤكد أننا لن نترك مكانا إلا وزرناه وعثنا فيه فسادا … أو قطعنا شجرة وتأملنا جذورها المتشابكة وحبات الثرى تزينها … تصور تلك الجذور الضاربة في العمق سبب اخضرار الشجرة وجلالة حضورها.

ابعد هذا ترمي عقلي جانبا وتحطم قيمته النادرة الوجود مثلما فعلوا؟

      تخيل إنهم يحقرون عقلي الخلاق … يقطعون صلتي بالحياة ويمزقون قلبي وفكري بجعلي مجنونا.. هل رأيتموني امشي على يدي بدلا من قدمي؟! أم رأيتموني اثقب رؤوسكم وامتص أدمغتكم؟  أم اعيد عجن طينكم وتشكيلكم كما يحلو لي؟  …. الحقيقة لم افعل ذلك البتة، إنكم تعيبون على جنوني لأنني افضح أخطائكم وانشر في الأرجاء ذميم أخلاقكم وتزوير حقائق نفوسكم.. أنتم بشر عديمو الاحساس لا تعون بعد نظري وسماحة نفسي …تلفقون لي الأباطيل لتواروا عيوبكم …”مجنون يهذي” هذا ما تجود به ألسنتكم علي… الويل لكم أيها الحمقى إن اظهرت جنوني فلا تحاولوا إغاظتي فلكل شيء مقدار وإن سمحت لكم بتغييبي عقليا في بداية حياتي فهذا لا يعني أن تتمادوا وتهزأوا بي في كل وقت شئتم وتسبون أفعالي الجميلة ذات الخصال الحميدة……. ما علاقتكم لو حادثت ظلي وافضيت إليه بأوجاعي وهو يهز رأسه موافقا على أن أوجاعي ستزول يوما ما أو أن اتبول في أفواه الضفادع وتعترضون غاضبين بسنما هي في قمة سعادتها تقفز متعلقة بجسدي؟

لقد تألمت كثيرا عندما كنت ذلك اليوم في الزقاق اراقب واتحدث مع جماعة النمل السائرة نحو قريتها في طابور بديع واساعد بعضا منها في حمل حبات الشعير والأرز إذ فاجئني كبير البلدة وهو ينظر إلى مندهشا يقول:

   –  يا مجنون ماذا تفعل؟

كان يوما عصيبا صرت فيه مشهورا بجنوني بعدما اقر شيخ البلدة بذلك …خرجت من تاريخ العقلية وجردت من إنسانيتي، أصبحت في نظرهم أنا والبهائم واحد لا اختلاف إلا في شكلية الجسد.. اسير على اثنتين وهي على أربع، امسيت مخلوعا منهم مفضوحا في الملأ بعريي من أخلاقي لأني امشي مع انثى القرود الموجودة لدى منزل جارنا     لأني اخالف طباعهم وشرائعهم.

   ماذا سيحدث لو اعلنت ثورة المجانين؟!…

من المتوقع أنه سيحل الخراب.! وتعم الفوضى في كل شبر ورغم هذا لن يعبأ أحد بمطالب المجانين الثائرين وستقمع الحكومة احتجاجهم لأنها لا ترى لهؤلاء قيمة في المجتمع خصوصا إن كانت مثل هذه الثورات في تلك المجتمعات المتدنية ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا.، سياستها الضرب بالحديد والنار.

إن المجانين بشر مثلكم يشعرون مثلما تشعرون ويعيشون كما تعيشون ولهم حقوق واجب أن تأدوها نحوهم وليسوا مطالبين بشيء من الواجبات … هم ليسوا دمى وجدت لتسليتكم وتسرية همومكم أو هم عاجزين عن عمل شيء بل إنهم قادرين على منحكم القوة واكسابكم معنى الحياة ويلونون أيامكم الكئيبة بابتساماتهم اللطيفة ونفوسهم الرائقة.، ثم إن جنونهم ليس بجنون بل هو نشاط مفرط في التفكير والحركة وكذا الخيال وطرق التعبير عن الذات.

أنا لا اشعر بالنقص لأن عقلي موجود بالفعل! …في كل ما يحيط بي…. أراه في منبع النهر يترقرق منسابا في مجراه يسقي الطير والنبات والدواب والبشر.، وأراه في خلايا النحل عسلا مصفى تتلذذ الألسن بحلاوته.، وأراه في ضروع الأبقار والنوق يشربه الجميع ومعطيهم الصحة في الأبدان.، وفي الأمطار المنهمرة تسقي الزروع وتزيل الغبار عن وجه الأرض جاعلة في النفس سرورا وانطلاقا.، وفي تلك الأصوات العذبة الشادية والطاربة للأسماع المجلية للأحزان … ومع ذلك ينتقصون مم قيمتي كإنسان ويقولون عن عقلي لا وجود له.

  ما اودعته ذاكرتي هذه الصفحات هو في الحقيقة واقع عشته وذقت مراره وليس كما تظن أنني كاذب أو أنه مجرد خرافة من خرافات الجدات التي اعتدت عليها كل مساء أو هي مغامرة من مغامرات أفلام الكرتون …هو واقع مجسد بحذافيره لا يشوبه خيال كاتب متمرس أو رسم فنان محترف. … كل ما أعرفه أن الواقع لا يمكن نسيانه أو تزويقه بالكذب وما رأيته من أهوال ومآسي في بلدت تحت سماء مظلمة جعل الذاكرة يقظة تئن راجية إفراغ حمولتها من الذكريات الأليمة في سرعة قصوى فهي لم تعد تطيقها ولا يمكنها نسيان أو تجاهل أحداث جرعتني الموت قطرة قطرة.

لا تقل عني ابالغ في حديثي وتزيد على الجنون صفة المبالغ وتشيع في الناس ظهور ” الرجل المجنون المبالغ!” …أتدرك معنى أن تكون الصديق المقرب للمجنون؟  – أنا اعتبرك كذلك في حال اعتبرتني أو لا هذا لا يهمني المهم إنك الأدنى لقلبي- سأبثك كل أسراري غير التي عرفت ولك مرتبة الشرف في صداقتي لك، كنت أريد أن استسمحك عذرا في تأجيل بعض أسراري فهذا ليس بوقتها والآن دعني أخبرك شيئا آخر لكن بشرط أن تبقى مصدقا لكلامي ولا تجعل الشك يساورك لحظة واحدة … إن كنت موافقا أرني ابتسامتك حالا.

حسنا …رائع جدا.!.

   كانت الأجواء هادئة كعادة فصل الربيع والأرض تلبس حلتها البهية.، دعتني نفسي ذلك الصباح المشرق للتنزه والسير في البلدة متحدثا ومغازلا الطبيعة الخلابة حتى وصلت إلى سلسلة الجبال في أطراف البلدة، كانت الجبال ترقص رافعة أيديها والصخور فاتحة أفواهها ضاحكة مهللة لمرآي.؛ لأنها معتادة على رؤيتي لا اتخلف عن زيارتها إلا نادرا.. لقد طربت غاية الطرب عندما سمعت ضحكاتها وترحيبها الحار بي.، طفقت اصافح كل صخرة وهي مسرورة بذلك وتعبر الأعشاب والزهور الموضوعة على جبينها بتعطير أنفاسي بروائحها المنعشة، وصلت في مصافحتي للقمة التي بان على ثغرها قبلة جنونية قابلتها بدوري ذات القبلة ثم بسطت لي حضنها وقالت:

   –  نم أيها الصغير فالشمس تفيدك وحضني يخفي السعادة.

بلا تفكير وجدت نفسي اتمدد على الصخور المعشبة متنعما بأشعة الشمس ومبتسما للسحاب الأبيض … كنت أرى أشكالا جميلة للسحب واحدة على هيئة بطة صغيرة تبحث عن عائلتها وأخرى كالسمكة سابحة في الزرقة وأخرى شبيهة بوجه أختي في براءتها، كان بعضها بهيئات غير مفهومة المعالم وبعضها يدنو مني ملامسا جسدي وأنا احاول امساكها وما إن اقترب من نيلها تتملص هاربة تشاغبني وهي تقهقه من فشلي ولا يأس يحطم رغبتي في الحصول عليها، بعد محاولات عديدة لم اتمكن منها ولم أحزن لذلك بل كنت سعيدا باللعب معها.

بينما كنت على حالي ذاك إذ قالت لي القمة باسمة:

   –  لا زلت طفلا بمرحك ومزاحك … هنيئا لك يررحك الطيبة الشفافة.

بادلتها الابتسام ثم تنهدت في حزن:

   –  لكنهم يقولون عني المجنون بهذه التصرفات، هل أنا كذلك يا صديقتي؟

في حنو:

   –  هون عليك يا صغيري؛ فهم عديمو الاحساس لا علاقة لهم بالحياة المثالية «إنهم أنانيين لا يحبون إلا أنفسهم ولا يرون أفضل منهم خلقا وسلوكا.. إنك لست سيئا لدرجة الجنون فلا تكترث لأمرهم ودعهم يتلفظوا بما شاءوا.

شعرت براحة عظيمة فيما قالته فقلت ممازحا لها:

   –  وأنت أيتها السيدة الجميلة كيف ترينني؟

ضحكت في غبطة ناثرة روائح الاكليل:

   –  لقد أخبرتك إني أراك نقي السريرة طاهر القلب بشوش الوجه وممتلئ بالعطف والحنان وتحب الجميع بلا فرق ولا تمييز يا لك من شخص ممتع!

زادت راحتي اتساعا وأخذت اتدحرج على الصخر فرحا وهي تمازحني:

   –  حاذر السقوط يا مجنون.

حتى سقطت على الأرض … بعد لحظات من سقوطي قالت القمة:

   –  سلامتك يا عزيزي …صمتت قليلا ثم عادت تقول …ما دمنا صديقين حميمين اود اطلاعك على سر من أسراري.

وقفت أمامها انظر إليها في استغراب:

   –  ما هو سرك؟

   –  انتظر وسترى.

مرت برهة من الزمن منتظرا وأنا أفكر في ماهية سرها بينما كانت السلاسل الصخرية ترتجف وتتزلزل دون توقف.، لقد كنت حائرا كثيرا هل ستخرج لي أفاع أم أنها ستنهار؟ لماذا هي تضطرب هكذا؟ ! وما هي إلا دقائق حتى استحالت تلك الصخور الصماء والمروج الخضراء إلى صفائح صفراء لامعة … لم اصدق ما تراه عيني وأنا أجثو على ركبتي متفحصا التراب تارة وتارة الصخور الصفراء …قالت القمة تخرجني من صدمتي:

   –  أنت غير مصدق أليس كذلك؟ !. تظنه سرابا! ..معك حق في اندهاشك أنا أيضا لو كنت مكانك سأصاب بالصرع …أمر عجيب أن ترى الحجارة ذهبا في لمح البصر إنها معجزة خارقة يصعب تصديقها لكنني اثق في عقلك الراجح بأنه سيصدق سري الدفين الذي حجبته عن أعين الجشعين و الطامعين المنتزعة من قلوبهم الرحمة و الاحسان.

رواية (ذاكرة مجنون) للكاتبة فهيمة الشريف
رواية (ذاكرة مجنون) للكاتبة فهيمة الشريف

كنت اردد كلكة ” ذهب ” كالببغاء دون أن افهم معناها أو قيمتها و اقتربت من السبائك المبهرة لنظري أريد انتزاعها من الأرض و حملها لكنها كانت ثقيلة جدا ،اراهن أن ألف رجل لن يستطيعوا حملها….كانت السبيكة تبكي بسبب تجرئي عليها،  مسحت على رأسها ملاطفا و متأسفا على ما سببته من أذى.. حقيقة لم اكن مصدقا لذلك لامست التراب ثم الألواح الصفر مقارنا بينهما و القمة تضحك من فعلي. :

   –  اقسم لك إنه ذهب خالص.

لم ادرك ما فعلته حينها فقط كنت اركض فوق السبائك و انزلق لأسفل متمسحا بها ثم نهضت و ركضت صوب البلدة و أقول بصوت عال: :

   –  ذهبا …وجدت ذهبا.

و القمة تصرخ منفعلة. :

   –  لا تفعل بي هذا يا مجنون.

تجمع أهل البلدة حولي و أنا احكي لهم ما رأيت. ، كانوا فرقا منقسمة بين مصدقي مكذبي و مشكك في سلامة عقلي و بعضهم جرني خلفه كالدابة ناحية الجبال لأريه ما ادعيه و عندما وصلنا إلى هناك كانت دهشتهم عظيمة و انهالوا علي ضربا و ركلا و رفسا حتى كدت أموت بينهم و نعتوني كعادتهم بالمجنون و عادوا يلومون أنفسهم لتصديقهم متوهم مثلي و تركوني عند السفح ألعق جراحي و اعوي كذئب مكلوم.

في أثناء ذلك انبرت القمة غاضبة. :

   –  ألم انصحك ألا تفعل و قد صددت عني؟  ماذا استفدت الآن؟  رموك بالجنون و التوهم و ضربوك … هل هذا يسعدك؟ !.

رددت باكيا. :

   –  لا ..لا.

   –  اذهب إلى بيتك فلست اهلا للثقة بعد اليوم.

رجوتها أن تغفر لي زلتي لكنها تشامخت بأنفها نحو السماء و رفضت الاستماع إلي و حاولت أن اصعد إليها لكن أرجلها دفعتني بعيدا عنها … علمت وقتها أنني أذنبت في حقها و لا مناص من عقابها،  اعز صداقة على قلبي افقدها بخطأ غبي كهذا …عدت إلى منزلي اقرض أظافري ندما و انظر في وجوه المارة الشامتين بعينين دامعتين.

طفح الكيل و بلغ السيل زباه …..لم يعد أهل البلدة يطيقون جنوني أو حتى رؤيتي. ؛فقرروا التخلص مني بعد مشاورات و مباحثات مع عائلتي الرافضة … طوعا لأمر كبير البلدة حزمت أمتعتي و حملوني ذات ليلة نائما و ألقوا بي خارج الحدود في أرض المنفى.

ألا تهنئني؟ !… لقد صرت منفيا .. لست في سرنديب و لل هو نفي من عدو غازي و لست بمناضل حرب ضروس! ….. هو فقط أمر تافه للغاية …لأجل الجنون! .

اتقصد لأنك مجنون؟ !

بالضبط يا رفيقي لأنني. ….. اتعرف لقد مللت قولها و ترديدها و أنت أيضا …

لم لم يضعوك في المارستان؟ !.

يخافون أن ينفجر فأنا مجنون غير عادي! …… فضلوا أن يرموني بعيدا عن البشر و العمران في مكان يتحمل طاقاتي الزائدة …في البعيد حيث لا أحد اتحدث معه و يحدثني. ، يريدونني أن أنسى لغة الكلمات أن افقد صوتي و أصبح ابكما…يرغبون في طمس آدميتي من نفيهم لي.

تهمتي الجنون! … في شريعة قومي هناك غرائب و عجائب يحكمون عليها أحكاما اغرب و اعجب … مثلا كتهمة السرقة فحكمها أن يعلق المتهم من رجليه في غصن شجرة وسط البلدة لمدة ثلاثة أيام و على كل فرد يمر به أن يضربه بعصا موضوعة عند الجذع ثم بعد المدة المحددة يرمى في البحيرة و يترك عرضة لأسنان البعير الواردة للماء. ، أما ذنب القتل فيقتص منه برميه تحت حوافر الحمير و البغال انتقاما لروح القتيل. ، و بالنسبة لجريمة الجنون فهذا بند مبتكر حديثا لم يكن من قبل ثمة مجانين عداي في البلدة فلم يجدوا لها حكما انسب من النفي .. إنهم سريعون في إيجاد الحلول ..اللعنة عليهم! ..كبلوني بقيود الجنون و صيروه تهمة لا تغتفر! .

هل تصدق هذه التهمة؟ !. متى كان الجنون تهمة؟  و علام استنادهم لجعلها جريرة يحاسب ذويها بالنفي؟ !.

حكم جائر حرمني من بلدتي و أهلي و أصدقائي و منعني من التنعم بهوائها و ماشيتها و أشجارها و مياهها و من كل شيء اشتملت عليه،  حكم يصدر من أحلام صغيرة لا نظرة لها في الحياة،  تراني قاصر العقل و تسير حياتي بمزاجية غبية …أقول لك إنني احمد الله على تخلصي من أؤلئك المجانين … نعم مجانين!  لأنهم فرطوا في رجلموهوب مثلي يصف لهم ما حجب عنهم من الأسرار.

تحررت أخيرا من قلاع و حصون غبائهم و نفضت عني غبار الجهل الذي أوقعوني فيه متطلعا لعالم ارحب يقدر قيمة عقلي.

لا اخفيك سرا في بداية منفاي كنت أريد العودة للبلدة. لإثبات أنني لست مجنونا و كل ما رأيته ليس بأوهام و تخاريف و لكنني حينما وصلت صدمت بالأسوار الزجاجية المعتمة التي لا تنكسر و يصعب على أشعة الشمس اختراقها …لم تكن المرة الأولى للمحاولة و في كل مرة أعود لفضاء المنفى اجر أذيال الخيبة مجترا أحلامي و ذكرياتي … بعد الفشل الذريع قررت عدم العودة و زيارة العالم كالرحالة “ابن بطوطة” مستكشفا المزيد من العجائب و الألغاز المدفونة منذ قرون مضت.

جبت الكثير من الأقطار و شاهدت ما هو اعجب من العجب. ، أخاف إن قلتها تقول لي تكذب و تصرخ السطور أغرب عن وجهي بهرائك أيها اللعين! … كلما نزلت مصر من الأمصار و ابقى فيه فترة وجيزة اطرد منه بتهمة الجنون ذاتها …كأنهم اتفقوا جميعا على طردي و تغييبي في سجون الضياع …و أخذت تصريحا بالنفي طوال عمري اعيش تائها في الأرض محرمة علي أرض أجدادي كتحريم الأرض المقدسة على أصحاب موسى  .

البعض يرى أن الجنون أمرا معيبا و عاهة يتصف صاحبها بشراسة الطباع أو غير مسالم أذا ما أراد شيئا و لم يجده أو أخذ منه عنوة أو فرض عليه نظام معين و اجبر على فعل شيء لا سرغبه و يرون أنه يصعب التعامل معه على كل الأصعدة الحياتية ..لا يستطيع تكوين حياة مستقلة لنفسه و العيش.في كنف أسرة جديدة يكون هو عائلها و موفر الاستقرار لها. ، لا يرون فيه الشخص السوي المعتمد على نفسه رغم أن الواقع يعترف بوجود مجانين تخلوا عن بيوت أهلهم و هاموا على وجوههم في أرض الله الواسعة.حيثما يظلهم الليل ينامون و يأكلون ما تقع عليه أيديهم .. أليس هذا اعتمادا على النفس؟ !…لهم غرائز و شهوات مثل الأسوياء أو أشد و يفرغونها كلما تسنى لهم ذلك فلم تنفون عنهم البشرية و الشعور و ترونهم غير قادرين على تأدية وظائفهم الفطرية؟ !..الله اعلم بقدراتهم و ألا ما كان ليخلق لهم خصي و برابخ و أوجد فيأرواحهم الرغبة و اللذة! …

و البعض يرى إن المجنون كائن غريب لبس جلد آدمي و انتحل شخصيته. ، يتصرف بشكل يدعو للسخرية و اللعب بأعصابه المنهارة متسليا بتعذيبه كأن تلاعب قطة و تشاكسها ثم تتركها بعد شعورك بالملل أو إفراغ شحنتك السلبية فيها. ، و قد يرونه من جانب الشفقة و الرحمة فيشفقون عليه و يرحمونه بهداياهم البسيطة و هو يقبلها بفرح و يعتبرها عربون محبة و عقد هدنة للسلام معه بدل ذلك العذاب الذي كان يتلقاه منهم… الحقيقة الغائبة عن أذهان الجميع هي إن المجانين هم أناس عاديين لهم مثل ما لكم من احقية العيش يتمتعون بإبتسامة مشرقة دائمة الصفاء و قلوب نقية ناصعة البياض لا تحمل ضغينة أو أحقاد اتجاه الآخرين و لا يسيء الذن بأحد. « و لا ينكر أفضال أصحاب الفضل عليه ..إنه ليس بوحش يصعب ترويضه.

هل مازلت تشكك في تعقلي النزيه؟ ! . أنا لا أقول كلاما تعده ترهات أو أقول على الناس بالكذب حتى لا تصدقني، لا تحاول إقناعي بأنك تصدق و أنت تعترف لنفسك بقول “تكذب” …. أرى ذلك جليا في عينيك القارئتين و اشتم رائحة سخرية تنبعث من شفتيك … أنت الآن تتفحصني من خلال سطوري و ظلال عباراتي. ، عاملني بلطف و أياك أن تخدش شعوري بسخريتك فسياطها يجلد إنسانيتي و يدمر نفسيتي و أنت كما تعلم التعنيف النفسي أقوى تأثيرا من الجسدي ثم إنني ما عدت اطيق السخرية بعد طردي من البلدة ، و أرجو ألا تحكم علي بالجنون ثانية و تدخلني في زمرة الموتى.

أراك تتخيل شكلي و أنا اتحدث إليك ..لا امانع في ذلك فقل كيف ابدو ..نعم مجنون لماذا أنت خائف؟  .. لا بأس و هيا صفني كما تراني و لا تخجل ..

 …”..متوسط الطول نحيف الجسم شعر كثيف يغطي الوجه عينان تطفوان على صفحة الأديم تبدوان صغيرتان كعيني عصفور لكنهما تركزان في كل شيء و تمتلئان بالكثير من الأخبار و الغموض يغطي ذلك الجلد المصفر جلبابا طويلا مرقع من كل الجهات و الوسخ يتكدس عليه حتى لا يكاد يبين لونه الأصلي شعر الرأس المجعد لا يوجد به بياض في اليد عصا طويلة غليظة تكاد تصدع الأرض بضربها أثناء السير أرجل خشنة مدماة من أثر المشي حافية العمر أغلب الظن في نهاية العقد الثالث أو في منتصف العقد الرابع ..”

و ماذا أيضا؟ !. لم الصمت يطويك ؟ . . تتمتع بخيال واسع جعلك ترسم صورة مطابقة لمجنون و اسمح لي يا سيدي أن أزيد شيئا طفيفا على لوحتك ..أسنان تكسوها طبقات من الصفرة تظهر أثناء ضحكه و علامات البلاهة تعبر عن جنونه و أثر أزرق صغير لكدمة زين جبهته نتيجة ضربة قوية تعرض لها في أثناء الحرب التي دارت بين البلدة المجاورة و بلدته أذ تم وضعه كدرع واق لحماية سيد البلدة و تلقي الضربات عوضا عنه. ، لم يؤت به ألى أرض المعركة لشجاعته أو لطلبه الملح بل لإستغلاله و ازهاق روحه و لكنه نجا بإعجوبة بعدما نال نصيبا وفيرا من اللكم و الضرب .. حتى في الحرب لا يرحمون المجانين و لا يعتقونهم! … يال نذالة نفوسكم الناقمة! ..

إن ما تخيلته يؤسفني أن أقول عنه خيال كاذب لا أساس له من الصحة لأنني ببساطة شخص عاقل لا انتمي للمجانين و لا اتصف بصفاتهم …أنا المثقف الذائع الصيت بغزارة ثقافتي كيف لك أن توقفني موقف المجانين؟ ! ..شكلي مختلف تمام الاختلاف عما وصفت ..يمكنك ووصفي بالقيادي فأنا اقود العالم بأفكاري النيرة أو بالطبيب الحكيم الذي يداوي جراح المعذبين و مخفف أوجاع المتألمين أو بالمفكر المبتكر لأسس و قواعد و نظريات تعتمد عليها العامة و الخاصة في معيشتهم و ينظرون إليه كمرجع يستشيرونه في كل الأمور المتعلقة بهم. ، أو بالحالم الذي يرسم للعالم مستقبلا مجيدا و رؤى تضمن استقراره و نجاحه ينبذ سياسة العنف و التقتيل و التشريد و التجويع. ، أو بالفيلسوف الناطق بالحكمة و الواعي بما تفكر فيه العقول و القارئ لما في العيون من النظرة الأولى ، أو بالحاكم العادل الناشر للأمن في أنحاء بلاده الحريص على محبة شعبه له بتقديم و توفير ما يحتاجونه من سبل الراحة.

      كان هذا هو الوصف الذي يفترض أن يرسمه خيالك لا أن تضعني في أقصى درجة من انحطاط البشر. “مجنون”  و بشكل مضحك !… إنك تجعلني اسخر من نفسي قبل أن يسخر الجميع مني…. يبدو أنه علي أن اسلم بأنني مجنون حقا و انزع كل أوهام التعقل التي ازعمها … أليس الاعتراف سيد الحلول؟ !. …إذن .. و ليكن الجنون حلا أخيرا ارفعه مستسلما لكم و لتهمتكم المجنونة مثلي و لتكونوا أنتم و مستعمري الشعوب البسيطة مدمري الإنسانية ، كان يجب علي ألا اضخم الموضوع منذ البداية و اقتنع بوصفكم مهما كان مؤلما و قاسيا على قلبي.

   حقبة من الزمن افنيتها في الترحال شرقا و غربا و لم اترك بقعة إلا و زرتها ممتعا ناظري بروعة جمالها و سحرها .. اوغلت في قلب الصحراء اقلب رمالها بين يدي مؤملا النفس أن تتحول لماياه عذبة أو تبرا صافيا،  متحدثا لذراتها. و مصغيا لعواصفها الرملية الهوجاء مكتشفا في زوابعها تفاصيل الخرافات و الأساطير المرعبة التي تحكيها الجدات عن الصحراء و أهوالها. ، اتتبع أثار عقاربها الغائصة في الرمل و اخرج آلالاف العقارب و اتناولها غير مبال بسميتها أو اختلاف ألوانها و أحجامها ..لذيذة و مقرمشة أحبها طازجة! .. اتأمل سرابها المترامي على مد البصر فهناك أرى واحة يتسامق نخيلها إلى السماء مثبتا حضوره وسط البيداء و القفر،  ثمة سلاسل من الكثبان الرملية تتعالى هنالك .. خرير لنبع ماء يجري في واحة أخرى. .. أصوات لحيوانات غريبة بالجوار و جبال صخرية بلون الحمرة تتغنج خجلا في جهة لا أعرف ما اسمها فالجهات هنا لا تحدد! .. أطياف و أشباح تغزو الليل و النهار تنظر إلي مليا و كأنها تحاول اخافتي أو تفكر في سبب قدومي لأرضها ..هياكل متقطعة لا تعرف اهي لحيوانات مفترسة أو بشر كانوا يسكنون المكان؟  ..روث تيبس منذ أيام قلائل و آثار لجلود منسلخة لثعابين صغيرة و كبيرة ..هناك أيضاك رمال مخططة و مساوية السطح في هذه البقعة من الواضح أنها طرق للأفاعي المارة بأجسادها المرنة ..هاهي تخرج من تحت الرمل و تزحف في انسيابية تامة التقطها و اكلها ..إنها رائعة في طعمها كالسمك تماما!   انصحك أن تتذوقها يوما و لن تخسر شيئا بل ستكسبك صلابة و قوة في الجسد أفضل من أن تأخذ أقراصا منشطة أو تهرب بوهنك إلى ادمان الهروين و الكوكايين! ..ليس في الصحراء ما يدعوك للتوجس خوفا و يرهب فؤادك فالكل هنا صديق مقرب لك و حتى الشمس التي يزعمون أنها ملهبة للأجسام بأشعتها لم تكن كذلك و لو كانت في أوقات معينة حارقة كنت اتفيأ بظلال الصبار و ادخل جحور الفئران و الضب فلا اشعر بالحرارة و الجفاف. ، اما نسائم الليل فكانت باردة تنعش كياني و تجعلني اتلحف بوبر سيدة الصحراء و أنا نائم في حضنها بعد حفلة رقص طويلة تسامرنا فيها تحت ضوء البدر

كما تعمقت في بطون البحار و المحيطات و رأيت العجائب الفائقة التصور …تحدثت مع فقاقيع الماء الخارجة من خياشيم الأسماك الصغيرة و الحيتان الضخمة لقد أخبرتني بمخأبئ أصحابها و حملتني إحدى الفقاعات التي فتحت جيبها متبرعة إلى حيث تنام الكائنات البحرية آمنة. ، صخور كثيرة تنزلق الفقاقيع فوق طحلبها الأخضر. .الماء دافئ هنا كما كان جيب الفقاعة و التي انفقعت فور وصولنا للقاع المظلم …كان للصخور عيون كثيرة و مختلفة الأحجام و الأشكال بدت و كأنها جواسيس بثتها لمراقبة المكان و منع الغرباء من الدخول. ، من تلك العيون كانت تخرج ملايين الفقاعات و للوهلة الأولى ظننت أن الصخور الخضراء و السوداء تتنفس!  دخلت مع المنفذ إلى قلب الصخرة ..شيء مذهل لقد كانت هناك أعداد لا تحصى من الأسماك الصغيرة الملونة جميعها تسبح في الماء الداخل لجوف الصخر ..أجل المكان متسع و يحتجز كميات كبيرة من الماء ..خرجت من منفذ آخر لأجد نفسي في الأسفل تحت الصخر مع مواجهة لأسماك أخرى أكبر بقليل من التي رأيتها سابقا و ثمة أيضا أعشاب بحرية بشكل كثيف.. في جهة ابعد من هنا كانت الشعب المرجانية تناديني لتتجاذب معي أطراف الحديث و قناديل البحر تخاصمني في سبب نزولي للقاع الذي هو محميتها الخاصة و لن تصدق أنني رأيت شيخ البحر و قص لي أساطيره الخرافية و غازلت الحوريات اللواتي اصطحبنني إلى جزيرتهن الخفية الواقعة بين الجبال المثلثة و اطعمنني عسلا لم اذق له مثيل في حياتي و سقينني ماء أعذب من العذوبة بأضعاف مضاعفة ..كن مبهرات في رقصهن و كلامهن و في وجههن كان الضياء و البشر بالمختصر كن يشرحن الصدر للحياة!  . كما نمت في القواقع و الأصداف و جاورت المحار ..قابلت الأخطبوط العجوز الذي قال لي. :

   –   تشبث جيدا سأخذك في رحلة.

شعرت و كأنني على متن غواصة و هو يسبح في سرعة هائلة مخترقا الصخور و الشعب و الأسماك إلى أن وصلنا إلى مستعمرات الأخابيط ..كانت بأعداد شعر الرأس صغارا و كبارا تعرفت على غاليبيتهم و كل واحد مد أذرعه مصافحا ..ثم سبح بي بين حطام السفن و الطائرات الساقطة في عمق المحيط و رأيت فيها لألئ و كهرمان و ألوان مذهبة و ذيول لحيتان كبيرة لقت حتفها و هي تحاول ادخال رؤوسها في فجوات مدببة ففصلت أجسامها و بقت ذيولها معلقة كدلائل يتعظ بها البقية في عدم التحدي و اقتحام الغموض …و شاهدت الحوت الأزرق و هو يفترس سمكة الشبوط و ثعابين البحر عندما لمحني وقع الخوف في قلبي و أردت النفاذ بجلدي لكنه لم يفعل ما كنت اتوقعه من هجوم علي بل انتابته نوبة ضحك حتى انقلب على ظهره و سمعت اصطفاق الماء بالقاع تحته و هو يقول لي. :

   –  مجنون كما عهدتك! .

كنت مستغربا من أين علم بكنيتي و هو في قعر المحيط ؟!…قال لي:

   –  لا تتعب عقلك في كثرة التفكير ملامحك دلت عليك! .

ابتسمت له و لم اقل شيئا بينما ظل يتحدث و يسرد لي مواقفه الجنونية حتى فرغ ثم قرر أن ادخل جوفه و أرى ما فيه ..كان بلعومه كبيرا و أمعائه بحجم فخذ رجل بالغ و أسنانه حادة جدا خرجت من بينها و وقفت على زعنفته اليمنى ثم قفزت لليسرى و هو يشق بي ظلمات المحيط و ينفث الماء من نافورته كشاحنة تسير في الطريق مخرجة دخانها تطلب افساح المجال لها …و زرت جزيرة تحت الماء يعيش فيها بشر أمثالنا يمشون على أربعكالحيوانات لكن وجوههم كوجوهنا و يتكلمون مثلنا و لهم أمزجة صعبة لم استطع التكيف معها. ، كنت اعتقد بأنني أخيرا وجدت المكان المناسب للعيش و لكن سرعان ما تبين لي العكس و طردت پشراسة! … كما فعل ذويي..يشعرونني بالغربة في كل أرض احل عليها ضيفا و لا أجد إلا التعنيف و الإهانة ثم الطرد كأنني إنسان تمثل في صورة إبليس لا أحد يود إنزاله في بيته أو بلده مخافة أن يكون من الملعونين المطرودين من رحمة الله! .. صرت المشرد المنهوك القوى و المحطم في نفسيته و المقتول الذي لا يعرف قاتله؛ ليتشفى منه. ،صرت جسدا يسير على غير هدى بلا روح. ، غير مقبول على الإطلاق كأني لست من فصيلة البشر !..المشكلة أن كل الفصائل المختلفة عني تقبلني كواحد منها و أجد إشاراتي تصلها في يسر عدا بنو جلدتي الجفاة القساة يعاملونني كحشرة ضارة واجب قتلها أو طردها قبل أن تنقل العدوى و يتفشى الوباء! .

     هل ترغب في طردي أنت أيضا؟ !.

أراك عازم العقد على قفل دفتي الكتاب و الإطباق على أنفاسي ..انتظر قليلا من فضلك أريد أن اسألك سؤالا و اجبني بلا خجل فأنا اعتبرك مرآتي التي أرى فيها نفسي .. هل أنت خائف أن تصييك عدوى الجنون؟ !….أراك تحدجني بعينك كأنما سؤالي لم يعجبك أو لم يخطر ببالك ..أقولها لك مطمئنا … إن الجنون ليس مرضا معديا ينتقل باللعاب أو السعل أو بإستخدام أدوات المجنون أو بالمصافحة و تبادل الحديث أو بالمورث الجيني. ، إنك مخطئ في خوفك ثم إن الجنون سمة قلما يمتاز بها الناس. ،يكفي أن له عالمه الخاص و أصدقاء ليسوا من طينته يفهمونه و يألفون تصرفه و يقدرون قيمته. ، يسبح بأفكاره حيث يشاء دون رقيب أو حسيب متبسط في معاملاته يطلق أحاديثه للجميع غير متزلف أو متكلف و لا مهتما بمخالفة الكل له و لا يتطلع لمن هم أعلى منه رتبة و لا يستحوذ على ممتلكات الآخرين .. لا يفكر في غناه أو فقره أو في مظهره و ما يمتلك و لا في كل المتاع الدنيوي الزائل الذي يتكالب عليه الجميع و تزهق الأرواح. «

 اضحيت مجرما و ما هي جريرتي؟ !…شيء تافه اسمه الجنون ..يا للعار! ..كل الجرائم مسكوت عنها إلا هذه فهي بالنسبة إليهم أم الكبائر! ..أمر يجعلني في حال مزر بين الضاحك الذي تشققت شفتاه الجافتين فمنع من اتمام ضحكه و الباكي الذي صعق بفاجعة جعلته يفقد صوابه …. أيها الأغبياء لم تعزولون المجانين في أبنية محصنة تسمونها بأسمائهم “مشفى الأمراض العقلية” “مشفى المجانين” و هي في الواقع ليست لشفائهم بل تستخدمونها كمستودعات تحتجزونهم داخلها تحت بند منع الشغب و استثباب الأمن؟ !. لماذا تحرمونهم حقوق العيش بحرية على الأرض؟ . اهذه هي الحرية التي تنادون بها توصيكم بقمع حرية من لا عقول لهم؟ !. ليس لكم الأحقية في تهذيب أفعالهم حين تلتقون بهم و هم يسيرون فرادى و م

نفوسهم مشتاقة للحديث مع أحدهم فلا يجدون و يبدأوا في الحديث مع الفراغ بصوت عال أو أن يضموا أعمدة النور المنصوبة على جانبي الطريق لفرط سعادتهم و هم يبكون أو يحطموا العربات الجوالة دون قصد تعبيرا عن ابتهاجهم بالأعياد. ، لماذا تتصدوم لهم في مأكلهم و مشربهم و سلوكياتهم معتبرين كل حياتهم خاطئة؟  …دعوهم يأكلون ما يشتهون و يشربوا ما يحبون و لا تكونوا وسطاء بينهم و بين ما يريدون فإنهم أشخاص مسيرون و ليس مخيرون في سلك سبيل الجنون ..من تكونون حتى تقيموا اعوجاجهم و هم لم يطالبوكم بذلك؟ !. اتركوهم و شأنهم و لا تجبروهم على نمط حياتي لا يطيقونه.

كانت رحلتي أو منفاي شيئا أشد مرارة من العلقم. ، لم اشعر بالسعادة و الراحة إلا نادرا حين امارس تعقلي الذي يراه الآخرين جنونا. ، لا تتخيل مدى سعادتي. عندما احاور شجرة اجلس في ظلها و هي تهز كتفيها محتجة إذا ما سألتها ” اترغبين في أخذ راحة و الجلوس على هذا المقعد؟  ”  ، إن لكتفيها العريضين جمال ساحر! الخضرة تزين بدنها المكتنز ..يالها من رائعة تشعرني بطفولتي و أنا في حضنها. ، أو حين اركب فوق ظهر سلحفاة و هي تحبو على الشاطئ مستمتعة بالنسيم العابر و الرمل الناعم و صوت الأمواج الهادرة و هي تنكسر عند قدميها. ، أأو عند امساكي يعسوبا بعد مطاردات عنيفة أداعبه فيبتسم ثم اضعه أرضا و امتطيه طائرا بي إلى أمكنة لم تطئها أقدام أحد قبلي. ، و تزداد سعادتي عندما تنظر إلي الشمس و هي تلوح في الأفق المشرق قائلة ” أنت الممحبوب الذي لأجله اشرق .. لبيك و سعديك ” ، و عندما أكون ظمآن و تقابلني النوق فاركع عند ضروعها مرتويا من لبنها المالح ….. أما باقي أوقاتي فكانت شقوة و أوجاع بسبب المعتوهين الذين يقلبون نظرهم في ساخرين و متسائلين كأنني لست منهم أو محلوق فضائي هبط للمكان الخطأ.

قطعت عدة أميال مبتعدا عن بلدتي باحثا في البعيد عن أهل اوي إليهم يشعرونني بالوجود. و لكن هيهات لا أجد سوى الغربة و الألم و الحرمان …مبتعدا عنها و هي تسكن في قلبي و احمل لها الأشواق بينما أهلها يتنكرون لي و يقطعون صلاتهم بمجنون مثلي. .. كل مغترب عن أرضه لابد له من الشعور بالحنين مهما طال الزمان أم قصر،  هو الانتماء للأصول من يشعل فيك رغبة العودة فذكرياتك هناك و أحلامك و راحتك و شقاؤك و سعادتك و دمك و أنفاسك كل شيء فيك مرتبط بجذورك لا يمكنك التنصل منها أو تجاهلها …كان وسواس العودة يقلق مضجعي و يحفر عميقا في عاطفتي أوتاد الشوق لبلدتي رغم أنني كنت رافضا للعودة في بداية الأمر لكن بعد مرور كل هذه السنوات الشداد تتصارع عاطفتي الطواقة لضم ماضيها الجميل و الأنس بالأهل و الخلان مع عقلي الرافض و المركز في نتيجة متوقعة من عقول يعشش فيها التخلف و الجهل. ، سأطرد إن عدت فلم أعود؟ !.

بعد تناقضات كثيرة قررت الانصياع لعاطفتي و العودة إلى البلدة و لو اعادوا الكرة مئات المرات فسأعود بلا كلل أو ملل. ..بقي عقلي الفاجر يحدثني رغم قراري الذي اخذته في أنهم سيرفضون قبولي بينهم و سيسحبونني كالبهيمة خلفهم في الطريق العام أو سيقتلونني شر قتلة و يتخلصوا مني و للأبد …تحديت عقلي و أخبرته بأن حياتي باتت سيان داخل و خارج بلدتي ، ذات النظرة يرمقني بها الجميع. ” أنت مجنون لا مكان لك بيننا “.  صرت شيئا مذموما بشعا لا يحتملون رؤيته.

قل لي يا سيدي ماذا يفعل أمثالي حيال تصرفات أمثالهم؟ ..اقترح حلا واحدا تراه مناسبا …ربما هو الانتحار الحل الوحيد ..نعم انتحر عند مشارف البلدة قبل أن تمتد أيديهم و يفعلونها بأنفسهم و افوت عليهم فرصة نيل شرف قتل شخص عظيم مثلي ….. أو أن اجمع كل المجانين المطرودين من رحمة العقلاء و نرحل عن كوكب الأرض و نعيش في كوكب خاص بنا نسميه “كوكب المجانين المتعقلين”!.

مقالات ذات علاقة

مقتطف من رواية؛ جريمتك يا قرنفل

سالم العوكلي

رواية الحـرز (47)

أبو إسحاق الغدامسي

المرأة والطفل

فائزة محمد بالحمد

اترك تعليق