الشاعر عاشور الطويبي
قراءات

حول تأثيث النصوص الشعرية.. قراءة موجزة في النقد، واختيار النصوص

– قصيدة “صبراته التي أحببت” للشاعر عاشور الطويبي مثالاً –

د. نورالدين الورفلي
محاضر بكلية الفنون والاعلام – طرابلس

الشاعر عاشور الطويبي

للقصائد رونقها وبريقها، في روحها الخفيفة، وإن يكن وزن معانيها ثقيلاً، فهي في أغلب الأحيان تأتي على شكل لمعات وميضية في سياقات وانثناءات مبهرة، يجيزها تمعن خاص في علاماتها، لمجرد النظر في محتواها البلاغي الفياض بالمجاز والإيجاز أيضاً، نظراً لخضوعها للإبداع لا للصنعة الشعرية، وسيكون من المجحف أن نتحدث عن القصائد من منطلق قواعد مدرسية، فأنا لا أميل إلى تقييد الشعر بالذات في أطر وقوالب كان قد صنعها النقاد ووضعوا آلياتها بما يروق لأمزجتهم وأهواءهم، فالشعر أكبر من أن يتقيد، قد يتقيد الشاعر نفسه بأعراف ما، وقد يتقيد بمنظومة أخلاقيه (التزام)، ومن يدري قد يقيد نفسه حتى في منظومة أيديولوجية، هو حر في تقييد نفسه، رغم أن ما يفعله محسوب على القصيدة وكابح لسريانها، ولكن لا يجوز <<للناقد>> شكم حرية المبدع بأي حال من الأحوال، بناءً على القيود المدرسية، فالشعر حالة تتشابه مع الوقوع في “شرك” مصنوع من الحرير رمى الشاعر نفسه عليه دون أن يدري بمكانه، حتى وإن كان المكان، جولة له، في حقل زعفران مترام الأطراف، أو في زنزانة انفرادية، في الحالتين يأتي الشعر، ليس بناءًعلى جانب الصدفة في الواقع، وإنما بناءً على رغبة، ليس للشاعر سيطرة عليها، ولم يرتب لها، لكنها <<رغبة لم تكن رغبة>>، الشاعر يرغب في أن يتخبط ليقول قصيدة، القصيدة تتمنع، الشاعر يغمض عينيه، يضغط بيديه على صدغيه، كما لو أنه يستشعر مكان الصداع، الواقع أنه يستنجد طاحونة دماغه على المساعدة، قبل أن تسحق هلامه الذي استقر في الجمجمة مذ أن كان علقة، ثم تبدأ الكلمات (الموسومة بالعلامات) في التهاطل، حسب قدرات الشعراء من جهة (الخبرة) وحسب تلبس ذواتهم بالنص من جهة اخرى، وهناك حالة ثالثة عرفانية خاصة يصقلها الصفاء في التعامل مع القول الثقيل لا تمنح للكل، مشروطة بالعلامات أيضاً، وخالية من كل تلك المعاناة المادية التي أشرنا إليها، لن يستشعرها حامل النصوص العرفانية، فألم الرأس يحتال إلى ألم روحاني، تهدهده لذة العشق.

والواقع أن تأثيث القصائد، لا يأتي من خلال الكلمات، بل من خلال شفراتها المحتوية على صور، بمعنى أن حالة التأثيث في الشعر، ليست بعيدة كثيراً عن ذائقة بعض الصفوة من مهندسي الديكور أو العمارة، البعيدين عن تمكن الصنعة منهم، والقريبين من ملامسة الإبداع.

قد يتخير الناقد نصوصه المنتقاة بعناية مفرطة، ليشرّحها، لا ليشرحها، ليضع نصاً لها في مقابلها، مشروط بشيئين: (1) السمو بها وعدم وخزها. (2) أن يكون نصه المقابل في مستوى القصيدة، وإن استطاع تَفَوَّقَ عليها، وهذا نادر جداً.  من هنا يجيء في رأيننا تتبع المسارب السليمة لتلاقح الإبداع، فإن جئنا بما يليق فلا بأس وإن لم يكن كذلك، فلنترك الأشياء على حقيقتها، لأن النص (مشروع النقد)، يحتاج من الناقد إلى هدهدة، لا إلى خلخلة، فالنصوص ترتاح في أغلب الأحيان لتنام، لا لتموت بأخطاء التنقيب وهدم المعاول، إنها ستصحوا بعد التنقيب الذي سيأتي على أركيولوجيتها بعد أسبوع من خلقها، أو بعد ألف ألف سنة. قد يتحير البعض في صناعة التاريخ، دون أن يدري أن القصيدة وحدها كفيلة بأن تجعل منه علماً تطبيقياً كالكيمياء تماماً، رغم حيرة العلماء في تصنيف طبيعة التاريخ، إن كان علماً أم ليس علم. النصوص التي تصمد في مواجهة فتات التاريخ، وغباره، هي وحدها التي تنجوا في رأيينا.

وفي المقابل، حتى وإن أردنا تخليد بعض النصوص بالقوة، وحفظناها في قمقم مقاوم لكل أهواء الطبيعة وتغيراتها، سيأتي ذات زمن إن بقيت الحياة، وبقى من ينقب، سيأت ذات زمن ليجدها متخصص في الأركيولوجيا، وسيشم رائحتها، وسيدرك أنها محفوظة بالقوة من جهة، وأن كلامها ملؤه الفراغ بلا معنى، وسيحل عليها الرباط، ويتركها عرضة للماء يمحوها، لأنه استدرك هو الآخر، عدم جدواها فأهداها لأخطبوط.

بقى أن أشير إلى شيء في غاية الأهمية فيما يخص التحليل، في النصوص ذات العبق الممتلئة بوداعات التاريخ، لست من هواة تفكيك كل بيت على حدة وشرحه، سأترك القصيدة تسبح بلا هوادة، في لمعانها، دون الحاجة إلى تجزئتها في كل مرة، فلقد اخترت منها ما يروق لذائقتي، فالنقد في رأينا قد يتكاثف، بمجرد النظر في قصيدة تخلق بين طياتها، قارئ معاضد يكتفي بسماعها “سيمفونية بصرية”، معجونة بالحنين ومؤثثة بالأثر:

صبراتة التي أحببت
عاشور الطويبي

لأني مضيتُ بعيداً عنها
ما زلت أحمل في جيب قميصي غسقها القرمزي.
منذ الألفية الأولى قبل الميلاد،
الحلازين تصعدُ ذات التلّة ،
ترتاحُ قليلاً في مذبح الآلهة
تراقبُ قرص الشمس يميل على الماء.
عليّ أن أسابقها قبل أن تسحب جنودها الأشداء
إلى الأجراف الحادّة الصلبة
عليّ أن أفتح شرفاتها للزنبق البري
وأستنشق دفقات عطرها
عليّ أن أمرّر للقالق المنتظرة على الشطّ
كلامّ النخيل
هل كنت حقا أفهم صبراتة؟
كانت فيّ بعض يفاعة طاهرة
لذا وقفت أغلب مساءاتها مواجها البحر بوجهي الرصين الصامت.
أسأل:
بأيّ لغة أدفن بيض المخيلة
في رحم هذا الكائن المراوغ؟
بأيّ أصابع أتحسّس جسدَ بحرها؟
بأيّ دسيسة يتقلّب النهار على عتباتها؟
من سقف بيوتها تتسلّل رائحة فلفل حار
من غدامس يفوح بخور العرائس النائمات
من مرزق يتقدم السقاة والخبازون، تلمع عيونهم بالفرح
من المرج تنوح البغال بزكائب الشعير
ومن سيلين عنب وخمر ملكي.
الأنبياء الواقفون على الطرقات حروف لينة على لسان سهو.
كأنّي مثلها أكتب قصائدي بحجارة قديمة
أقتنص من يد الزمان ضحكة متعّجلة
أو وشوشة حارقة.
صبراتة
عصيّة، تقيّة.
صبراتة ابنة البحر،
صخبه، جنونه.
من فوق أكتاف الريح
تبارك إنحناءة الخريف على رمّان أحمر.

_________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

الحُلم في “زَهرةِ الرِّيح”

يونس شعبان الفنادي

المصراتي جاداً في ذروة سخريته

سالم العوكلي

محمد العنيزي… عن المدينة والبحر وقصص من بنغازي (1)

سالم قنيبر

اترك تعليق