بقلم الدكتور عمر حمودة
لن امدح نفسي من خلال إطراء الاخرين لكنني لا استطيع إلا ان اتكلم ولو بعيداً عن ذلك فأنا اكره الصمت واحقد عليه ، بل لا احترمه لأنني هكذا وكما يصفني البعض (المندفع) ليعبّروا بمحبة عن تهوري واستخفافي بالخطوب والأخطار ، ومع اني لا احب التصنيف إلا ان وصفي بأي صفة ولو ذماً تملأ قلبي سعادة لان في ذلك دلالة اني اكره الصمت لأكون بذلك محترماً امام نفسي على الاقل.
انا إن جاز لي ان اقول، اعشق الفضائح واحترم رموزها لأنهم ثوريون مائة بالمائة حسب رأيي طبعا ورأي الذين يختلفون معي حول قضايا بعيدة عن الثورة. وعموماً بعد كامل الود اكتب لك طلبي هذا آملاً منحه العناية بالقراءة والاختلاف.
منذ ان خرج مُتَرجِّلاً من كلمات واسطر مساربه وانا انتظر أن يُكمِل الشيخ أمين مازن ما بدأه،و على الرغم من ان الانتار يُفسِد الاخلاق حسب رأي مؤلِّف مينلوجيا الاخلاق فريدريك ليتشه، إلا انه كان دافعاً لقراءة مسارب من جديد في إنتظار المولود الجديد الذي اختار له من الاسماء (المَولِدْ) جعله الله فاتحة موالد جديدة تستفزنا اكثر للكتابة والاختلاف حسب رأي جاك دريداً ورفاقه اصحاب معمل التفكيك الذي اذُنَ لنا الشيخ امين باستخدام آلاته بمولده هذا.
للمولد شرعيتان للتداول. أولى وهي كونه بقلم برز كُتّاب ومثقفي ليبيا الحبيبة، الذين ينفردون بتجربة طويلة مع الوسط الثقافي ليس الليبي فقط بل العربي ايضا، ناهيك عن مجايلتهِ لأكثر الفراد والتيارات الفكرية والسياسية مما يرفع من قيمة ما يكتُب خاصة إذا اخذنا في عين الاعتبار ذاكرته التي تصفها أعماله الابداعية افضل وصف.
أما الشرعية الثانية فهي إن هذا العمل صادر عن المجلس الاعلى للثقافة ما يعني مباشرة فاتحة عهد جديد أكثر موضوعية تجاه اختلاف التجارب الانسانية وهو ما يُفرِح القلب ويبعث على التفاؤل اكثر في انتظار مبادرات أقوى تؤكد أهلية ليبيا لاحتضان مشروع حضاري كالفكر الجماهيري الذي لا بُدَّ وان يتسامى اكثر بتبنّي هكذا سياسات.
إذاً فالقراءة لهذا العمل المهم لابُدّ ان تكون في مستوى الشرعية وهو لعمري ما لا اعتقد انني قادر عليه لأسباب تتعلّق بقدراتي المحدودة على المجايلة لفارق التكوين واختلاف معطياته، لكنني بدأت علّي اجو بجلدي من الصمت الذي اكرهه كما اسلفت خاصة وان الحدث جلل.
بدأت قراءة العمل من صفحة غلافه متأمّلا اللوحة التي وُضِعت عليه محاولا استدلالها في مُخيلتي لتصاحبني طيلة قراءتي التي لن تكون سريعة، وجدت نفسي في شارع عمر المختار اتجول مُستلهما ما حدث من المعمار الذي يصطف على جانبي الشارع بإنظام مُوَحّد في الشكل واللون وربما في تفاصيل اخرى ليست اقل اهمية، تذكّرت تلك الطوابير التي زحفت على تهذه المدينة قبل قرن من الزمان تقريبا وتسألت هل يُعْقل ان تستمر اثار هؤلاء ولو كانت جميلة جداً؟ لم استطع ان أُخفي مشاعري السرشة تجاه هؤلاء ، بل رغبتي في تدمير كما نيرون وروما ولكن مع اختلاف الغايات ، والمُوحّد هو روما بين الدافعتين، روما التي لا زالت حاضرة في حاضرتنا وفي آدابها وفنونها وربما مخيلة من عرفها قديما ولم يتغير عليها شيء كي يتغير.
وصلت الى ارض معرض طرابلس وانا لم اغادر الصفحات الاولى من المولد لأجد نفسي مُضطر لاقتناء بعض النفحات الاشتراكية من الوصف والتحليل والمقارنة وتدقيق الاحتمالات والحسابات كي يستمر عارضي اليوم في ممارسة نفس الدور ولكن باستراتيجيات مختلفة، ربما أغنى أكثر خطراً لأنني اكره البيع والشراء لأنها نقيض الاخلاق على مستوى المطلق في اعتقادي مع اعتذاري الشديد لمن يمارس هذه المهنة المُهمة التي انتصرت على تجربتنا الاشتراكية الموؤدة.
لكن المولد النبوي قادم وسنحتفل به هذه المرة احتفالا يليق بالمناسبة ويُعبِّر عن مولد جديد يهتم بقضايا الامة، مولد لا يقل اهمية عن ما تبادر الى ذِهن الراوي اول مرة الذي استعد للعودة الى هناك بروح الصوفي الصغير الذي ما لبُث ان غادر الى تفاصيل الاشياء باعتقاده في الاشتراكية شاباً يافعاً لم يفته ان الامور باتت تأخذ منحى يُوجِب الترقّب والحذر.
ربما كان حديث المولد صريحاً يتحدد في تجاوز كل ما يُعيق العمل الثوري بأي شكل بل وربما البحث عن هؤلاء الذين يختلفون في رؤاهم الفكرية والايديولوجية عن زعماء التغيير والمُؤيدين لهم _ توقف الراوي عند الحزبين اكثر من غيرهم وربما تحسّس جيوبه بحثا عن بطاقة او تعريف او اي شيء آخر تركه في مكان ما، رغم وصفه لتهمة الحزبية الغير المخيفة استناداً الى المعطيات القانونية الدالة على الاتهام والتى يبدو عدم توفر أي منها في التجربة تلك _ ربما هناك مُخيف آخر استعصت ولادته على الاسطر حتى الآن والبركة في الصفحات التالية.
لم يطل الوقت حتى بدأ الاصطفاء والاعتبار امن جادت به الذاكرة او نَسِيَهُ السابقون، وآثَارَ ذلك بطبيعة الحال حفيظة الذين لم يشملهم الاعتبار لسببين أولهما التهميش الذي حَضُوا به بعدم القبض عليهم خاصة وانهم يعتقدون لا يقِلّونَ اهمية عمن وقع عليهم الاختيار، وثانيهما إن الوقت إما أن يكون مبكراً على مثل هذا الاجراء او تأخر قليلا لنفس الاعتبار الذي ظل مجهولاً على مستوى الاحداث بالتغيير.
عدد من الاصدقاء الرفاق الجيران وربما موصوفون اخرون شملهم الاجراء والراوي لا يتصور ان يكون غير لاحقاً بهم ونتسأل معه لماذا لم يكن معهم او قبلهم بل كان بعدهم؟ هل السبب يا ترى يكمن في بركة ذلك الشيخ المتسامي في حاضرة الواحات الليبية ام لاعتبارات لها علاقة بقياسات أمنية واجتماعية في فلسفة القائمين على العمل. احتمالات لا بفصل احدها عن الاخر الا ذلك الرجل الطويل القامة من وسط الزحام نحو المعني مُعلِناً عن نهاية انتظار والدخول في حالو الممنوع من الصرف.
رصْفُ الطريق لذلك المكان يُحَسِس القارئ بأن الراوي يملك دراية ملموسة بتقسيمات المدينة تتجاوز الاحساس بالانتماء نحو علاقة المخارج بالمداخل أمنياً وإمكانية إحكام القبضة على مساربها الثلاث المؤدية للمولد بكل دقة.
عفوا إني الان اسجل احتجاجي الكبير على الورق الذي يستقبل كل الاقلام دون تمييز.
الوصول الى ذات المكان صاحبته إجراءات عديدة تمَكّنَ الراوي من ضبط تسلسلها بدقة واصفا كل تفاصيلها ابتداء بالشكل العام وانتهاء بأدق التفاصيل الخاصة بعبارات ما بعد الحلاقة ومكونات وجبات الطعام وبعمق الزنزانة التي تعددت ابوابها واقفالها لتحوي عدد بمواصفات قد تكون مُحددة ايضا لكنها دقيقة.
عفواً الجماعة في تفحّص بعضها البعض بعد ان صادر المبروك بعض الاشياء كالسجائر وادوات الحلاقة بدستوره الذي يقضي بذلك إمعاناً في الاضطهاد ، وربما عمق المكان اعاد الجميع الى عمق الذاكرة التي جادَت بتفاصيل استغرق سردها بعض الزمن الكثير، استمع الجميع لبعضهم تقريبا الى ان جادت قريحة الشاعر بإمكانية خروجهم للساحة رفقة رفيقه الفيلسوف، والعجيب ان اسميهما شَكّلاَ اسماً مقدّسا اذا جمعا في اسم مُرَكّب ولكم ان تتأكدوا من ذلك.
كان الخروج الى الساحة فرصة ليتأكد الجميع من القواسم المشتركة التي جمعت بينهم هنا، وايضاً لإمكانية توجيه بعض الاسئلة الحادة من خلال التدقيق البصري (التَفْنِيصْ) كلاً في الاخر الذي يُمَثّل سؤالا له ولو كان سؤالا قد فات او انه، لكن هذا ما حدث بِلُغة راوي اخر اقصر نفساً.
و لكن.. لقد نسيت ان اخبركم ان معنى الكيان لم تتجاوز إقامته الثلاث اسابيع بعد زيارة الشاعر ورفيقه الفيلسوف والسؤال لماذا؟
رغم عدم اهمية الاجابة على هذا السؤال باعتبار خروج المعنى من المكان شيء جميلا الا ان هناك تخمين يفضي الى خصوصية وضع المعنى وهي انه عبّرَ أمميته من خلال الكيان الوطني الاقليمي دون الاشارة الى براح اكبر وهو في اعتقاد البعض وانا منهم انه أمرّ مشروع ايديولوجيا الى حد كبير فالاشتراكية الوطنية كما عرفها التاريخ الحديث حركة تُوصَف بالوطنية والوطن في الاغلب مُتفق عليه وربما الخلاف حوله في بعض الاحيان.
ايضا وقبل ان امارس المزيد من النسيان فالفيلسوف الذي كانت مهمته تنحصر في الحوار مع جماعة التحرير الاسلامي او الاسلاميين، يبدو انه لم يُدرك تماما هذا الدور الذي كان من الممكن استغلاله بما يُعمق وجهة نظره في الشورى والديمقراطية من خلال حوار اكثر انفتاحاً مع الجميع بغض النظر عن المرجعيات الايديولوجية.
أما الشاعر الذي خصص له الراوي مساحات تنحصر في رصد تجربته منذ ايام الهجرة الى مصر مُعرِّفاً بوالده ونسبه وارتباطه بالطرق الصوفية وحرصه على ان ينال ابنه قدرا من التعليم بأي شكل مما دعاه الى تسجيله في قوائم الجالية السودانية بُغْية الاستفادة المُثلى من قرار الملك فاروق القاضي بأن يدرس ابناء السودان في مصر مجاناً في تعبير مادّي حي على وحدة بلاد النيل وترابط اهلها شعباً وحكومة.
فقد حظيي بقدر من التعليم أهّلَهُ لان يكون داخل الحراك الثقافي منذ تلك الفترة وحتى الآن بل ان الراوي منحه شهادة في غاية الاهمية وهي حضوره الدائم على صفحات الجرائد بشكل يومي احياناً اضافة الى بعض مُجايليه وقد ساعدهم في ذلك تبنيهم لقضايا افريقيا والتمييز العنصري التي كانت على قائمة الاولويات السياسية والانسانية مما مكّنَهُم من الحضور القوي في مُخيلة المناضلين والثوار والقادة وهو ما استفاد منه الفيتوري عندما قامت ثورة الفاتح رغم انه لم يأتي الى ليبيا إلا في عام 1968م حيث كان معروفا لدى قيادة الثورة بمواقفه التحررية وتمجيده للنضال ضد التمييز العنصري فكان ان حظي بمكانة مرموقة منذ ذلك الوقت وحتى الآن وكُلِّفَ بالعديد من المهام التي رفعت من قدره ومكانته ووفرت له طيب العيش والمقام فحقق اسما لامعا لا يكاد ينافسه عليه احد من مجايليه في مجال الشعر وها هو يحضر باستمرار في مخيلة المؤرخين والادباء والسِيِّر والتراجم والرسائل العلمية داخل ليبيا وخارجها.
نعود للراوي محاولين طرح تساؤل منهجي في غاية الاهمية: اعني اللغة التي كتب بها العمل والتساؤلات المطروحة والاستنتاجات وتقييم الاحداث والشخصيات والقدرة الفائقة ضبط الامور، كل هذا، هل كان بإمكانيات الراوي في فترة التجربة أي منذ حوالي خمسة وثلاثين عاما تقريبا أم هي القدرة الآنِية بعمق التجربة السابقة، بمعنى آخر هل هي قدرات الراوي في تلك السن وتلك الفترة أم قدرات اليوم وبالتالي انطباعات وتحليلات واستشراقات اليوم أيضا؟
ارجو ان يكون السؤال واضحاً لكي يستحق الاجابة بعمل ابداعي آخر أتوقع ان يتفرّغ له الشيخ أمين، اللهم اميـن.
لازال في الجُعبة الكثير عن المولد ولازالت القراءة للعمل اكثر مُتعة وأدْعَىَ لتفتيق المزيد من الاسئلة الجادة الباحثة عن اجابات.
عبد اللطيف المتهم بالماركسية رغم انه يقتات على عرق العمّال الذين يعملون في مطبعته والرجل الذي يكتُب باليد اليُسرى وقصة وكالة الأنباء وتأسيسها والسيد شكري!! والطاهر الذي حلَّ على المجموعة دون ان يُفصِح عن اسباب تواجده حتى الصفحة (175) من العمل وما قصة أولاد سيدي ابعيو؟ ولماذا كانوا مَحَطْ اهتمام من الشاعر اكثر من غيرهم؟؟ وهل هي القُرْبىَ أم الغُرْبَةَ؟ وهل كانت هناك تجربة حزبية حقيقية في تلك الفترة والى اي مدى كانت تهمة الانتماء الى اليسار مُخيفة؟ لماذا لم يأتِ ذِكر تفاصيل تُحِيل الى تخمينات أبعد؟ وهل كانت التجربة مُفيدة للسلطة اكثر من ندوة الفكر الثوري مثلا؟ أي هل كان الاعتقال أجدىَ تأصِيلياً من الحوار؟ ولماذا لم يستطع الجميع وعلى كافة المستويات الوصول الى وفاق وطني يَحترِم الفكر بغض النظر عن تمظهراته التي كان من الممكن معالجتها ديمقراطياً؟
وقبل ان اخرج عن الموضوع كعادتي اعود الى عبارة مفصلية في غاية الاهمية تُعَبِّر عن تجربة الراوي (ذلك يعني ان الانسان سيد نفسه ومسؤول عن تصرّفه ويستطيع حيث يُحسِن اختياره ان يؤدي واجبه دون ان يؤذي دون ان يجرح العواطف ولو بالكلمة الحَسَنة فلا مجال للجَبْر ان الانسان قادر على تجاوز الخطاء المقصود وتفادي الامعان في السوء وما من عُذر له في هذه المسألة).
وختاماً لابد من القول بأن تجربة الشيخ أميـن مـازن تستحق بامتياز أن توصًف بالتجربة الصامدة..إنتهى