من أعمال التشكيلية سعاد اللبة
قصة

الوزرة

من أعمال التشكيلية سعاد اللبة

جدتي التي ولدت في نهاية القرن التاسع عشر عاشت وتزوجت وانجبت جميع أولادها في بيت شعر بوادي (نفد)، لم تسمع طيلة حياتها عن (سيجموند فرويد) ولا عن نظرية التحليل النفسي أو الحيل الدفاعية لكنها اكتشفت (الوزرة) كأهم ميكانزم دفاع لا تتوقف حدوده عند القدرة على التكيف مع قسوة الحياة، بل تمتد إلى حد تحويلها إلى جمال وعشق وألق وبهاء.

الوزرة ليست مجرد منديل أحمر طويل مزركش بدوائر صفراء تلفّه المرأة في بني وليد على رأسها على شكل لفافة بارزة، قد تعلق على ناصيتها نجمة كبيرة من الفضة، ذلك المنديل له أسرار مهيبة وقصص عجيبة، فإذا أرسلت المرأة وزرتها إلى رجل تحبه وجب عليه أن يحارب العالم من أجلها، وإذا تعرضت النزلةُ للغزو ترفع إحدى النساء وزرتها على عصاً بارزة، ذلك كافٍ ليشحذ همم الرجال ويشتد وطيس القتال.

ويعتبر التلويح بالوزرة بمثابة قسم على رؤوس الأشهاد، حتى أنه من العادات المعروفة في لحظة وصول العروس إلى بيت الزوجية، تخرج لاستقبالها أخت العريس أمام البيت، وتحمل في يدها وزرةً تلوح بها مثل العلم، وتترنم بالأهزوجة المعروفة: (مرحبا يا لافية)، يعد ذلك بمثابة عهد على حسن العشرة والمعاملة، وإذا أرادت العروس اختبار كرم عريسها ترسل له وزرتها مع أحد الأطفال، فما عليه إلا أن يعيدها مملوءة بالحلوى والبسكويت والنقود.

كنت وأنا ألمح الوليديات منهمكات في حياكة الوزرة أشفق عليهن من مشقة هذا العمل وأتعجب لصبرهن الهائل على هذه العملية المرهقة الطويلة لكنني أحسب الآن أن مدارس التحليل النفسي يجب أن تعتمد عملية (التصرير) أسوةً بعمليات التقمص والإبدال والتبرير. إذ أن التصرير هو أنجع وسيلة لتوديع أوزار النفس من ألم وقلق وضغينة وهزيمة، وعملية فك التصرير هي إعلان عن مولد الفرح وتحرر المشاعر وموسم البوح والدلال.

قبل أن تخرج الوزرة في شكلها البديع تمر على مراحل طويلة، تبدأ منذ اختيار قطعة من جرد بائد قد استغني عنه أحد الرجال لتمزقه أو لبهتان لونه، وبعد أن يتم غسله بالصابون (السوسي) الذي يخبأ لحين هذه المناسبة، تقوم النساء قريبات صاحب الجرد باقتسامه بينهن بعد قصِّه إلى مستطيلات لا يقل طولها عن متر وعرضها عن نصف متر وتسمى هذه القطعة (الطرف).

تبدأ عملية صباغة الطرف بغمره في قدر الماء المغلي والمضاف إليه مسحوق الصبغة الصفراء. وبعد تجفيفه، تفرد المرأة الطرف على ركبتها وتشكل منه صرة صغيرة بحجم حبة الذرة، وتلف حول عنق الصرة لفة محكمة من خيط (السباولو) القوي، ثم تشد رأس الصرة بأسنانها وتلف لفة أخرى أكثر قوة وإحكاماً، تنتقل لتشكيل صرة أخرى ملاصقة للصرة الأولى مع شد الخيط مرة بإصبعها ومرة بأسنانها.

كل صرة تصرها، تبث بداخلها وزر معاناتها وهمومها، وتهمس بشكواها وتدس لواعج مكنونها، قد يكون همها من زوج جافٍ أو مال غير كافٍ، وقد يكون من دين تعسر قضاؤه، أو مريض تأخر شفاؤه، أو حبيب تعذر لقاؤه. وحين تتكاثر الصرر تأخذ تلقائيا مساراً دائرياً يتحول إلى حلقات متداخلة تتشكل من مئات النتوءات الصغيرة المنتفخة بأوزار الهموم والأحزان.

حين الانتهاء من التصرير يغمر الطرف في قدر يفور بالصبغة الحمراء، وبعد تجفيفه جيدا في الشمس، تقضُّ المرأةُ خيطَها فتتضح مكانه دوائر صفراء صغيرة بعد أن حجب الخيط وصول الصبغة الحمراء إلى تلك المنطقة، وأثناء عملية تحرير الصرر تشعر المرأة بالتحرر من العقد الدفينة، ويغمرها روح من الطمأنينة وخدر من السكينة فتعانق وزرتها عناق صديقة حميمة أورفيقة كتومة.

مقالات ذات علاقة

السيارة الصفراء

سعاد الورفلي

المهندس العبقري

فهيمة الشريف

الحلم الذي ينأى

فتحي نصيب

اترك تعليق